سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
الدولة والعدل والإحسان.. سوء الفهم الكبير من «الإسلام أو الطوفان» إلى «مذكرة إلى من يهمه الأمر» وجنازة الشيخ ياسين وعشرين فبراير وصولا إلى قبر «الفقيرة»
ظل نظام الملك الراحل يحصن نفسه من كل الأصوات المعارضة، سواء تلك التي تاتيه من اليسار بكل تلاوينه، أو من الإسلاميين الذين لم يكن صوتهم يأتي إلا من خلال ما كانت تبعث به جماعة العدل والاحسان من رسائل بعضها مباشر إلى حكم الحسن الثاني. ولذلك نجح في كسب جل المعارك التي خاضها، خصوصا أنه عرف كيف يجعل فصول الدستور تضع كل الحواجز لتمنع الاقتراب من شخص الملك منذ أول دستور لسنة 1962، الذي حمل فصولا تعتبر أقوال الملك بمثابة ظهائر شريفة لا يمكن معارضتها، ولا يمكن توجيه النقد لها باعتبار مؤسسة الملك فوق الجميع. ولعل من أشهر ما عاشته المعارضة الاتحادية بهذا الشأن، هو ما حدث في 1964، حينما سعت إلى وضع ملتمس رقابة ضد حكومة احمد اباحنيني. ملتمس سيعتبره الملك الراحل محاولة للمس بالنظام، لذلك كان مصير هذا الملتمس هو الفشل. وسط هذه الأجواء، التي تقدس الملك بمنطوق الفصل 19 الشهير، الذي ظل يتكرر في كل الدساتير التي جربها مغرب الحسن الثاني، سيخرج رجل ظل مقربا من الشيخ العباس، وهو شيخ الطريقة البودشيشية القادرية، اسمه الشيخ عبد السلام ياسين، لكي يوجه للحسن الثاني رسالة اعتبرت أول رسالة مفتوحة تصل إلى ملك البلاد سماها «الإسلام أو الطوفان» سنة 1974، بعد أن قام بنسخ عدد منها بمساعدة رفيقيه أحمد الملاخ ومحمد السليماني، حيث تم توزيعها على نطاق واسع. سيكون مصير الشيخ عبد السلام ياسين، بعد هذه الرسالة التي اعتبرت أول فصل من فصول المواجهة بين العدل والإحسان، التي تأسست بعد ذلك، وبين نظام الحكم على عهد الحسن الثاني، هو مستشفى الأمراض العقلية الذي قضى به الشيخ ثلاث سنوات، في حين كان مصير مساعديه السجن لمدة 15 سنة بمعتقل درب مولاي الشريف. اعتبر الشيخ ياسين حينما كتب «الإسلام أو الطوفان»، أن طريقه هي غير طريق ابن العباس الشيخ حمزة، وظل يرى أنه يمثل معارضة لنظام الحسن الثاني بصفته العلمية، وليس السياسية. فلم تكن جماعة العدل والإحسان قد تأسست بعد، إذ لم تر النور إلا في منتصف الثمانينيات بعد أن تشتتت أطياف الشبيبة الإسلامية. ستتوالى المعارك بين الشيخ ياسين ونظام الحسن الثاني، الذي فرض عليه الإقامة الجبرية، فيما ظلت جماعته محظورة ويعتبر الانتماء إليها جرما يعاقب عليه القانون. غير أن أعضاء الجماعة لم ينزلوا اليد، فقد عاد شيخهم في 1983 إلى المواجهة حينما اختار أن ينشر ردا على رسالة الحسن الثاني، التي كتبها بحلول القرن الهجري الجديد، كما هي عادة ملوك العلويين. رسالة تحدث فيها الحسن الثاني عن الإسلام ومستقبله، ودعا فيها رؤساء الدول العربية وزعمائها إلى فسح المجال لرجال الدعوة الإسلامية. كان رد