أكثر ما يؤلم الجميع في طهران أن صورة الجمهورية الإسلامية اهتزت وكذلك صورة المرشدفالاثنان أحيطا طوال الثلاثين سنة الماضية بهالة من الاحترام والتقدير ذهبت إلى طهران لكي أرى إيران بعد زلزال الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وفوجئت بأن الأرض ما زالت تهتز هناك، وأنهم لم يخرجوا بعد من أجواء الصدمة. (1) ما من مسؤول التقيته أو مجلس شهدته إلا وكانت استعادة وقائع ما جرى قبل خمسة أشهر من طقوس اللقاء. الوحيد الذي قال إنه طوى الصفحة ولم يعد يلتفت إلى الماضي كان الدكتور أحمدي نجاد -الرئيس الفائز- وهو ما عبر عنه صراحة في الحوار الذي أجريته معه ونشر يوم الثلاثاء الماضي. وزير الخارجية منوشهر متكي ذهب بعيدا، وحدثني عن التوترات والتجاوزات التي شهدتها إيران منذ قامت الثورة قبل ثلاثين عاما (قال إنها خلال السنوات الأولى تعرضت ل16 ألف عملية إرهابية). الدكتور علي ولايتي، أحد مستشاري المرشد ووزير الخارجية الأسبق، استعرض في حديثه معي مجمل التحركات التي لاحت في الساحة الإيرانية منذ عام 1999، وكيف أن بعض العناصر المعارضة لولاية الفقيه احتشدت آنذاك، حين صدر قرار بإغلاق صحيفة «سلام» التي كانت ناطقة باسمها (أي العناصر المعارضة)، وحاولت أن تنزل إلى الشارع لولا أن حرس الثورة أوقفها. وقال إن الذين حرضوا على النزول إلى الشارع آنذاك ظهروا في الآونة الأخيرة، وألقي القبض على بعضهم بعد انتخابات يونيو الماضي. أما السيد علي لاريجاني، رئيس مجلس الشورى، فقد اكتفى في الإحالة إلى الماضي بالإشارة إلى أن اختلاف المواقف واشتباكها كان من بين السمات التي لازمت الانتخابات الرئاسية والبرلمانية طوال سنوات الثورة، ولكن الذي حدث هذه المرة أن الإعلام والتحريض الغربي لعبا دورا هائلا ومفاجئا في تشويه الصورة والمبالغة في الأحداث التي وقعت، إلى حد الكذب والاختلاق، حتى ادعوا -مثلا- أن الحكومة الإيرانية استعانت بأعداد كبيرة من عناصر حماس وحزب الله للتصدي للمظاهرات! الآخرون الذين لقيتهم كانوا يعيشون الأجواء ذاتها بدرجة أو أخرى. وذلك إن دل على شيء فإنما يدل على أن الوقائع التي شهدتها إيران، في أعقاب انتخابات يونيو الماضي، مازالت محفورة في عمق الذاكرة الجمعية، وأنه حتى إذا قيل إن لتلك الأحداث سوابق في ما جرى من انتخابات، فالقدر المؤكد أنها لم تكن بنفس الدرجة من القوة، وأن نتائجها لم تعش طويلا، الأمر الذي يستدعي السؤال: لماذا؟ (2) صراع الأجيال يكمن في خلفية ما جرى. هذه إحدى النتائج التي خلصت إليها أثناء الزيارة. صحيح أن الحضور القوي للإمام الخميني خلال السنوات العشر الأولى التي أعقبت الثورة كان سببا جوهريا لضبط الخلافات وتذويبها، إلا أن الأمر اختلف بعد رحيله في عام 1998، إذ إنه منذ ذلك الحين وحتى سنة 2004 كان التنافس على المناصب القيادية قائما بين عناصر الجيل الأول للثورة. فحين توفي الإمام الخميني، كان السيد علي خامنئي هو رئيس الجمهورية، في حين كان الشيخ هاشمي رفسنجاني رئيسا لمجلس الشورى. وحين أصبح السيد خامنئي مرشدا وقائدا، انتخب الشيخ رفسنجاني رئيسا للجمهورية، وكان الشيخ مهدي كروبي رئيسا لمجلس الشورى في ولايته الأولى، والشيخ ناطق نوري رئيسا لمجلس الشورى في ولايته الثانية. وبعد ذلك انتخب السيد محمد خاتمي رئيسا للجمهورية لمدتين استمرتا حتى سنة 2005، التي كانت بداية دخول جيل الصف الثاني حلبة المنافسة، إذ ترشح الدكتور أحمدي نجاد في مواجهة الشيخ هاشمي رفسنجاني، الذي اعتمد على رصيده كأحد مؤسسي الجمهورية الإسلامية، ولكنه