سال مداد كثير حول الأحزاب السياسية المغربية من حيث نشأتها وقواعدها وزعمائها وإيديولوجياتها، ومشروعها المجتمعي وانشقاقاتها، ووضعها الداخلي، وبرامجها الانتخابية، وسلوكات مناضليها، وحملاتها الانتخابية... في ثنايا هذه الكتابات يكاد يجمع أصحابها على أن المشهد الحزبي المغربي ليس على أحسن ما يرام، ولم تعد تؤد هذه الأحزاب وظيفتها كما ينص على ذلك الدستور المغربي، وذهبت بعض الآراء إلى أن الأحزاب السياسية لم تعد سوى دكاكين مهجورة، لا تسمع بها ولا ترى رموزها وزعمائها إلا عند اقتراب الانتخابات، ولم تعد تصنع الحدث ولم تعد لها جاذبية خطابا وإيديولوجية وبرنامجا، فتحولت وظيفة العمل السياسي بصفة عامة والانتماء الحزبي بصفة خاصة إلى مجال وفرصة للبعض للاسترزاق والتكسب ونيل الحظوة واستغلال النفوذ.. ثمة جملة من العوامل والأسباب المختلفة والمتنوعة التي أدت إلى الوصول إلى هذا الوضع المتردي الذي يتداخل فيه ما هو موضوعي بما هو ذاتي، رغم ذلك، لا يجب أن ننسى بعض الفترات الزاهرة لبعض الأحزاب السياسية المغربية يوم كانت ملتحمة بهموم الشعب، وذات رؤية سياسية متكاملة. لعل من السمات المميزة للنظام السياسي المغربي، أنه نظام يجدد حقله كلما شعر بانسدادت، وظلت الأزمات تصاحبه منذ نشأته، لكن كان دائما يخرج منها بسلام، والأزمات السياسية بالنسبة إليه مصدر قوة، وحتى إذا لم توجد يبحث عنها أو يتم صنعها. من أبرز المنعطفات التي عرفها المغرب في تاريخيه السياسي، (فضلا عن حدث المسيرة الخضراء، بناء السدود، التعددية الحزبية...) انجاز التناوب التوافقي وحصول تفاهم بين المعارضة اليسارية والملك الراحل الحسن الثاني، تحقيقا للانتقال الديمقراطي، وقد تحقق مع حكومة اليوسفي، لكن -مع شديد الأسف- الانتقال الديمقراطي الذي لم يكتمل، وبذلك دخل المغرب في منعطفات ومنعرجات أخرى. ومما زاد الأمور تعقيدا في البلاد؛ فشل اليسار المشارك في الحكومة والذي سير عدة قطاعات لم يكن أداؤه مرضيا، بحجم ما كان ينادي به من إصلاحات عميقة، وخاب أمل المواطن المغلوب على أمره، فاحتج بطريقته الخاصة بعزوفه عن المشاركة في الانتخابات . لقد شهد ما سمي بالعهد الجديد تحولات ضخمة ودينامية جديدة، نفخت روحا جديدة في الحياة السياسية، وفتحت أوراشا تنموية لرفع قاطرة التقدم والازدهار إلى الأمام. ومما ميز العشرية الأولى لهذا العهد أيضا وجود فصيل إسلامي مشارك في الحياة السياسية هو حزب للعدالة والتنمية، وقد تم استيعابه ضمن حدود مرسومة، ساهم في هندسة هذا الولوج المرحوم عبد الكريم الخطيب. وجد هذا الحزب الساحة فارغة من أي منافس سياسي اللهم أصحاب الأموال أو سماسرة و تجار الانتخابات، فاحتل المراتب الأولى في الأوساط الحضرية، ربما الحزب الوحيد المنظم والمهيكل، ولا يزال في الصدارة مع تراجع بدأ يلوح في الأفق (انتكاسة الانتخابات البرلمانية 7 سبتمبر 2008). ومن أجل الحفاظ على التوازنات السياسية في البلاد، وخوفا من انفراد طرف سياسي