الشيخ ياسين قويا على «رسالة القرن»، التي ستصدرها مجلة «دعوة الحق». رسالة عنونها ب«قول وفعل». وفي الرد نقرأ «لو خيرنا الناس بين حسم جلودنا بسياط التعذيب وبين المعاملة الطيبة التي تخصصها رسالة القرن لرجال الدعوة، لما اخترنا الحسم الأول.. ولو جاءت الرسالة وحقوقنا مرعية وشبابنا الإسلامي موفور الحرية والكرامة، لما تمسكنا كل التمسك بهذا الخطاب الذي أريد له أن يكون تاريخيا»، قبل أن يضيف «إن الإسلاميين يكونون قوة اجتماعية متصاعدة لا يسعكم إلا أن تفسحوا لها المجال إن كنتم تتمتعون بذرة من تمييز، فإن أصررتم على تهميشها ودفعها خارج النشاط السياسي المسموح به لكل المواطنين، إن دفعكم العناد الاستكباري لخنق حريتنا، فأنتم تعرفون قانون الخنق والانفجار. وعلى كل حال فهو الإسلام أو الطوفان. ولا حول لكم أن تطفؤوا نور الله بأفواهكم». مرت رسالة القرن، كما تسميها الجماعة بدون أن تحرك نظام الحسن الثاني الذي يواصل حصاره واعتقالاته ضد رموز الجماعة وقادتها. فيما ظل الشيخ ياسين تحت الإقامة الجبرية. وانتظرنا أن ينتقل الحسن الثاني إلى دار البقاء ليخلفه ولي عهد الملك محمد السادس، الذي سيتوصل هو الآخر برسالة أخرى من زعيم العدل والإحسان. رسالة لم يضمنها نفس الانتقادات التي وجهت لأبيه. واختار لها عنوان «مذكرة إلى من يهمه الأمر»، والتي كانت ديباجتها، بعد بسم الله الرحمان الرحيم، جملة أذابت الكثير من الجليد بين الجالس على العرش وعبد السلام ياسين، هي «ملك الفقراء». تضمنت مذكرة جماعة العدل والإحسان مباركة لقرار إقالة إدريس البصري من وزارة الداخلية، وهو القرار الذي اعتبر جولة أولى تم كسبها في معركة محمد السادس مع «إمبراطورية الشر»، قبل أن يواصل الدعوة لاستكمال أوراش التطهير. في رسالة الشيخ ياسين للملك الجديد، الذي اعتبره ملكا شابا طيبا، رصد للكثير من الإيجابيات، مع تقديم مقترحات هي بمثابة مطالب للجماعة. يقول الشيخ ياسين في معرض الرسالتا «ما الذي على الشاب محمد السادس الذي يمنحه جيله التأييد بكل سخاء، أن يفعله؟ ماذا بمقدور فتى الأحلام أن يفعله تلبية لنداء الشعب المستضعف وتحقيقا لآماله؟ ما الذي عليه أن يفعله؟ وماذا يستطيع أن يفعل لتدعيم سلطته وتقوية مركزه». ثم يضيف «لكي يحدث بل يبدأ التغيير الذي تهفو إليه البلاد، لا بد أن ينطلق ملك الفقراء، ويا لجلالة اللقب، من القطيعة مع ماض ليس له من الجلالة سوى الاسم والسوط. يحتاج ملك الفقراء إلى منجزات رجولية تمكنه من الارتقاء إلى مستوى قائد»..