كلما تتبعنا خطابا ملكيا إلا وشعرنا بالأمل ينبض بداخلنا من جديد. أذكر الخطابات الأولى لعاهل البلاد وهو يحثنا على بناء هذا الوطن. وقد كان صادقا وأمينا وعمَليا حينما قال إنه لا يتوفر على عصا سحرية تغير وضعية البلاد بضربة واحدة، لكنه يحمل مشاريع كبرى وأوراشا ضخمة وتصورا حديثا لمشروع المجتمع الحداثي والديمقراطي، من أجل تشييد دولة عصرية متضامنة، مع الحفاظ على ثوابت الأمة من إسلام وملكية ووحدة ترابية.. وفعلا، التزم قائد البلاد بوعوده لشعبه وقاد ثورة هادئة من أجل الإصلاح وزرع روح المواطنة، وهو يتنقل عبر أرجاء المملكة من شمالها إلى جنوبها، وظل وفيا لكل خطاباته التي انتفضت على لغة الخشب والتعابير المناسباتية وأصبحت مرجعية للقرارات والأهداف والأولويات التي يجب على الحكومة والبرلمان والمجتمع المدني الالتزام بتطبيقها من أجل بناء دولة الحق والقانون دون تباطؤ أو إهمال كما جاء في أول خطاب للعرش والذي ألقاه الملك يوم 20 غشت 1999. ورغم أن الملك كان يعلم أن حلمه ببناء مغرب جديد لن يكون سهل التحقيق، فإنه ظل متمسكا بورشه الكبير في الإصلاح والدفاع عن الوحدة الترابية وتدعيم حقوق الإنسان والحريات وإعلان المبادرة الوطنية للتنمية البشرية وإصلاح التعليم والأسرة والقضاء وغيرها.. لكن.. لماذا يدعو الملك إلى إصلاح التعليم، ونراه في تراجع؟ لماذا يحث الملك على إصلاح القضاء، ونراه في فساد؟ يصر الملك على الاهتمام بمدونة الأسرة، ونراها في تفكك؟ يؤسس الملك مشاريع للمواطنين من ماله الخاص، وينهب آخرون أموال المواطنين من ثروات البلاد؟ لماذا يفتتح الملك مشاريع كبرى في واضحة النهار، وتغلق في الخفاء حينما يحل الظلام؟ لماذا يمشي المغرب بوتيرتين، يحمل شعارين، يتبنى فلسفتين: الهدم والبناء، الخيانة والوفاء، الجريمة بلا عقاب.. كل الخطابات الملكية خصصت حيزا هاما لإصلاح القضاء، وخطاب كامل تطرق لضرورة تحقيق العدالة وإعادة الثقة في القضاة.. دون جدوى، بل على العكس تماما.. تتأزم الأوضاع وتتردى ويزداد حنق الناس وغضبهم ويأسهم وفقدانهم للثقة في الحاضر والمستقبل والوعود والأحلام.. «إن العدالة، كما لا يخفى، هي الضامن الأكبر للأمن والاستقرار والتلاحم الذي به تكون المواطنة الحقة. وهي، في نفس الوقت، مؤثر فاعل في تخليق المجتمع وإشاعة الطمأنينة بين أفراده، وإتاحة فرص التطور الاقتصادي والنمو الاجتماعي وفتح الباب لحياة ديمقراطية صحيحة تمكن من تحقيق ما نصبو إليه من آمال»، هكذا قال الملك في خطابه الموجه إلى المجلس الأعلى للقضاء قبل عشر سنوات. ما النتيجة، إذن؟ الكل يعرفها.. لماذا لا يتم تفعيل قرارات الملك، وتطبيق ما يسطره في خطاباته؟ لماذا لا يطبق مسؤولو الأمة التزاماتهم نحوه ونحوها؟ ثم لماذا يظلون في منأى عن العقاب حينما يخِلّون بواجباتهم نحو الوطن والشعب؟ كل هذا التحامل على الصحفيين من أجل إسكاتهم وإقبار مشاريعهم الإعلامية، أليس الأجدر بهؤلاء «الأقوياء» أن يحاسبوا ويحاكموا كل الذين تعاقبوا على المجالس القروية والحضرية وعلى كراسي البرلمان والوزارات والمفتشيات واللجن الصغرى والكبرى ونهبوا الميزانيات وامتصوا دم المغاربة إلى آخر قطرة، حتى أصبح الناس في الشوارع هائمين كالأموات؟ جرائم دون عقاب ولصوص بربطات عنق يقتسمون الوطن كقطعة حلوى دون سؤال أو لوم أو وخز ضمير أو حساب، لا أحد يثنيهم عما يقترفونه من جرائم في حق البلاد والعباد، كل من انقض على منصب يقتفي آثار غيره ويتبنى سياسة النهب والاختلاس وهو مطمئن البال، لأن لا جزاء ولا عقاب، حتى أصبح الأمر عاديا، بل كأنه حق مشروع كالرشوة التي نتصدر بها قائمة «الإنجازات». أحيانا، لا تعبر الكلمات عن الأفكار ولا عن النيران المشتعلة في الفؤاد ولا عن اليأس المرير ولا عن الخوف الخفي من مستقبل غامض مجهول.