حقائق وشهادات حول قضية توفيق بوعشرين مع البيجيدي: بين تصريحات الصحافي وتوضيحات المحامي عبد المولى المروري    دراسة تكشف آلية جديدة لاختزان الذكريات في العقل البشري    التجمع الوطني للأحرار يثمن المقاربة الملكية المعتمدة بخصوص إصلاح مدونة الأسرة    حصيلة سنة 2024.. تفكيك 123 شبكة لتنظيم الهجرة غير النظامية والاتجار في البشر    الدكتور هشام البوديحي .. من أحياء مدينة العروي إلى دكتوراه بالعاصمة الرباط في التخصص البيئي الدولي    الدورة ال 44 لمجلس وزراء الشؤون الاجتماعية العرب بالمنامة .. السيد الراشيدي يبرز الخطوط العريضة لورش الدولة الاجتماعية التي يقودها جلالة الملك    قيوح يشرف على تدشين المركز اللوجيستيكي "BLS Casa Hub" بتيط مليل    فرض غرامات تصل إلى 20 ألف درهم للمتورطين في صيد طائر الحسون بالمغرب    38 قتيلا في تحطم طائرة أذربيجانية في كازاخستان (حصيلة جديدة)    الدفاع الحسني يهزم الرجاء ويعمق جراحه في البطولة الاحترافية    رحيل الشاعر محمد عنيبة أحد رواد القصيدة المغربية وصاحب ديوان "الحب مهزلة القرون" (فيديو)    المهرجان الجهوي للحلاقة والتجميل في دورته الثامنة بمدينة الحسيمة    انقلاب سيارة على الطريق الوطنية رقم 2 بين الحسيمة وشفشاون    المغرب الرياضي الفاسي ينفصل بالتراضي عن مدربه الإيطالي غولييرمو أرينا    رئيس الرجاء يرد على آيت منا ويدعو لرفع مستوى الخطاب الرياضي    الإنتاج الوطني من الطاقة الكهربائية بلغ 42,38 تيراواط ساعة في متم 2023    تنظيم الدورة السابعة لمهرجان أولاد تايمة الدولي للفيلم    الندوة 12 :"المغرب-البرتغال. تراث مشترك"إحياء الذكرىالعشرون لتصنيف مازغان/الجديدة تراثا عالميا. الإنجازات والانتظارات    حركة حماس: إسرائيل تُعرقل الاتفاق    أخبار الساحة    الخيانة الزوجية تسفر عن اعتقال زوج و خليلته    روسيا: المغرب أبدى اهتمامه للانضمام إلى "بريكس"    عبير العابد تشكو تصرفات زملائها الفنانين: يصفونني بغير المستقرة نفسياً!    السعودية و المغرب .. علاقات راسخة تطورت إلى شراكة شاملة في شتى المجالات خلال 2024    برلماني يكشف "تفشي" الإصابة بداء بوحمرون في عمالة الفنيدق منتظرا "إجراءات حكومية مستعجلة"    الريسوني: مقترحات مراجعة مدونة الأسرة ستضيق على الرجل وقد تدفع المرأة مهرا للرجل كي يقبل الزواج    التنسيق النقابي بقطاع الصحة يعلن استئناف برنامجه النضالي مع بداية 2025    تأجيل أولى جلسات النظر في قضية "حلّ" الجمعية المغربية لحقوق الإنسان    بعد 40 ساعة من المداولات.. 71 سنة سجنا نافذا للمتهمين في قضية "مجموعة الخير"    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الخميس    ابتدائية الناظور تلزم بنكا بتسليم أموال زبون مسن مع فرض غرامة يومية    جهة مراكش – آسفي .. على إيقاع دينامية اقتصادية قوية و ثابتة    برنامج يحتفي بكنوز الحرف المغربية    بورصة الدار البيضاء تستهل تداولاتها بأداء إيجابي    مصرع لاعبة التزلج السويسرية صوفي هيديغر جرّاء انهيار ثلجي    نسخ معدلة من فطائر "مينس باي" الميلادية تخسر الرهان    لجنة: القطاع البنكي في المغرب يواصل إظهار صلابته    ماكرون يخطط للترشح لرئاسة الفيفا    بطولة إنكلترا.. ليفربول للابتعاد بالصدارة وسيتي ويونايتد لتخطي الأزمة    نزار بركة: 35 مدينة ستستفيد من مشاريع تنموية استعدادا لتنظيم مونديال 2030    مجلس النواب يصادق بالأغلبية على مشروع القانون التنظيمي المتعلق بالإضراب    مجلس النواب بباراغواي يصادق على قرار جديد يدعم بموجبه سيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية    باستثناء "قسد".. السلطات السورية تعلن الاتفاق على حل "جميع الفصائل المسلحة"    تقرير بريطاني: المغرب عزز مكانته كدولة محورية في الاقتصاد العالمي وأصبح الجسر بين الشرق والغرب؟    تزايد أعداد الأقمار الاصطناعية يسائل تجنب الاصطدامات    مجلس النواب بباراغواي يجدد دعمه لسيادة المغرب على صحرائه    ضربات روسية تعطب طاقة أوكرانيا    وزير الخارجية السوري الجديد يدعو إيران لاحترام سيادة بلاده ويحذر من الفوضى    السعدي : التعاونيات ركيزة أساسية لقطاع الاقتصاد الاجتماعي والتضامني    ارتفاع معدل البطالة في المغرب.. لغز محير!    طبيب يبرز عوامل تفشي "بوحمرون" وينبه لمخاطر الإصابة به    ما أسباب ارتفاع معدل ضربات القلب في فترات الراحة؟    "بيت الشعر" يقدم "أنطولوجيا الزجل"    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أزمة القراءة في المغرب.. هل هي قدر مقدور؟!