«اليوم وبعد أن أصبح الأمير الطيب ملكا يخطب وده ويحسد على مركزه، أصبح لزاما عليه أن ينفخ في الآلة روحا جديدة، وأن يعيد تنظيم العلاقات استعدادا لانطلاقة جديدة». وفي الوقت الذي اعتبر فيه البعض أن هذه الرسالة قد تذيب كل الجليد الذي تراكم بين جماعة العدل والإحسان ونظام الحسنفي المغرب، لم تحقق الرسالة رهانها، خصوصا وأنها تضمنت حديثا عن ثروة الملك الراحل، وبالتالي ثروة الأسرة الملكية، وهو ما وصف وقتها بلعبة شد الحبل التي انتهت إلى إبقاء الوضع على ما هو عليه. سيكون حدث رحيل الشيخ ياسين وتلك الأعداد الكبيرة، التي سارت خلفه إلى مثواه الأخير بمقبرة الشهداء بالعاصمة الرباط، بمثابة رسالة جديدة بين الجماعة ونظام محمد السادس، الذي عيب عليه أنه لم يستثمر الحدث لمد اليد إلى العدل والإحسان. جنازة كشفت في كل مظاهرها أن رهان القوة لا يزال متواصلا بين طرفي النزاع. أما حينما تفجرت الشوارع بمسيرات العشرين فبراير، التي نادت بربيع مغربي، بعد الذي حدث في تونس ومصر وغيرها من البلدان العربية، فقد وجدت جماعة العدل والإحسان فرصتها المواتية لكي تخرج إلى الشوارع وتضع اليد في يد من ظلت تعتبرهم إلى الأمس القريب خصوما سياسيين، وكأني بها اعتمدت مبدأ «الغاية تبرر الوسيلة». لذلك ظلت حاضرة في المسيرات والوقفات الاحتجاجية، قبل أن تختار بقرار من قادتها الكبار، العودة إلى كمونها، خصوصا أن لعبة شد الحبل بينها وبين النظام، لم تتوقف على مستوى توجيه الاتهامات ذات البعد الأخلاقي لعدد من رموزها. غير أن وفاة زوجة الشيخ ياسين، خديجة المالكي، والمواجهة التي اندلعت بين الجماعة وبين أجهزة الدولة حول مكان دفنها، أعاد فصول رهان القوة بين الطرفين إلى واجهة الأحداث. في هذا الخاص، نعيد ترتيب أقوى فصول المواجهة بين جماعة العدل والإحسان والنظام. فصول لتوهج وتيرتها ثم تخبو بين الفينة والأخرى. جنازة ياسين..الخوف من المرشد حيا وميتا النظام كان متخوفا من جنازة مليونية كان يوم الأربعاء الثاني عشر من دجنبر من سنة 2012 استثنائيا بالنسبة لجماعة العدل والإحسان، بعد أن وصلها خبر المرض الذي أصاب شيخها عبد السلام ياسين، الذي أصيب بنزلة برد حادة لم تنفع معها كل الإسعافات التي باشرها فريقه الطبي في إنقاذ حياته. ولأن أتباع الشيخ ظلوا يعتبرونه أشبه بالقديس، فقد أيقنوا أن الداء سيزول، وأن الشيخ سيعود إلى قوته، لكن لا راد لقضاء الله. مات عبد السلام ياسين صباح اليوم الموالي وهو محاط بأعضاء مجلس الإرشاد الأربعة عشر. وكتبت يومية «إلباييس» الإسبانية، وهي تنقل خبر وفاة مرشد جماعة العدل والإحسان عبد السلام ياسين، أن جنازة الشيخ ستكون أكبر من جنازة الحسن الثاني، في إشارة إلى أن هذا الرجل، الذي وضعه الملك الراحل تحت الإقامة الجبرية وهو يتوصل منه برسالته الشهيرة «الإسلام أو الطوفان»، قبل أن «يطلق» محمد السادس سراحه، قادر على أن يجمع حوله الملايين حيا وميتا. من نفس المسجد الذي صلى فيه الاتحاديون في يناير من سنة 1992 على جثمان فقيدهم عبد الرحيم بوعبيد، صلى العدليون على جثمان مرشدهم الشيخ عبد السلام ياسين. وعلى امتداد نفس الشوارع والطرقات التي قطعها جثمان سي عبد الرحيم، مر جثمان الشيخ في اتجاه مقبرة الشهداء بالعاصمة الرباط في جنازة مهيبة حضرها الأتباع والمتعاطفون