خسر الانتخابات، الأمر الذي لم يتوقعه وأثار غضبه ودفعه الغضب إلى الادعاء بأن الانتخابات تم تزويرها، رغم أنها أجريت في ظل حكومة السيد محمد خاتمي الإصلاحي القريب منه. قال لي أحدهم إن القيادات التي اصطفت ضد أحمدي نجاد هذه المرة كانت كلها من ذلك الجيل الأول (رفسنجاني-كروبي-خاتمي-مير موسوي -محتشمي-رضائي). ولأنهم من المؤسسين، فإنهم لم يتصوروا أن تكون الولاية الثانية من نصيب «ابن الحداد» أحمدي نجاد. وحين حاز الرجل أغلبية الأصوات، فإن ذلك كان أحد الأسباب التي أثارت غضبهم واحتجاجهم، ودفعتهم إلى العودة إلى إطلاق تهمة التزوير والتلاعب بالأصوات. فجوة الأجيال ليست حاصلة فقط بين قيادات الصفين الأول والثاني، ولكنها حاصلة أيضا بين السلطة كلها من ناحية، وبين الأجيال الجديدة من الشباب الذين يمثلون الآن 70 ٪ من سكان إيران، (أكثر من 70 مليون نسمة)، من ناحية أخرى. فقد سمعت من قال إن الفقهاء الذين يديرون البلد لم يوجهوا عناية كافية إلى الأجيال الجديدة التي ظهرت في المجتمع، محملة بأشواق جديدة، في عالم تكفلت ثورة الاتصال باختراق كل آفاقه وشرائحه. ويبدو أن هذا الجيل أصبح منفصلا عن ثقافة الطبقة السياسية في الجمهورية الإسلامية، حتى إن دراسة أجريت حول التزام الشباب بأداء الصلاة، وتبين أن 83 ٪ منهم غير منتظمين في أدائها، وأن 63 ٪ لا يعرفون كيف تؤدى الصلاة. وتلك الأرقام سمعتها من الناشط في الحركة الإصلاحية الزميل الصحفي ما شاء الله شمس الواعظين. وهي معلومات، إذا صحت، فإنها تفسر جانبا مهما من حالة الغضب التي عبر عنها أولئك الشبان، في أجواء التوتر التي أعقبت الانتخابات (3) أكثر ما يؤلم الجميع في طهران أن صورة الجمهورية الإسلامية اهتزت، وكذلك صورة المرشد، فالاثنان أحيطا طوال الثلاثين سنة الماضية بهالة من الاحترام والتقدير كان مسلما بها طوال الوقت. لكن ما جرى عقب إعلان نتائج الانتخابات كان خصما من تلك الهالة. ولعبت وسائل الإعلام دورا مؤثرا في رفع نسبة الخصم، بحيث بدت الجمهورية الإسلامية منقسمة ومتناحرة، وصور المرشد بحسبانه طرفا في الخصومة، منحازا إلى المعسكر الذي نسب إليه التلاعب بالأصوات وتزوير النتائج. وذلك كله لم يخطر على بال أحد يوما ما. لذلك، فإن الغيورين يستشعرون مرارة شديدة وهم يتحدثون في هذا الجانب. حتى إن بعض مؤيدي المرشح المعارض مير حسين موسوي تخلوا عنه ووجهوا إليه النقد، لأنه أسهم بمواقفه في دفع الأمور وإيصالها إلى تلك النتيجة. وهذا ما سمعته من سفير سابق مثل بلاده في مصر يوما ما. أكثر من مسؤول قالوا لي إن فريق موسوي قرر منذ اللحظة الأولى أنه إذا لم يفز على «أحمدي نجاد»، فذلك يعني بالضرورة أن تزويرا قد حدث. حتى إنهم شكلوا، منذ صبيحة يوم الانتخابات «الجمعة 12 يونيو»، لجنة لصيانة الأصوات، وكان مستغربا أن الرجل أعلن فوزه بعد خمس ساعات فقط من بدء الفرز. وكان ذلك صحيحا في طهران فقط، لأنه حصل على مليونين و200 ألف صوت، في حين أن أحمدي نجاد صوت لصالحه مليون و800 ألف، ولكنه لم يكن صحيحا على مستوى الجمهورية. لأن أصوات الأقاليم قلبت المعادلة ورجحت كفة موسوي. لقد خرج البعض في شمال طهران صائحين «أين أصواتنا؟»