نشر في المساء يوم 20 - 05 - 2015


نجيب العوفي
كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن عزوف المغاربة بمختلف أعمارهم وأقدارهم ومشاربهم عن القراءة وقلة احتفالهم بثمرات المطابع والورق المطبوع، إلا لأغراض مادية ونفعية صغيرة، كَلَفّ حوائج وأشياء ومسح زجاج وواجهات، وما شاكل ذلك من الأغراض النفعية البعيدة تماما عن هاجس القراءة وهمّ الثقافة والمعرفة، التي من أجلها كان ذلك الورق المطبوع، ومن أجلها خرجت ثمرات المطابع على الناس لتكون غذاء للعقول وريّا للنفوس.
يأتي هذا العزوف في سياق تحولات عميقة وسريعة متواترة هزت بنية المجتمع المغربي بقوة وعلى كافة الصعد والمستويات، وخلخلت كثيرا من التقاليد والأعراف والطقوس التي كانت ثابتة لا تريم.. تحولات يمكن القول بأنها كانت لواحة للقيم والبشر، لم تبق ولم تذر، بما يجعل إيقاع التحول هنا راجحا على إيقاع الثبات، سياسيا واجتماعيا وثقافيا.
ولنكن هنا صرحاء، فإن المغرب تاريخيا لم يكن مجتمعا قارئا بالمعنى العميق لهذه الكلمة، ولم تكن القراءة تقليدا وسنة إلا لدى نخبة أو صفوة محدودة ومعدودة من المتعلمين والفقهاء والعلماء، أما سائر المجتمع وهم السواد الأعظم والأغلب الأعم، فهم غارقون في ليل الأمية مستطيبون النعاس على خدرها.
وما يزال المغرب إلى الآن، يتصدر لائحة الدول العربية التي تشكل مرتعا خصبا ورحبا للأمية الألفبائية… ومن «ديمقراطية» هذه الأمية، فإن أعضاء كثرا من نواب الأمة في البرلمان المغربي، هم أميون صناديد، لا علاقة لهم بالقراءة والكتابة.
وذو العقل يشقى في النعيم بعقله/ وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم.
و«ما في الهم غير اللي كيفهم..» كما في المثل الدارج.
المغرب، إذن، مجتمع لا يقرأ، إلا من رحم ربك.. أو لنقل إن المغرب مجتمع شفوي، يقرأ بالأذن لا بالعين، ويعتمد على اللسان أكثر من اعتماده على القلم والبيان.. ولنكن صرحاء مع أنفسنا مرة أخرى، فالقراءة الأساسية التي تحسب للمغاربة عبر عصورهم، هي قراءة القرآن. فهي القراءة التي تتملك نفوسهم وأسماعهم وألسنتهم في الحواضر والبوادي، وفي الغدو والآصال، وأستحضر هنا رأيا سابقا للباحث عبد الكبير الخطيبي، يعزو فيه شحوب الإبداع الأدبي في المغرب إلى أن المغرب مجتمع فقهاء أكثر مما هو مجتمع أدباء وشعراء.
مع ذلك، تصادفنا الآن، في مغرب اليوم، ظاهرة مفارقة تدعو للدهشة والسؤال، وهي ازدهار الكتابة والكتاب، وانحسار القراءة والقراء، علما بأن القراءة والكتابة وجهان لعملة واحدة، وأن الكتابة هي استجابة لأفق انتظار القراءة والقراء، وأن القراءة هي الحياة الفعلية للكتابة.
لكن ما نراه هو العجب ذاته… كتاب وكاتبات يتكاثرون عددا، وقراء يتراجعون ويقلون عددا.
وكأن ما يكتبه الكتاب والكاتبات، هنا، هو مجرد حبر على ورق أو صيحة في واد.. وأنا أعرف كتابا يكتبون أكثر مما يقرؤون، علما بأن القراءة هي سماد وسناد الكتابة، والكاتب الجيد هو بالضرورة قارئ جيد، أو هو محصلة وخلاصة لآثار أقدام الآخرين، حسب تعبير جوليا كريستيفا .
ولقد تحدثت قبل قليل عن الأمية الألفبائية الضاربة أطنابها وسط المجتمع، وأراني مسوقا، هنا، لأشير إلى ضرب ثان ومهم من الأمية، وهي الأمية الثقافية.
وأعني بها أمية المتعلمين والمثقفين. أعني بها انقطاع هؤلاء عن القراءة والمطالعة والمراجعة، واكتفاءهم بما قرؤوا وحصلوا، لا يغادرون متردمه (أي قديمه) ولا يجاوزون حدوده، علما بأن القراءة الجادة والمثمرة هي آلية مستمرة ودائبة، ولا تعرف التوقف والكسل والفتور لأن المعارف والتجارب والخبرات والمعلومات في حراك دائب ودائم، لا يعرف التوقف والكسل والفتور، لكن المتعلم أو المثقف يطبق صفحات الكتاب ويدعه جانبا، ويستعيض عنه، إن استعاض بنمط آخر جديد من القراءة، هي القراءة الإلكترونية السريعة المتنقلة بين المواقع والمحطات والفضاءات.
وهنا نخلص إلى نقطة حساسة وساخنة بصدد أزمة القراءة في المغرب، وأنا أوثر هنا استعمال كلمة «أزمة» crise.. بدل استعمال كلمة إشكال أو إشكالية problématique، ذلك أن الإشكال يعني مشكلة أو معضلة معقدة تراوح مكانها وتستعصي على الحل، أما الأزمة فتعني مشكلة معقدة أيضا لكنها قابلة للاحتواء والحل.
وقديما قالت العرب: «اشتدي أزمة تنفرجي»… وترتيبا على ذلك أرى أن ظاهرة العزوف عن القراءة في المغرب تشكل أزمة ثقافية واجتماعية قابلة للوصف والتشخيص وسبر عللها وعواملها، واقتراح مخارجها وحلولها، وقد أستبق الأمر هنا، فأدعو إلى خلية بحث في أزمة القراءة في المغرب. ولم لا!
فالقراءة هي ترمومتر دقيق وحساس عن مدى الصحة النفسية والفكرية والحضارية للمجتمع، ومدى انخراطه في عصره ومناخ وقته، ومدى نجاعة ومناعة قيمه الرمزية الإنسانية والأخلاقية.
فليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، وليس بالتكنولوجيا الإلكترونية وحدها يتقدم المجتمع. إذن فلنتقرب أكثر من واقع أزمة القراءة في المغرب ومن الظروف والسياقات المحيطة بها.
وغني عن البيان أن القراءة التي نقصدها هنا هي القراءة الورقية الكلاسيكية، قراءة الكتاب والمجلة والصحيفة، وهي القراءة التي أضحت مهددة الآن من طرف وسائل الإعلام المتطورة كالفضائيات الكاسحة للبيوت وشبكة الأنترنت بخاصة، الكاسحة للشباب، والأنترنت هذا هو الذي سحب البساط من الكتاب وقلص مساحة القراءة إلى أضيق الحدود، حيث صرنا تجاه نمط جديد ومغر من القراءة، وهي القراءة الالكترونية الافتراضية الحرة لكتابة الكترونية افتراضية حرة تتحرك بالأزرار وتتعرض لفيروسات ولا تطلع من الورق الملموس، مثل الرغيف الخارج من الفرن.
القراءة الالكترونية، إذن، عامل أساس في أزمة القراءة في المغرب وبوار سوقها، ومكمن قوة وضعف هذه القراءة ببساطة أنها قراءة الكترونية افتراضية حرة لكتابة الكترونية افتراضية حرة لا تخضع لرقابة نحوية أو صرفية أو بلاغية أو أخلاقية، ولا تلتزم بقيم أصيلة وثابتة. هي كتابة سائبة وقراءة سائبة، بلا ضابط أو رابط. لهذا تفتقد الكتابة – القراءة الإلكترونية البوصلة، كما يفتقد العالم العربي الآن البوصلة، بعد ثورات الفايسبوك التي اندلعت، بدورها، بلا بوصلة.
كان الكتاب عبر الزمان خير جليس وأنيس للإنسان، وقد أصبح الأنترنت، الآن، خير جليس وأنيس للإنسان، وإلى إشعار آخر، ولا ننكر أفضال وفوائد القراءة الإلكترونية من حيث تقديمها المعلومات وتقريبها المسافات وتوفيرها الجهود والوقت، لكنها في التحليل الأخير، قراءة متحررة كما قلت تفتقد البعد البيداغوجي والتعليمي والمعرفي الرصين، وهو البعد الذي توفره القراءة الورقية الطبيعية، حيث تكتسي القراءة متعة أدبية ومعرفية وروحية خاصة.
يضاف إلى ما سبق أن الفضاء الاجتماعي المغربي والفضاء التعليمي المدرسي لا يشجعان على القراءة، ولا يوليانها أدنى اهتمام أو احتفال.
إن أمة (اقرأ) من أسف، لا تقرأ. ثم إن برامجنا التعليمية وأحوالنا المدرسية لا تشجع ولا تحفز على القراءة، ولا تخلق المناخات والأجواء الملائمة للقراءة، المشجعة عليها والمغرية بها.
بعبارة، ليست هناك إستراتيجية جادة وواضحة للتنمية القرائية.
وأظن أن تعاونا وتنسيقا بين وزارة التربية الوطنية ووزارة الثقافة وبعض الجمعيات الثقافية، كاتحاد كتاب المغرب وبيت الشعر ونوادي الثقافة عبر التراب الوطني، كفيل برأب الصدع ووضع خطة منهجية دقيقة ومدروسة لتنمية القراءة وتوسيع رقعتها وترسيخ تقاليدها، وقد قيل إن «الطالب بدون كتاب كالمجاهد بدون سلاح».
من هنا نرى ضرورة أن تقوم البرامج التعليمية في جميع الحقول والمراتب التعليمية باقتراح عناوين للقراءة الإلزامية عبر المسار الدراسي من التعليم الابتدائي إلى التعليم الجامعي، وأن تؤسس وتطور خزانات الكتب وقاعات المطالعة في كل مؤسسة، كجزء أساس من رسالتها التربوية والمعرفية.
ثمة عامل حساس آخر لا ينبغي إغفاله وغض الطرف عنه، في سياق أزمة القراءة، هو اليأس والإحباط والشعور المرير بانسداد الآفاق.
إن كثرة كاثرة من الشباب المغربي والطلبة المغاربة فقدوا الثقة تماما في مصير تحصيلهم ودراستهم وأصيبوا بحالة إحباط تجاه مستقبلهم، وفقدوا بصيص الأمل وهم يشرئبون للغد المجهول، وما أضيق العيش لولا فسحة الأمل.
ومن ثم لم تعد القراءة تشكل هاجسا أو شاغلا لهم، ولا متعة أو أنسا لهم، إذ أصبحت عندهم صيحة في واد ونفخا في رماد، إن لم أقل مضيعة للوقت والجهد، و المفارقة هنا أن حالة الإحباط واليأس هذه أثمرت نمطا جديدا وشعبيا من القراءة في أوساط المتعلمين ينحو منحيين: المنحى الأول، قراءة الكتب الدينية – البراقة لا الصفراء كهروب إلى اليوتوبيا الإسلامية وعالم الغيب، والتماسا للفرج بعد الشدة، كهروب من الدنيا إلى الآخرة ومن العاجلة إلى الآجلة.
والمنحى الثاني قراءة جرائد الرصيف المغربية، المهتمة بفضائح وأسرار السياسة والمال والجنس وجرائم المجتمع في ليالي بؤسه ومعاناته وعنف مهمشيه وعاطليه.
والمشهد الإعلامي المغربي المكتوب في هذا المجال يحقق الرقم القياسي في كثرة الصحف والجرائد اليومية من كل لون ومشرب ومنزع، ما جد منها وما هزل، ما حسن منها وما ابتذل..
والقراءتان معا، قراءة الكتب الدينية وقراءة جرائد الرصيف، تجسدان في المحصلة قراءة تعويضية – هروبية، تضاعف من أزمة القراءة وتوسع الخرق على الراتق، كما يقال.