من كل حذب وصوب. جنازة اختار العدليون أن تسير صامتة بدون تكبير ولا تهليل، كما هي عادة بعض أتباع السلفية. لقد عُيب على العدليين أنهم أخروا حمل جثمان الشيخ من الخميس إلى الجمعة الموالي، على الرغم من أنهم أكثر تشددا في تطبيق السنة النبوية التي تقول إن «إكرام الميت دفنه». لكن الجماعة كانت لها رسائلها السياسية التي تريد أن تبعث بها لمن يعنيهم الأمر، خصوصا أن المواجهة بينها وبين النظام، لم تتوقف حتى بعد أن استفاد الشيخ ياسين من «عفو ملكي»، على عهد الملك الجديد، ولعل أكبر الرسائل التي راهنت عليها، هي تلك الأعداد التي تقرر أن تسير خلف جثمان الشيخ. لم تحضر الدولة هذه اللحظة، رغم أن الكثير من المتتبعين والدارسين لفكر الجماعة نادوا بذلك من أجل فتح قنوات التواصل معها ومنحها فرصة المشاركة في الحياة العامة للبلاد. لكن أعدادا كبيرة من القادة السياسيين والنقابيين والحقوقيين مشوا في جنازة الشيخ، رغم أن بعضهم ظل يعلن اختلافه الجذري مع أفكار الجماعة. كانت مقدمة الجنازة قد تشكلت من قيادة مجلس الإرشاد، والتي تضم أربعة عشر عضوا. وهي الإشارة السياسية التي قال الكثيرون إنها تعني أن الجماعة سائرة على نفس النهج الذي رسمه ياسين. وكانت بذلك تعلن عن الاستمرار في لعبة شد الحبل بينها وبين النظام. كما حضرت قيادة حركة التوحيد والإصلاح، الذراع الدعوي لحزب العدالة والتنمية، رغم أن أمينه العام ورئيس الحكومة عبد الإله بنكيران لم يحضر. حضر محمد الساسي القيادي في الحزب الاشتراكي الموحد، وسار خلف نعش الشيخ خالد السفياني. وبدا أن غياب ممثلي الأحزاب السياسية كان أيضا رسالة يقول مضمونها إن فكر الجماعة لا يزال غير مقنع للكثيرين، خصوصا أن محمد العبادي، الذي تلا رسالة التأبين، خلص إلى أن جماعة العدل والاحسان لن تغير من منهجها رغم رحيل مرشدها، الذي أصبح اليوم «إماما مجددا» وليس مجرد مرشد. حينما وصل خبر وفاة الشيخ، تحرك التنظيم بقوة لدعوة أنصاره إلى يوم كبير هو يوم دفن «الإمام». جاؤوا من كل المدن والقرى والمداشر. وحضر الكثيرون من خارج المغرب لتوديع رجل اعتبروه أكبر من زعيم ديني أو سياسي. إنه بالنسبة للموغلين في الارتباط بجماعة العدل والإحسان، «قديس» وذو فكر عظيم، على الرغم من أنه خسر رهان «القومة» التي سبق أن بشر بها دون أن تتحقق. وكعادتها، لا بد للسلطة أن تدخل على الخط، حيث اختارت أن تمنع بعض العدليين من الوصول إلى العاصمة الرباط، خصوصا من بعض المدن التي تعرف بحضور وازن للجماعة. لكن الأعداد وصلت وسارت خلف جثمان الشيخ المرشد، الذي سيسميه العدليون بعد وفاته بالإمام. بين ما وعدت به جماعة العدل والإحسان من أن جنازة الشيخ ياسين ستكون مليونية، وبين ما قدمته السلطات من تقدير لعدد الذين حضروا، ضاعت الحقيقة. لكن الأكيد هو أن الجنازة كانت اسثتنائية وحملت معها جملة من الرسائل، كان في مقدمتها أنها عادت لتقول إن