بالسلطة، بادرت الدولة –كما راج ساعتها- بإعادة إنتاج نموذج "الفيديك" وازدانت الحياة السياسية بمولود "حزب الأصالة والمعاصرة"، فأصبح المشهد الحزبي الجديد مؤثثا "بحزب للدولة" الذي تم التمهيد له بجمعية لكل الديمقراطيين، وقد أثار هذا الحدث، "الوافد الجديد" جملة من المواقف بين مؤيد ومعارض و متحفظ. اعتبرت بعض النخب السياسية أن هذا الحزب جاء لتمييع الحياة السياسية، وقد دعا البعض إلى تكثل من أجل الدفاع عن الديموقراطية، وأعتبره البعض الآخر فرصة لتحريك الحياة السياسية من الجمود والرتابة واستقطاب الكفاءات الشابة.. كما وصف القيادي الاتحادي الأستاذ حسن طارق بأن PAM يعتبر" traitence" الدولة، لكن زميله في الحزب إدريس لشكر بعد الاستوزار صرح بأن هذا حزب له مشروع ومن حقه أن يدافع عنه، ويستعمل كل الوسائل من أجل تحقيق ذلك، بعدما أطلق عليه "الوافد الجديد" وذلك قبل الاستوزار. يعتبر PAM نفسه حزبا سياسيا حداثيا ديمقراطيا، لكن الملاحظ أن ممارسته السياسية الأخيرة لا تعكس ذلك، بحيث كشفت بعض قيادة البام عن بعض أهداف الحزب/ النوايا الحقيقية التي تتمثل في مواجهة الإسلاميين "الظلاميين" ومحاصرتهم، ومن مؤشرات ذلك تدخلاته أحيانا المباشرة وغير المباشرة للتأثير على بعض التحالفات التي كان حزب PJD على وشك انجازها في أكثر من موقع/مدينة،( بعد الإعلان عن نتائج الانتخابات المحلية الاأخيرة2009)، وغيرها من الأحداث، فهم على إثرها حزب PJD من الوهلة الأولى بأنه مستهدف. وبدا واضحا أن المغرب مقبل على مرحلة أخرى أو زمن آخر يراد منه التمكين السياسي للبام، وقد ظهرت مؤشرات هذا التغيير قبيل انخراط البام في الانتخابات المحلية الأخيرة؛ حيث قامت الدولة بتعديلات قانون التقطيع الانتخابي، وواضح أن المستهدف من هذه العملية كان PJD، ثم الحملة الشرسة حول عمدة مكناس السابق ومحاولة تشويه حصيلته على المستوى الإعلامي، بدعوى حدوث تجاوزات واختلالات في تدبيره الشأن المحلي.. وفي الآونة الأخيرة ركزت البرامج الحوارية والسياسية في القناتين الأولى والثانية على تواجد واستدعاء البام و البجيدي؛ تبين أن البام يريد أن يسوق لنفسه صورة ذلك الحزب الذي سينقذ البلاد والعباد، وأنه الحزب المتماسك تنظيما وإيديولوجيا، وركز في خطابه السياسي على مقولة الحداثة، رغم أنه بعيد عنها، فالحداثة ليست قولا بالكلام، وإنما فعل بالممارسة. ويبدو أنه ماض في استدراج PJD إلى نقاشات فارغة ومعارك هامشية، وقد نبه وأشار إلى ذلك رئيس حركة التوحيد والإصلاح العمود الفقري PJD في مقالة منشورة في موقع الإصلاح (الإسلاميون في مواجهة معارك الاستنزاف المنهكة). من خلال هذا العرض السريع لهذه الأحداث، رغم أن تفاصيلها لا تخفى على المتابع للشأن السياسي المغربي، قصدنا هو طرح تساؤلات تأملية حول ملامح مستقبل الخريطة السياسية بالمغرب. رغم وجود هذا الحراك السياسي في شقة الحزبي؛ فإنه بنظرنا لا ينتج شيئا على مستوى الواقع، ولا يلبي حاجيات المواطنين الآنية في الشغل والعيش الكريم، والحرية...