ولا نريد من قبل ومن بعد أن نحمل مسؤولية أزمة القراءة في المغرب وأوزارها لجهة دون أخرى، فالكل سواسية في تحمل المسؤولية والأوزار، دولة ومجتمعا مدنيا، مؤسسات وأفرادا، بما في ذلك الأسرة المغربية ذاتها التي انفلتت من عقال، مع تحمل الدولة المسؤولية الكبرى والأوزار الكبرى، باعتبارها صانعة القرارات ومنفذة القرارات.
إن علينا أن نتضافر جميعا وبغيرة وطنية جماعية لمحاربة هذه الأمية الحضارية والأخلاقية التي تنخر جسم مجتمعنا وتاريخنا من الداخل، بصمت أخطبوطي ماكر، دون أن نتفطن إلى عواقبها الوخيمة على المديين القريب والبعيد.
وبعد/ صحيح أن أزمة القراءة في المغرب قدر مقدور وواقع قائم. لكن ثمة دائما بصيص أمل وسط الظلام الحالك، وبدل أن تلعن الظلام أشعل شمعة، وبإمكان الجهود المتضافرة الجادة والمبدعة أن تعيد للقراءة أهميتها وفاعليتها وبهجتها، وأن تضع لها استراتيجية بعيدة المدى، وتجعلها جزءا لا يتجزأ من التنمية الشاملة والجادة والحضارية التي نريدها لمغربنا الجديد. وليس ذلك بعزيز إذا صدقت النوايا وصحت العزائم. وفي صدق النوايا وصحة العزائم تكمن المسألة.

إيقاع الحياة في رواية «محاولة عيش» لمحمد زفزاف
أبو يوسف طه
اختار محمد زفزاف الرواية القصيرة كنسيج نصي يلملم شذرات الواقع، ويلامس إيقاع الحياة، ويسجل الأحداث والمصائر. ويمكن اعتبار «محاولة عيش» تعبيرا وافيا ودقيقا يقربنا من عالمه الروائي. سوف نلاحظ ميزة أساسية هي تقلص المسافة بين القائل الضمني وبين أوعاء الشخوص وأحاسيسها.
تتضمن الرواية اثني عشر فصلا، يبدأ أولها بالتبئير على حميد بالميناء، يراقب باعة الصحف، ويريد الصعود إلى باخرة فرنسية فيطرده الحارس ثم يتوسط له حمال ليصعد إلى باخرة سويسرية، وعندما يهبط يبتزه الحارس فيحاول مغادرة الميناء من باب فرعي، فيتعرض لابتزاز من طرف جمركي، يأخذ منه كل شيء ويدفعه خارجا لينهار باكيا… تتم العودة إلى الوسط الاجتماعي (= العائلي) لحميد لبيان جذور المشكلة ونوعية التنشئة. حميد، إذن، يعيش وسط أسرة معدمة بحي عشوائي، الأب خامل يتعيش أحيانا من جني ثمار البلوط لينفق الدخل على التدخين وشراء السقط. لحميد أخوان، والثلاثة يعيشون في جو خصام دائم بين الأب والأم. راودت حميد فكرة أن يصبح حمالا عندما يكبر، غير أن صديقه الضاوي يسر له العمل كبائع جرائد طواف في سن 16. يدأب حميد على تسليم الأب المدخول اليومي، فتطيب خاطر هذا الأخير، ولذلك يتغير سلوك والديه نحوه، إذ يعتبرانه عالة عليهما. يرتاد حميد الحانات والأماكن العمومية، ويكتشف عالما دنيئا مرذولا مليئا بالصراع. تفكر الأسرة على مضض في بناء براكة بالحوش لحميد وتزويجه، حينما انتابته خيبة أمل ذات مرة، فكر في إحراق سيارة، وكان يتفاقم لديه الإحساس بقسوة عقاب رئيسه له على التقصير في البيع.
بنى له والده بيتا أشبه ببيت كلب في حوش البراكة، وبعد بلوغه 18 سنة اقترحت عليه أمه أن يتزوج فتاة تدعى فيطونة، وبعد الخطوبة بدأ يعنى بمظهره، وصادف سيدة مهاجرة من العوامرة، سيئة السمعة، «غنو» هذه أنقذها ذات صباح إثر عراك بين مغربي وجندي أمريكي، كل واحد يريدها لنفسه، عقب ذلك بدأ يرتاد منزلها، فتعرف على مأساتها: هاجرت بعد اغتصابها من طرف ابن الريس.
افتضحت العلاقة بين حميد وغنو، فذهب أصدقاؤه في التأويل والاستنتاج كل مذهب. أجرت غنو المال في يد حميد، فأقام عرسه، لكن هذا العرس سينتهي بفضيحة، إذ اكتشف عدم عذرية فيطونة، فنشب خصام بين أسرته وأسرة العروس، مما حذا به إلى مغافلة الجميع، وركوب دراجته الهوائية لائذا ببيت غنو بزنقة فرانسوا دي فيون.
هذا تلخيص واف للمحكي الذي تبلغ مدته سنتين: انطلاق حميد من عالم الأسرة لارتياد عالم مطبوع بالقهر والبؤس والرذيلة، وتعاطي الخمر والمخدرات، وممارسة الرشوة والتهريب… لا يمكن في عجالة الوقوف عند مختلف جوانب هذا النص، رغم التلوينات المختلفة والمواقف الجزئية التي تحتاج إلى التشريح لرصد مكوناتها فنيا. وعلى صعيد المحتوى، فإن الشخوص مستكينة وعاجزة عن تحويل مصائرها نحو الأفضل. إنها مشبعة بإيديولوجية الاستسلام وتقبل المصير، لكنها، من جهة ثانية، متبرمة قلقة، غارقة في عنف متبادل، غير أن الملفت كون ما ينتظم النص هو التباعد بين القوي والضعيف، حيث يتشبث كل طرف بمواقف وأحكام قبلية، لكن السارد أو القائل التخييلي، الموزع للأحداث والأفعال والأقوال، والمنظم لبرنامج السرد، يطل أحيانا من خلال أحكام تخلخل الوثوقية السائدة. إن وعي بعض الشخوص ملفت بصبغته الاحتجاجية، إلا أنه محجوز بالرهبة والخوف، وهذا نموذج من ملفوظات تجسد التنابذ اللاإنساني بين طرفين :
«يقول الرئيس لحميد: مزيان أيضا، لكن هذا غريب، إن الحثالة من أمثالك يكونون قد تعلموا هذه الأشياء قبل بلوغ العاشرة (السكر والتدخين). ويقول أيضا : يا حمار، إلى أين أنت ذاهب؟!» انتهى ثم…
الأب: كل يا بغل (يقصد حميد)، كتافك مثل كتفي الجمل، لا ينفع فيك أكل.