، وكانوا محقين في تساؤلهم، لكن الهرج الذي ساد والتأكيد على فكرة التزوير عبر أبواق الإعلام عالية الصوت لم يسمحا بشرح الموقف للفئات الغاضبة بما يقنعها بأن أغلب أصوات الأقاليم ذهبت إلى أحمدي نجاد. زاد الطينَ بلة أن موسوي رفع سقف التحدي وطلب إلغاء الانتخابات بالكامل، ورفض كل عروض الفرز العشوائي لأي عينة تمثل عشرة في المائة من الصناديق في أي منطقة، كما رفض الاحتكام إلى أي مؤسسة في الدولة، بما في ذلك مجلس الخبراء. وأساء إليه كثيرا أن من بين الذين أيدوه في ذلك وشجعوه على مواصلة التصعيد يصنفون ضمن خصوم الثورة، من أنصار الشاه وجماعة مجاهدي خلق إضافة إلى المسؤولين في العواصمالغربية وإسرائيل. هذا التصعيد الذي كان النزول إلى الشارع من بين أدواته أدى إلى نتيجتين: الأولى أن المرشد استشعر أن الإصرار على إلغاء النتائج يعني التسليم بالتزوير في 45 ألف لجنة، ومن ثم التشكيك في نزاهة النظام الذي يقوده، فأعلن تأييد النتائج الرسمية، وطالب الجميع بالالتزام بالقانون واحترام مؤسسات الدولة. النتيجة الثانية أن مير موسوي، برفضه قرار مجلس الخبراء وإصراره على عدم الاعتراف به، خسر فرصة الترشح لانتخابات الرئاسة القادمة، لأن ذلك المجلس هو الذي يجيز المرشحين. وأغلب الذين لقيتهم على الأقل يجمعون على أن الرجل، الذي يدرّس بالجامعة ويرأس مجمع الفنون ويتمتع بعضوية عدد من المؤسسات المهمة، لو أنه قبل بالهزيمة، وأعد عدته لخوض الانتخابات القادمة التي تحل بعد 4 سنوات، لضمن الفوز برئاسة الجمهورية بعد أحمدي نجاد. (4) بقيت أربع ملاحظات يلمسها زائر طهران هذه الأيام هي: - أن السيد علي خامنئي مرشد الجمهورية يبذل في الوقت الراهن جهدا حثيثا لرأب الصدع وإعادة لحمة الصف الوطني. تجلى ذلك في إعلانه -ردا على سؤال وجه إليه «ربما كان مرتبا!»- أن قادة المعارضة ليست لهم اتصالات خارجية. وبعد ذلك مباشرة، أعلن أن الاعترافات التي أدلى بها بعض المعارضين أمام المحكمة يعتد بها فقط في ما يخصهم، وينبغي ألا تؤثر على مواقف أشخاص آخرين. وأراد بذلك أن يوقف اللغط الذي أثارته شهادة السيد محمد أبطحي وتعرض فيها للرئيس السابق السيد محمد خاتمي، الذي كان أبطحي أحد مساعديه. في الوقت ذاته، فإن اتصالات تجرى الآن لجمع الأطراف المشتبكة، يقوم بها عدد من القيادات المحايدة والمحترمة، أبرزها آية الله مهدوي كنى، وهناك مبادرات أخرى في ذات الاتجاه يقوم بها بعض أعضاء مجلس الشورى. - الملاحظة الثانية أن تجربة الانتخابات كشفت عن مدى القوة التي يتمتع بها المجتمع الإيراني والحركة الاحتجاجية فيه، ذلك أن صوت المعارضة لا يزال حاضرا ومسموعا في وسائل الإعلام وفي بعض مؤسسات الدولة. كما أن الحركة الاحتجاجية مازالت تلملم صفوفها في الداخل، وهي تلقى تأييدا واضحا بين المثقفين وقطاعات الشباب وغيرهم من دعاة التغيير في البلد. - إن ثمة لغطا قويا يتردد حول تنامي ظاهرة الفساد المالي، خصوصا تربح أبناء القيادات واستفادتهم من مواقع آبائهم. وهؤلاء يسمونهم «أغا زاده» أو أولاد الأكابر. والشائعات في هذا الصدد تلاحق بعض أبناء آيات الله الذين أصبحوا من الأثرياء، والوحيد الذي لم تمسسه الشائعات حتى الآن هو السيد علي خامنئي الذي اشترط على ابنيه وأصهاره ألا يشترك أحد منهم في أي نشاط تجاري أو خاص. - إن التوترات التي حدثت بعد الانتخابات ونذر الفوضى التي لاحت أثارت قلق البعض على النظام الإسلامي، فلم تؤد فقط إلى انصرافهم عن تأييد السيد موسوي خوفا على مصير النظام، وإنما استنفرت أيضا «حرس الثورة» الذي ازداد نفوذه بشكل لافت للأنظار، مما أدى إلى زيادة الإجراءات الأمنية، التي كان من بينها سحب جوازات سفر بعض الإصلاحيين ومنعهم من مغادرة البلاد، وهو ما دفع عددا من المثقفين إلى التحذير من احتمالات «عسكرة النظام» بدعوى دفع المخاطر التي تهدده. - إن إزالة آثار الزلزال لم تتم بعد، لأن الجرح بدا أكبر من الجريح.