المواجهة لا تزال قائمة بين طرفي النزاع. قال العبادي، في رسالة التأبين التي كلف بتلاوتها، وفي ذلك رسالة أخرى تقول إن العبادي كان هو المرشح ليكون خليفة لياسين على رأس العدل والإحسان: «إذا كان هذا الرجل تحبونه وتلتقطون له صورا، فينبغي نقش الصور في قلوبنا وروحه ساكنة في أضلعنا وأن نجعله يحيى حياة أبدية بيننا»، قبل أن يضيف أن «المعالم الربانية التي رصها «الشيخ» في صفوفنا ينبغي العض عليها بالنواجد لأنها لب الدين.. لقد عاش الشيخ للأمة وتحرك من أجلها»، يخلص العبادي. كانت جنازة عبد السلام ياسين سياسية أكثر منها مجرد دفن جثمان رجل رحل. فلم يحضر النظام ليقول لأتباع الجماعة إنه لا يزال غير مقتنع بالكثير من الأفكار التي يتم تداولها. ورفض كبار الجماعة أن يدفن الشيخ بعيدا عن مقبرة الشهداء مع بسطاء القوم. وبدا أن تلك المحاولات التي سعت إلى تقريب وجهات النظر بين جماعة تشكك في النظام، وسلطة تسعى إلى نزع شوكتها واستيعابها في اللعبة السياسية، سرعان ما جاءت جنازة الشيخ لتؤجلها إلى حين. وبذلك شكلت هذه الجنازة محطة بارزة ضمن محطات المواجهة بين العدل والإحسان والنظام. محطة كشفت فيها الجماعة عن عناصر قوتها حينما جاءت بتلك الأعداد الكبيرة التي ملأت كل جنبات الطريق المؤدية إلى مقبرة الشهداء. حينما تصبح تهمة الخيانة الزوجية فصلا من فصول المواجهة طالت نادية ياسين وغلام والريق وزروق وآخرين يتداول بعض المتتبعين لشأن جماعة العدل والإحسان ومواجهاتها مع النظام التي لم تسدل بعد ستارها، نكتة طريفة لكنها دالة. تقول النكتة في شكل تساؤل، لماذا توجه لرموز الجماعة دوما نفس تهمة الخيانة الزوجية من قبل أجهزة الدولة، دون غيرهم من الخصوم السياسيين؟ ألم تعثر على تهم أخرى، أم أنها تراهن على اللعب في نفس ملعب الجماعة الذي يبني كل رأسماله على الأخلاق؟ مهما يكن، ففي كل هذه الحالات التي تتفجر فيها قصة خيانة زوجية يكون بطلها واحدا من رموز هذه الجماعة، نعيش فصلا جديدا من المواجهة بين الطرفين، ينتهي إما باعتقال المتهم أو بإطلاق سراحه. وهي حالات تتشابه قصصها، حيث تبدأ الحكاية باعتقال العضو من طرف مصالح الأمن، قبل أن تعود السلطات لإطلاق سراح «المتهم»، إما ل«عدم كفاية الأدلة» أو «لتنازل الزوج أو الزوجة». آخر فصل عاشته الجماعة هو المتعلق باعتقال القيادي مصطفى الريق بتهمة الخيانة الزوجية وإيداعه السجن قبل أن يتم إطلاق سراحه بعد أن تم حفظ الملف. لقد قالت مصالح الأمن إن الريق وجد متلبسا بالخيانة الزوجية بإحدى الشقق بمدينة الدارالبيضاء، وإنه وضع تحت الحراسة النظرية بتعليمات من النيابة العامة قبل أن يتم إخبار زوجته. وهي رواية يعتبرها الريق ومسؤولو الجماعة مفبركة. أما الحقيقة، حسب جماعة العدل والإحسان، فهي أن الريق اختطف وزج به في السجن بعد أن شارك في دفن جثمان زوجة الكاتب العام للكونفدرالية الديمقراطية للشغل نوبير