الأم: كل، تأكل فيه سماّ.
الأب: متى يتدبر هذا الحمار أمر نفسه؟ هذا كثير علي، كثير علي.
الأم: وأنا انظر إلي، لقد جعلتم مني عجوزا قبل الوقت، اشتغلت بكل الحرف لكي أطعم زوجا كالبغل، وأطفالا يأكلون كالجراد..
تتغير نظرة الوالدين بعد أن يجلب حميد النقود فيأكل دون أن يشعر بمرارة ما سيأكل، لقد أدى الثمن. تقول أمه: «الحصير بارد، خذ لك تلك البطانية وافترشها».
وذات مرة يسمع حميد رجلا خارجا من السجن يحكي ما قاله له رئيس المحكمة: تفعلها وتفعل أكثر منها أيها الكلب… – ويقول جارسون لحميد بعد طرده من البار: «اذهب واسترح في الخارج، فوق الطروطوار أو في قمامة الزبالة» و… ظل حميد يراقب الزبائن من خلف الزجاج حيث عائلة أجنبية معها فتاة (تمناها لنفسه) أه.
إننا نعاين عالما منشطرا لا يمكن رأب صدعه، ينبني من حيث إقامة التواصل بين أطرافه على لغة استبعادية: اللغة الأقصى، إنه عالم البؤساء وعالم أولئك الذين يملكون قوة المنصب: مقدمون، جمارك، شرطة… يتوسلون بالعنف المادي واللغوي لتوضيع من يحسبون أنهم دونهم، ولا يخلو أيضا عالم البؤساء من نفس السمة (= الثابت البنيوي)، فمن الضحية ومن الجلاد؟! الجواب في غاية البساطة، توحي به الرواية في كل منعطفاتها: البؤس واللاقانون والاحتكام إلى منطق القوة، كل ذلك ما يجعل جوهر الحياة فاسدا، والسؤال المطروح: هل ينظر محمد زفزاف إلى واقعه من خلال مرآة محدبة؟ الواقع أن توصية الناقد أو القارئ غير ملزمة للكاتب، ولا طائل من ورائها، فزفزاف اختار- وهذا من حقه كمبدع – أن يبرز تشوهات في واقعنا غير محسوس بما يباطنها بما فيه الكفاية، لكن طيات الرواية تلمح دون تصريح عبر الرؤية المتحكمة في فضائها، وهي نقدية بالأساس، إلى أن القهر يحط من قيمة الإنسان ويحيونه إن كان في المرتبة الأدنى اجتماعيا، ويصبح أشبه بحيوان مفترس إن كان في المرتبة الأعلى، لأن الجميع مساق بقوة ترتيب مختلة للأوضاع.
ألسنا الآن في مغرب التحولات نعيش عهد مكاشفة، ورفع الحجب عن المستور، ووضع الممارسات تحت مجهر المحاسبة؟ ألسنا الآن في مرحلة تجاوز نسبي لمعالجة المشاكل من مدخل سياسي صرف إلى مدخل حضاري يوصلنا بالعالم الحديث؟.. حقوق الطفل، حقوق المرأة، والتضامن، تخليق الحياة العامة، المحاسبة، شفافية التدبير، أليس هذا هو المعجم السائد حاليا؟ ألم يكن وعي (أو لاوعي) محمد زفزاف مستبقا لهذه القضايا، وهي التي حددت منظوره باتجاه الضحايا الأكثر تعرضا للانسحاق؟ وأخيرا إن دراسة سوسيولوجية (أو منهجية تفاعلية) لأعمال محمد زفزاف لمن شأنها أن تدفع عنه بعيدا تلك الرؤية السلبية، لكن المحدودة الانتشار، التي تقلل من أهمية إبداعه، بدعاوى لا علاقة لها بالأدب، كما أن تحريره لمادة الحكي من التمحل اللغوي، واستنباطه لروح فئة من الشعب من خلال التصورات والأحكام والمعتقدات، كل ذلك من شأنه أن يجعل محمد زفزاف ركنا مركزيا ومؤسسا للرواية الحديثة بالمغرب.

تمثلات الذاكرة والمحيط.. في أعمال الفنان التشكيلي أنس البوعناني
أسامة الزكاري
لا شك أن الحديث عن خصوبة عطاء الممارسة التشكيلية بمدينة أصيلا خلال عقود النصف الثاني من القرن الماضي ومطلع القرن الحالي، تظل من الخصوبة ومن العمق بشكل يصعب – معه – القبض بتفاصيله وبأبعاده. ولا شك أن التوثيق لعطاء هذه الممارسة لا تستقيم أضلاعه إلا بالتوثيق لتجارب الذوات الفاعلة والمحترقة بجمرة الممارسة التشكيلية اليومية، تنظيرا وتكوينا وإنتاجا. ولا شك – كذلك – أن التوثيق لتجارب الذوات الفاعلة والمنتجة يظل مرتبطا – أشد الارتباط – بحميميات النشأة، المسار، والتخصيب. لذلك، فإن خرائط الإبداع التشكيلي بمدينة أصيلا، تختزل تجارب على تجارب، وأساليب على أساليب، ونظما على نظم. وبديهي، ومن زاوية البحث المتخصص في إبدالات التاريخ الثقافي المحلي، أن تشريح منجز الذوات يعد مدخلا لاستكناه أغوار التجارب والأساليب والنظم المشار إليها.
