بعد سياسة الفوضى الخلاقة التي ابتدعتها وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة كوندليزا رايس، التي تركت بعدها كل قضايا العلاقات الخارجية الأمريكية في تخبط وضبابية وضياع، جاءت سياسة التخبط والاستغفال التي تنتهجها وزيرة الخارجية الحالية هيلاري كلينتون لتثبت أن الولاياتالمتحدة تسير في نفس الطريق، فالميراث الذي ورثه باراك أوباما عن جورج بوش وإدارته أثقل مما يمكن أن يتوقع، حيث يحيط الفشل والإحباط بكل جوانبه. ولعل الفشل الأكبر كان في العراق التي يحاول باراك أوباما أن يخرج من هزيمة الولاياتالمتحدة بها من خلال تسليط الضوء على مكان آخر عله يستطيع أن يحقق فيه أي شكل من أشكال استعادة الهيبة، وهو أفغانستان، لكنه كل يوم يمنى هناك بخسائر وانتكاسات تؤكد له أن مستنقع العراق ربما يكون أهون من مستنقع أفغانستان، لكنه يصر على أن ينطح الصخر متناسيا أن أفغانستان على مدار التاريخ لم يفلح مستعمر في احتلالها، وإن أفلح فإنه لا يقر له قرار ولا يهنأ له بال ولا تطيب له إقامة، لأنها بلاد طاردة لغير أهلها، سلما أو حربا. لكن أوباما المتخبط يحاول أن ينسي الشعب الأمريكي هزيمة العراق، ويحاول أن يصنع أي نصر خارجي، وإن يكن شكليا، حتى ولو كان من خلال انتخابات مزيفة كما أعلن ذلك أكثر من مسؤول من مسؤولي الأممالمتحدة، لكنه لن يمنى سوى بالهزيمة كما منيت بها كافة القوى التي حاولت أن تجد لها موطئ قدم في أفغانستان. والعجيب أن الأمريكيين كشعب وكوسائل إعلام وسياسيين قد ملوا من الحديث عن العراق لأنه حديث الهزائم المتلاحقة، حتى إن أخبار العراق توارت في الصحف ووسائل الإعلام الأمريكية عن الصفحات الأولى والخبر الأول وصارت أخبارا داخلية شبه مكررة ومعادة، حيث يبحث الأمريكيون عن «خروج مشرف»، كما يقولون، من هذا المستنقع الذي يتخبطون فيه رغم كل محاولات الاستغفال التي يقومون بها لشعبهم ولغيرهم. ولا يقف التخبط في السياسة الأمريكية عند حدود العراق وأفغانستان وإنما يمتد إلى كافة القضايا والاتجاهات الأخرى، فوزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون، في جولتها الأخيرة في دول المنطقة، أيدت الاستيطان الذي تقوم به إسرائيل حينما ذهبت لزيارتها، ثم خففت اللهجة حينما التقت مع وزراء الخارجية العرب في المغرب، ثم أدخلت بتصريحاتها بعض الدول العربية، ومنها مصر، في المشروع الأمريكي على أنها دول شريكة، ومنذ ما يقرب من عام وإدارة أوباما عاجزة عن وضع تصور لشيء يتعلق بالمنطقة سوى التخبط والاستغفال، فالمشاكل الداخلية لدى أوباما لا حدود لها والميراث الخارجي الثقيل أكبر من قدرات هيلاري كلينتون، وربما الفريق الذي حولها، لأن هناك حقائق على الأرض أصبح من الصعب تجاوزها في النظرة إلى مشاكل المنطقة والعلاقات المعقدة والمتشابكة فيها والتعامل معها، منها أن حركة حماس أصبحت رقما صعبا في المعادلة الفلسطينية يصعب تجاوزه في أي مشروعات سياسية قادمة ولاسيما بعد العجز الإسرائيلي عن القضاء على الحركة في حربها التي قامت بها على غزة خلال شهري ديسمبر ويناير الماضيين، بل إن عدم نجاح إسرائيل يعتبر نصرا لحماس التي لازالت تمسك، بقبضة من حديد، بإدارة ظروف القطاع مع ظروف حصار ظالم تشارك فيه الحكومة المصرية بادعاءات لا أعرف كيف ستصاغ في صفحات التاريخ فيما بعد، كما أن تقرير جولدستون قد وضع إسرائيل في قفص الاتهام وجعل حكامها، لأول مرة، يتحسسون خطاهم خارج حدودهم بعدما أصبحوا متهمين بارتكاب جرائم حرب تضعهم تحت نطاق الملاحقة القانونية الدولية. وهذا يؤكد أن إسرائيل قبل تقرير جولدستون ليست إسرائيل بعده، فالضمير العالمي الذي مات عقودا طويلة بدأ جزء منه يستيقظ وإن كان محاطا بألاعيب السياسة الدولية والفيتو والاستغفال، لكن هذه السياسة عادة ما تصنع واقعا جديدا وتفرز قوى وتحركات لملء الفراغ الذي تخلفه سياسة الفوضى الخلاقة والاستغفال الأمريكي. ولعل تركيا كانت أفضل من تعلم من الدرس وأدرك واقع هذا التغيير، فأخذت تصنع لنفسها سياسة لا تتوافق مع السياسة الأمريكية لكنها، على قدر الإمكان، لا تتصادم معها، وبقدر ما تقاربت مع جيرانها بقدر ما ابتعدت عن إسرائيل، لكن حلفاء أمريكا في المنطقة الذين لا يدركون حقائق الواقع هم الذين يحاولون عرقلة تركيا دون أن يدركوا أن عوامل التغيير وقواعد اللعبة تتغير وأن بقاءهم مدعومين من الولاياتالمتحدة عشرات السنين على مقاعد الحكم لا يعني أن سنة التغيير غابت أو انعدمت، لكنها من قبيل الإملاء الذي تمنحه الأقدار لبعض الذين يعتقدون أنهم مخلدون حتى تأتي لحظة الأخذ والحسم والتغيير التي عادة ما تكون أليمة وشديدة على هؤلاء، فسنن الله غلابة حتى وإن طال انتظارها، ولكن إلى حين.