الأموي. وبين الروايتين كادت تضيع الحقيقة، خصوصا أن مسار القضية توقف بعد أن هددت الجماعة بالتصعيد ليتم حفظ الملف وإطلاق سراح مصطفى الريق، الذي عاد إلى مقر إقامته لكي ينظم مهرجانا خطابيا يحكي فيه عن ظروف اعتقاله، وعن التهمة التي اعتبرها جاهزة وهي تهمة الخيانة الزوجية التي يراد بها ضرب مصداقية الجماعة. وقبل الريق، كان منشد الجماعة رشيد غلام قد اعتقل بمدينة الجديدة في 2007 بنفس تهمة الخيانة الزوجية. قالت مصالح الأمن وقتها إن غلام انتقل إلى مدينة الجديدة واكترى شقة بحي البركاوي الشهير. وهناك وفرت له صاحبة المحل فتاة في مقتبل العمر، قبل أن يتم اقتحام الشقة واعتقال رشيد غلام بتهمة الخيانة الزوجية. لم تتحرك الجماعة حينما وصلها خبر الاعتقال، بل إنها سارعت لكي توفر لمصالح النيابة العامة تصريحا من زوجة المعتقل بالتنازل، على اعتبار أن التهمة هي خيانة زوجية. لكن النيابة العامة سترفض إطلاق سراح غلام وتتابعه بتهمة الفساد. وقتها أصبح للقضية وجه آخر سياسي، وخرجت الجماعة إلى العلن تقول إن منشدها تعرض للاختطاف والاعتقال، وإن حكاية الخيانة الزوجية والفتاة، التي قدمت هي الأخرى في حالة اعتقال، مجرد تصفية حساب وتصعيد جديد ضد جماعة الشيخ عبد السلام ياسين. وانتهت محاكمة رشيد غلام، بالحكم عليه بالسجن شهرا حبسا نافذا، رغم التنازل الموقع من زوجته لإسقاط متابعته من أجل الخيانة الزوجية، حيث طالبت النيابة العامة بمتابعته بتهمة التحريض على الفساد. لقد رافق هذه القضية الكثير من الجدل. واتضح أن ثمة حلقات لا تزال مفقودة في الحكاية، بالنظر إلى أن الإسراع بإحضار تنازل الزوجة كان يعني أن غلام متورط وكان يبحث عن دليل للخروج من الاعتقال، قبل أن تصبح القضية تصفية حساب مع جماعة العدل والإحسان. كما أن اعترافات غلام أثناء المحاكمة شابتها بعض نقط البياض التي تطرح السؤال: هل تم الزج بمنشد الجماعة في السجن بسبب هذه التهمة أم لأسباب أخرى». سارعت الجماعة إلى اتهام مصالح الأمن بكون غلام تعرض لعملية اختطاف من طرف عناصر أمنية بلباس مدني، حيث تم تجريده من ملابسه الداخلية، وإدخاله بيتا لتلتحق به سيدة تمتهن الدعارة. لم تسلم من هذه التهمة نجلة مرشد الجماعة الراحل عبد السلام ياسين، لكن بصيغة أخرى، هي نشر مجموعة من الصور عبر منابر إعلامية إلكترونية تظهر فيها نادية ياسين برفقة صديق لها وهي تجوب شوارع العاصمة اليونانية أثينا. وقد قيل إن هذا الصديق كان زميلا لها في الدراسة بالبعثة الفرنسية بمراكش، وإن صداقتهما أضحت حميمية. كان لا بد أن تتحرك الجماعة للرد على نشر هذه الصور التي اعتبرتها فصلا آخر من فصول الضرب الذي تتعرض له. أما المتهمة الرئيسية، وهي نجلة الشيخ عبد السلام ياسين، فقد اتهمت المخابرات المغربية بفبركة الصور، والوقوف وراء نشرها من خلال حملة مغرضة ترمي إلى الإجهاز على سيدة تزعجه، على حد تعبير نادية ياسين، واصفة