ويعتبر المبدع التشكيلي أنس البوعناني أحد أقطاب هذه الممارسة الفنية الراهنة، محليا ووطنيا، لاعتبارات متعددة، يتداخل فيها البعد التكويني المرتبط بالنشأة وبالتكوين، مع نزوعات التكوين الذاتي الأكاديمي، ثم مع الانزياحات الكبرى نحو الشغف بمكنونات الفضاء العام والوسط الحميمي، الذي ألهم المبدع في إنتاج عوالمه وفي تخصيب عطائه وفي اكتساب عناصر ريادته وتميزه داخل حقول الممارسة التشكيلية لزماننا الثقافي الراهن. ورغم أن مضامين هذه الورقة لا تزعم اكتساب الأدوات النقدية لتقديم قراءة تفكيكية لأعمال الفنان أنس البوعناني، مما لا يدخل في مجال اهتمامنا وتخصصنا، فإن قراءة هذه الأعمال من زاوية تجميع جزئيات المشهد الثقافي المحلي والوطني، تظل عنصرا ارتكازيا في كل محاولات تجميع مكونات التاريخ الثقافي الراهن، من خلال رموزه وإبدالاته وسياقاته وتقاطعاته وتفاعلاته مع محيطه الواسع، وقبل كل ذلك من خلال حسن إنصاته إلى تفاصيل الواقع المحلي الذي أنتج/ وينتج كل تجارب الإلهام لدى الذات المبدعة، ويصقل الرؤى التي تؤثث عين المبدع الثاقبة، والتي تستطيع أن ترى ما لا تراه «العين الأخرى» المهووسة بقلق «اليومي».
فداخل الفضاء الحميمي لمدينة أصيلا استطاع أنس البوعناني تطويع لونه الأزرق، وحمله معه في حله وفي ترحاله عبر بيئات مختلفة بخريطة الوطن، فأنتج ثراء على ثراء، وخصوبة على خصوبة أينعت تجربة انسيابية تحددت معالمها التشكيلية عبر أضلاع ثلاثية في تركيبتها البصرية المرتكزة على ألوانها البيضاء والزرقاء والبنية المميزة، أضلاع تختزل «أزرق أصيلا» وأشكال تمدده عبر فضاءات مترامية في جغرافية الوطن، وتشمل مدن أصيلا وتارودانت وأزمور. وعبر هذا المسار كانت «غواية أصيلا» تمارس أقصى درجات الافتتان على ذات المبدع، ولتعيد صقل الرؤى الجمالية الناظمة لحصيلة المنجز الإبداعي التشكيلي لأنس البوعناني.
لقد استطاع هذا الفنان نحت معالم تجربته التشكيلية، بالكثير من البحث والتنقيب والتشريح للعناصر المركبة للهوية البصرية لوسطه الحميمي. فقراءاته تظل من الخصوبة ومن التنوع ومن الجرأة، بشكل جعلته يتجاوز كل الرؤى المدرسية في الممارسة التشكيلية الوطنية المعاصرة، إلى جانب ارتياد آفاق التحليق عاليا فوق ركام «النظريات» و»المدارس» و»التخريجات المفاهيمية» الناظمة لأي ممارسة تشكيلية راشدة. فأنس البوعناني يظل قارئا نهما ومتمكنا من أدواته، في مجالات معرفية متداخلة، لعل أبرزها الآداب والفلسفة والتاريخ، وهي عدة منهجية لا شك أنها توفر الزاد الضروري لصقل التجربة ولتطويع الملكات، وقبل ذلك لتنظيم الإنصات إلى نبض الوسط الحميمي، في أفق تجاوز القراءات الانطباعية السريعة والسهلة. فكانت النتيجة الارتقاء بملكوت عين المبدع قصد الغوص بعيدا في حميميات الفضاء المحلي، بحثا عن الرموز المادية والمجردة، وتفكيكا للمضامين المستترة، واستثمارا للأبعاد الإنسانية في أعمال تشكيلية خاصة بصاحبها وتؤسس لمعالم التميز في تجربة أنس البوعناني.
هي تجربة لذاتها، في زمانها المخصوص وفي فضائها الحميمي، لا تشبه سواها، ولا تريد أن تكون كذلك داخل حلقات التاريخ الثقافي والإبداعي لزماننا الراهن. هي تجربة للمساءلة وللقراءة المتجددة، ثم لإنتاج الرموز التي نسمو بها جماليا، حيث تنهض الأزمنة وتنبعث الأمكنة مشيدة عوالمها الخاصة وجزئياتها اللامتناهية، بشكل يعزز صفات التميز لدى أنس البوعناني داخل رصيد المنجز التشكيلي المحلي، إلى جانب رواده الكبار الملتحمين حميميا بفضاءات أصيلا الملهمة، أمثال الفنانين خليل غريب ومحمد المليحي وسهيل بن عزوز ومعاذ الجباري. هي عوالم أنس البوعناني المندثرة وجزئياته الحميمية وأدواته المخصوصة التي تصنع تجربة «أزرق أصيلا» وتمنحها كل فرص التخصيب المتواصل والتجديد المبادر والتألق المستدام.

تضايُف الحكمَة والشعر
في ديوان «ظلال حياة» لفتيحة واضح
محمد رمصيص
1- لغة الكتابة:
ماذا يعني الاحتفاء بديوان شعر مغربي مكتوب باللغة الفرنسية هنا والآن؟ هل لازال الأدب المغربي المكتوب باللغة الفرنسية يحمل صفة الابن الملعون والطفل اللقيط للثقافة المغربية كما ذهب إلى ذلك عبد اللطيف اللعبي؟ وهل حسم الأدب المغربي المكتوب بالفرنسية في شرعية الانتساب لشجرة الأدب المغربي؟ وهل بتنا، حقا، نؤمن بتعدد مكونات الثقافة المغربية، بصرف النظر عن لغة الكتابة؟ وماذا عن سيف الإجماع الذي فرض لعقود بحجة توحيد الصف المغربي؟ وكيف أصبحنا ننظر إلى الكتابة بغير اللغة الأم الآن، علما أن هذه الظاهرة ليست خاصة بالمغرب ولا جديدة في الزمان، بدليل مساهمة الفرس والمولدين في كتابة متون أساسية في الثقافة العربية؟.