، ولا يضيف للحياة السياسية شيئا، ولا يزيد من منسوب الدمقرطة، ناهيك عن الرقي بالثقافة السياسية؛ فالصراع الثنائي بين PAM و PJD بنظرنا هو صراع مصنوع ومفبرك. بدليل أنه لم يأت نتيجة جدل الواقع، ويصعب على المتتبع أن يصنف هذا الصراع ضمن خانة ما هو إيديولوجي أو مرجعي، أو بتعبير آخر صراع سياسي قائم بين مشروعين حقيقيين، البام حزب يريد امتلاك السلطة خدمة لمصالحه وأهدافه، كما أن البيجيدي يطمح إلى ذلك، ليس هناك صراعا حول مشروعين متمايزين، فكلاهما يزايد على الآخر بقربه ووفاءه لمشروع الملك، ثم إن البام توسل بكل الأدوات بغية إيجاد مكانة له داخل المشهد الحزبي والتطبيع مع مكوناته . يعتقد حزب "البام PAM " أن الهجوم على " البيجدي PJD" سيحقق هدفه في عزله وحصر رقعة نشاطه السياسي، وثنيه عن قناعاته أو التراجع عن خياراته أو الحد من امتداده الأفقي، وهو بهذه النظرة يكون قد قفز عن التاريخ. الملاحظ أن "الحركة/الأحزاب الإسلامية" حيثما تجابه بحملة مكثفة وشرسة –ومدروسة طبعا- تقوم برد فعل داخلي يكمن في روح، الصمود ومزيدا من التجذر والانتشار والانتصار. تخيلوا معي PAM و PJD إذا أرادا حسم خلافاتهما بالاحتكام إلى الشارع، فمن سينتصر ومن هي القواعد التي تكون أكثر استجابة "وتنظيما"؟ وأحسب أن البام إذا تمادى في رفع إيقاع الصراع إلى مداه ودخلت بعض الخلافات حول مظاهر التدين والدين على الخط، لا يستبعد تكرار تجربة الصراع حول خطة إدماج المرأة. قبل أن نتساءل لابد من الإقرار بأن كلا الطرفين PAM و PJD لهما نقط ضعف، أهمها –بنظرنا- الفراغ الفكري والمعرفي الذي يؤسس لفعل سياسي معقلن وتحت مشروع مجتمعي حقيقي، لو أنتج كل منهما أفكارا سياسية جديدة وجادة، لأفرزت لنا صراعا سياسيا حقيقيا. بعيدا عن الخطب الشعبوية أو المزايدات الزائفة والمهاترات الإعلامية ولعل أحسن ما قدماه هو مجرد شعارات تحتاج إلى محتوى، الأول ركز على مقولة الحداثة، والثاني على تخليق الحياة السياسية. على ضوء ما سبق، وبحكم الواقع والمنطق والسيرورة التاريخية، هل يمكن للمغرب كبلد له موقع استراتيجي، أن تكون حياته السياسية بدون الإسلاميين؟ وهل الإبعاد والتهميش ودفع PJD للانكفاء والعزلة سيفيد الدولة مستقبلا؟ هل تريد الدولة الإبقاء على ورقة الإسلاميين في الظروف الحالية خوفا من أن تحترق قبل أوانها في حالة ما وصلوا إلى الحكم؟ أم التوجس من أن تتجذر القاعدة الشعبية في حالة ما إذا نجحوا في تدبير إحدى الوزارات؟ أم انتظار الضوء الأخضر من الجهات الخارجية لدفعهم للمشاركة في الحكم لاسيما أن بعض التقارير الأمريكية تشيد بتجربة PJD في التسيير المحلي أو من باب اختبار الإسلام المعتدل في السلطة؟ قد تكون الرغبة في إبعاد وإضعاف PJD من قبل السلطة الحاكمة ظرفية أكثر منها استراتيجية. ربما تستنفذ تجربة البام غرضها ثم بعد ذلك قد يأتي الدور PJD، طالما أن اليسار المغربي ما زال لم يستجمع قواه ويجدد رؤاه.