ما نُشر ضدها بأنه «قذف وتشهير في حقها وعائلتها»، بعد أن اختارت أن تضمن بيانها شعار «ماتقيش عائلتي»، الذي أكدت فيه أن «لجوء المخزن إلى هذه الأساليب الدنيئة دليل على أنه يلعب آخر أوراقه قبل أن يلفظ آخر أنفاسه». ملف نجلة الشيخ ياسين تحرك، كما تقول الجماعة، بعد التحركات التي قامت بها في أوروبا وما تناقلته وسائل الإعلام من تصريحات لنادية تؤكد من خلالها أن الملكية ليست ضامنة لاستقرار البلاد. وفي 2012، تعرضت القيادية في جماعة العدل والإحسان هند زروق، للاعتقال بتهمة الخيانة الزوجية، حيث قالت مصالح أمن فاس إن زروق تم ضبطها في منزل شخص لا تربطها به أي علاقة شرعية، ولذلك تقرر توقيفها في إطار القانون٬ وبسبب جريمة تتعلق بالحق العام، بعد أن توصلت مصالحها بوشاية تتحدث عن استقبال رجل متزوج لسيدة بمسكنه خارج إطار الزوجية. كان لا بد للجماعة أن تنفي هذه التهمة وتعتبرها وسيلة لضرب مصداقية قيادية كانت هي منسقة عائلات مختطفي العدل والإحسان السبعة السابقين بفاس. تهم الفساد الأخلاقي لن تطال زروق وغلام ونادية ياسين، ولا مصطفى الريق أخيرا. بل إنها أضحت، كما تقول الجماعة، وسيلة للإيقاع برموز العدل والإحسان. لذلك تأتينا الأخبار بين الفينة والأخرى عن حالات هنا وهناك. ومن ذلك ما نشر عن عضو بالجماعة تم اتهامه بممارسة الفساد والخيانة الزوجية مع سيدة بمدينة مكناس، وما نشر حول سيدة متزوجة قيل إنها تنتمي إلى «الجماعة»، ومتزوجة حينها بأحد قياديي التنظيم بمنطقة صفرو، حيث تم ضبطها بأحد الدواوير بضواحي فاس، رفقة شخص لا انتماء سياسي له، في حالة تلبس، كما قالت مصالح الأمن. هو مجرد فصل من فصول عدة حول لعبة شد الحبل بين الجماعة والنظام. فصل أخلاقي لضرب جماعة تعتبر أن الأخلاق هي كل رأسمالها الرمزي. قبر " الفقيرة" الذي أعاد المواجهة بين الجماعة والسلطة بسبب سعي العدل والإحسان إلى دفنها إلى جانب المرشد بعد فترة هدوء عاشتها جماعة العدل والإحسان في حربها المفتوحة مع الدولة المغربية، لعل آخرها حكاية اعتقال أحد قيادييها، وهو مصطفى الريق، بتهمة الخيانة الزوجية، قبل أن يتم إغلاق الملف، جاء حدث وفاة رفيقة درب مرشد الجماعة الراحل عبد السلام ياسين، السيدة خديجة المالكي، لكي يخرج الجماعة عن صمتها، ويدفع بالدولة إلى المواجهة من جديد. والحكاية هي مجرد قبر «الفقيرة» كما يطلق عليها، الذي كانت الجماعة قد اختارت مكانه بمقبرة الشهداء بالرباط إلى جانب قبر زوجها. سترفضه مصالح الأمن لأسباب تعتبرها وجيهة. لكن جنازة أرملة الشيخ ياسين، وظفت كوسيلة للمواجهة من جديد. البعض رأى أن الجماعة اختارت أسلوب المواجهة، وتوظيف حدث رحيل السيدة خديجة المالكي في صراعها السياسي ضد الدولة المغربية فيما اعتبر مزايدات سياسية، خصوصا أن حدث المواجهة حول مكان قبر الراحلة، سجل حضورا إعلاميا قويا كشف مرة أخرى عن وجه الجماعة كقوة سياسية لا يستهان