أسئلة قلقة تقتضي الكثير من الإنصات إلى لغة الكتابة. لكن يمكن القول إن تعدد لغات الكتابة لا يمكنها إلا أن تمنح الشعر المغربي ثراء وخصوبة بصرف النظر عن هامش الحرية الذي تمنحه هذه اللغة أو تلك.
صحيح جدا أن لكل لغة ذاكرة وتاريخ ورموز ومتخيل، روافد تشكل في المحصلة رؤيا الشاعر، الأمر الذي يجعل من يكتب الشعر باللغة العربية غير من يكتبه بالفرنسية. لكن الشعر يبقى في كل الحالات هو جعل اللغة تقول ما لم تتعود على قوله. يقترح الشعر نفسه بالنتيجة بديلا عن اللغة العادية الغير قادرة على تجليات مناطق بعيدة في أعماقنا وقول ذاك الآخر الذي يسكننا دون أن نتوقف عن قوله. الشعر في النهاية توليد للدهشة ونحت للجمال في اللغة، على نحو ما تنحت التماثيل من الرخام. قوة الشعر تتمثل، إذن، في تصوير لا تراه العين المجردة. لكن رغم كل هذا لازال هناك من يعتبر أن اللغة هي التي تكتب الشعر وليس الجنسية السياسية للشاعر، واضعا تعارضا وهميا بين اللغة والهوية. مقاربة تنطبق على الأدب المغربي المكتوب بالإسبانية والإنجليزية وما شابه ذلك. أدب ينعت أحيانا بمغازلة الغرب، وتارة بكونه لا يعدو سوى نصوص متفرقة لا ترقى إلى مرتبة أدب، وهناك من يطرح أسئلة مغرضة من خارج دائرة الأدب كالقول مثلا: ماذا يمكن لكاتب غير فرنسي أن يضيفه لقارئ فرنسي؟. هذا سؤال مردود عليه، فأن تكتب بالفرنسية، مثلا، يجعلك هذا تتواصل مع القارئ العربي وغير العربي وتوصل صوتك للآخر. بل إن الكتابة بالفرنسية في ستينيات القرن الماضي لعبت دورا نضاليا، مخلخلة اطمئنان المستعمر لأمية المغاربة المزعومة. أستحضر في هذا المقام: أحمد الصفريوي، إدريس الشرايبي، محمد خيرالدين، عبد الكبير الخطيبي، واللائحة طويلة. فقط هناك فرق بين جيل الستينيات وجيل فتيحة واضح، فرق يتمثل في أن الجيل الأول فرضت عليه اللغة الفرنسية فرضا. أما جيل منير السرحاني ورشيد خالص وفتيحة واضح فاختار الفرنسية كوسيلة تعبير، وله كامل الحق في اختيارها مع التشبث بالجذور المغربية.
2 – شكل الكتابة :
ورد ديوان فتيحة واضح «ظلال حياة» في شكل شذرات تتضايف فيها الحكمة والشعر. ومن خلال فعل التجنيس المثبت على صفحة الغلاف «هايكو» يتهيأ المتلقي لقراءة شعر متمرد على وحدة القافية والوحدة الموضوعية. شعر يجمع بين البساطة المعجمية والعمق التأشيري، ضاما تجويع اللفظ وإشباع المعنى. شعر يظهر بأنه منشغل بتفاصيل الحياة اليومية، لكنه في العمق يقترح تأملات في الوجود والذات والمعنى والكينونة وما شابه ذلك. الكتابة الشذرية بهذه الخلفية تتأسس على شعرية الانفصال ليس على مستوى الشكل فقط، ولكن على مستوى المضمون كذلك، كتابة ضد الامتلاء والاتصال.. كتابة تحتفي بقانون الندرة، مصدعة وحدة لحمة الخطاب الشعري، مشققة زمن الكتابة، واضعة العقل في مأزق. الكتابة الشذرية بسبب كل هذا تفتت الذات و تنثرها على النصوص هنا وهناك. تسخر من النسقية وتعادي صفاء الجنس الآتي. كتابة صدامية ترفض السكينة والاطمئنان لأنماط القول الشعرية المكرسة وتقف جانب الحيرة والارتباك. الكتابة الشذرية بهذا المعنى تقول ضمنيا إن القصيدة التقليدية وصلت أقصى درجة التشبع، وهي بذلك تقترح مخرجا جماليا لمأزق الشكل والمضمون.
فقط يجب التشديد هنا على أن الكتابة الشذرية ليست وليدة الآن، فلها تقاليد موغلة في القدم مع اختلاف نكهة النصوص باختلاف الثقافات المنتجة لها. فشعر «الهايكو» باليابان، مثلا، استلهم الإحساس البوذي بالطبيعة والإنسان واتصف بالخاصية العرفانية، لا سيما مع ازدهاره في القرن 17 م، بفضل الشاعر باشو، المعلم الأول لهذا الفن بلا منازع…
في السياق العربي يمكن استحضار رباعيات عمر الخيام بصرف النظر عن بعض الشذرات المدسوسة عليه. تجربة احتفت بالسؤال بنية تحريض الذهن على الاشتغال وأعادت تأمل الصمت والبياض كفسحة لتدبير مختلف مناحي الحياة. شذرات منغمسة تماما في مياه التصوف بسبب ملازمته لابن سينا عقودا من الزمن.
في السياق المغربي لا يمكن القفز على رباعيات عبد الرحمان المجدوب، التي تختزل خبرة رجل ارتضى التيه والسفر كجسر لاستخلاص الحكمة وتسويقها عبر شذرات شعرية عامية تتداول في المناسبات اليومية للمغاربة، وإن كنا نختلف معه في الموقف السلبي الذي اتخذه من المرأة.
نخلص إلى أن شعر «الهايكو» شعر عصيان وتمرد جمالي على القوالب المكرسة، شعر يشكك في الإدراك الكلي للعالم ويقترح إدراكا متقطعا للكينونة تماما كما هي الحياة، وهذا يعني أن الكثافة والشذرية شرط وجود لتحقق شعر «الهايكو».
3 قضايا الكتابة الشعرية عند فتيحة واضح:
ارتضت الشاعرة فتيحة واضح الكتابة على خلفية المنهج الموضاعاتي، إذ وزعت ديوانها البكر على خمس شرفات، هي: «نزوات أم»، «الخلف والامتداد»، «الما وراء»، «نظرات»، «إثارات».
في الشرفة الأولى، استأثرت الطبيعة بمجمل الشذرات، وحضرت في مظهرها المزدوج، أقصد الطبيعة في بعدها الخارجي، أي الفيزيقي وأثرها على الإنسان «مطر، رياح، برودة، دفء، ثلوج…»، والبعد الداخلي الذي يراد به المستوى الغريزي والفطري في الإنسان: الميول، الرغبة. غير أنه إنسان يتذمر من تقلبات الطبيعة وكأني بلا وعيه يفترض فيه الاشتغال وفق أهوائه. تقول الشاعرة في الصفحة 3:
ورود الربيع
جمال خارق
لكنه موسمي لسوء الحظ.
شمسُ أبريل
ضوءٌ
وبرْدٌ قارسٌ.
الطبيعة تحضر في التجربة الشعرية لفتيحة واضح، في تنافر مع الإنسان، لذلك فهو في سباق محموم لإخصابها، غير أنها، بشكل غير واع، تقوم بردَّات فعل مضادة، تتمثل في الزلزال والفيضان والجفاف. وبسبب كل هذا تشكل الطبيعة عنصر ألفة للإنسان. تقول الشاعرة في إحدى الشذرات :
الطبيعة لديها منطقها الخاص
لا يستطيع الإنسان مجابهته
جفاف، فيضانات، زلازل
للطبيعة نزواتها
الخاصة بها
ضعيفة، لكنها قاتلة.
في الشرفة الثانية المعنونة بالخلف، أو الامتداد، تحضر الذات بوعيها الشقي، جراء غربتها عما يصدر عنها من أثر وامتداد. فسحة أتاحت للشاعرة الحديث عن صراع الأجيال، وتعارض الرغبات والمصالح بين الآباء والأبناء، مشيرة إلى وقع الزمن وأثره على الذوق، والقيم، والنزوع، والرغبات.
كان من الممكن اعتبار الكتابة ولادة رمزية بديلة عن الولادة البيولوجية، وكان الرهان على التجدد سيأخذ شكلا ثانيا مختلفا، غير أن الولادة، هنا في هذا الجزء، ظلت محكومة بتجلياتها المادية. غير أن الديوان يمكن اعتباره ابنا ثالثا للشاعرة، وبه قد تعيش أمومة مضاعفة.
في الجزء الثالث المعنون ب»الما وراء « وردت مجمل الشذرات متمحورة حول الموت ونزيف العدم. فبعد أن تحقق للشاعرة في الجزء الثاني شرط الامتداد، من خلال تمثلها لفعل الإنجاب البيولوجي، باتت مسكونة بسؤال الموت، والموت لديها ليس رحيلا في المطلق، إذ أن من يموت، حقا، هو من يغادر ذاكرة الأحياْء، لكنها قبل الإقدام على مهمة الموت، تقترح علينا أن نتناول حياتنا كما لو كانت تحفة قبل فوات الأوان.
خلاصة هذه الشرفة أن الموت عند الشاعرة ينتمي إلى مدار خارج المعنى مثله مثل الجنون والانتحار. علما أن اشتباكها مع الموت بوعي مختلف نزع عنه صفة العدائية، وكأنه حدث عابر، وليس شيئا ذا قيمة في ذاته. إن ما يخفف من عدائية الموت هو فعل الكتابة التي تشبع الموت حياة.
في المقطع الرابع من الديوان، والحامل لعنوان «رؤى»، حضور رمز العين، باعتبارها إحالة على الوعي والمعرفة. أداة بها نَرى ونُرى. أداة تترجم هوية الفرد إلى حد أنها تمثل المعادل الموضوعي للهوية، إذ يكفي تغطية العين بشريط أسود لإخفاء هوية الفرد. كما أنها وردت عندها باعتبارها مرآة الروح، وذاك السطح الشفاف العاكس لعالم الإحساس. يمكن بالموازاة للعين الفيزيقية حضور العين الباطنية العارفة بالخبايا والأحشاء، أو لنقل عين العقل، بخلاف رمزية العين في التحليل النفسي الدالة على الرغبة والشهوة.
أما المقطع الخامس والأخير من الديوان فقد تمحور حول قيمة الحب بوصفه مصدراً أنطولوجيا للتطور، وحافزا للإقبال على الحياة، بل الخروج من الذات. وإن كنا نختلف مع هذا التمثل للحب، حيث يمثل أحيانا أقصى درجات الأنانية، لأننا في العمق نحب وجهنا الثاني الذي لا نراه أثناء الحب. فحب امرأة لرجل بعينه هو تذكر للذكر الكامن فيها، والعكس صحيح. فضلا عن كون الكره ليس إلا حبا معكوسا للحب.
نخلص إلى أن الشاعرة انطلقت من الطبيعة، كلحظة كونية حكمتها الغريزة، والبعد الفطري في الإنسان وبممارسته للحياة صدم بجرح الموت. وبعد تجربة الحياة نخلص إلى أن الحب هو أحد الأجوبة الممكنة لسؤال الموت.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.