بها. لقد قال بلاغ ولاية الرباط إنه تم بمقبرة لعلو دفن جثمان المرحومة خديجة المالكي، أرملة عبد السلام ياسين، بعد التزام أقربائها باحترام أحكام الشريعة الإسلامية. غير أن الجماعة خرجت لتفنيد ذلك معتبرة أن السلطات الولائية لمدينة الرباط قامت برفض دفن المرحومة بجوار زوجها، الراحل عبد السلام ياسين، بناء على رغبتها، وذلك إمعانا من هذه الأخيرة في حصار الأموات بعد أن أعياها حصار الأحياء، على حد تعبير بلاغ الجماعة. وانتقد قياديو جماعة العدل والإحسان ذلك الإنزال الأمني الذي رافق جنازة الفقيرة، وهو إنزال يؤكد أن هدف مصالح الأمن كان هو التصعيد بسبب مكان قبرالراحلة. حينما صرحت مصالح ولاية الرباط بالدفن، تقول الجماعة، تم إعداد القبر بجوار المكان الذي دفن به الشيخ ياسين. وهي رغبة عبرت عنها الراحلة قبل وفاتها، ليفاجأ الجميع بردم القبر بمبرر أنه تم حفره في ممر لا يسمح بالدفن فيه، كما أنه غير مقبل. وهي حجج رأت الجماعة أنها واهية، بالنظر إلى أن المئات من المدفونين بالمقبرة، هم على هذه الحال. ولاية الرباط ردت على هذا الاتهام، وهي تؤكد أن «السلطة المحلية بعمالة الرباط وقفت على مجموعة من الأشخاص وهم يباشرون عملية حفر قبر بمقبرة لعلو يوم الخميس 26 مارس 2015 على الساعة الحادية عشرة صباحا.. وقد أثار انتباهها أن المعنيين بالأمر لم يحترموا النظام الداخلي للمقبرة، وذلك من خلال اللجوء إلى المس بحرمات القبور الموجودة بمحيط المكان الذي تم اختياره لدفن جثثهم، وكذا الدخول في الممر المخصص لمرور مواكب دفن الأموات». وأضاف البلاغ أن «المعنيين بالأمر لم يتوقفوا عند هذا الحد، بل تعدوه إلى اللجوء لحفر القبر بطريقة مخالفة لإجماع الأمة حول تكريم الميت المراد دفنه من خلال تقبيله القبلة. تفسير رفضته الجماعة التي أكدت أن سلطات ولاية الرباط راهنت على استفزاز الجماعة، حينما رفضت الترخيص بدفن زوجة مرشدها إلى جانب قبره احتراما وتنفيذا لوصيتها. وتظهر ملامح الاستفزاز من خلال الحضور الأمني الكبير حول محيط المقبرة، والذي منع أقرب المقربين من دخولها. ومن هؤلاء بناتها، وفي مقدمتهم نادية ياسين التي تعرضت حسب الجماعة للدفع والتنكيل لمنعها دخول المقبرة أثناء عملية الدفن. لقد تم دفن «الفقيرة» التي ودعتها أسرتها بالدموع وبحضور كبير لقوات الأمن الذين حاصروا المقبرة. لكن جماعة العدل والإحسان فهمت أن في ذلك الحصار، رسالة قوية من الدولة المغربية مفادها أن المعركة لا تزال متواصلة، وأن قبر «الفقيرة» كان مجرد فصل من فصول هذه المعركة. هكذا انخرطت العدل والإحسان في «الربيع المغربي» حينما تحركت رياح الربيع العربي، ووصل صداها إلى شوارع المدن المغربية، وخرج شباب العشرين من فبراير، الذين سيؤسسون لحركة ثورية طالبت بإسقاط الفساد، وجدت العدل والإحسان أن نفس المطالب التي ظلت تنادي بها الجماعة، هي التي خرج من أجلها شباب هذه الحركة. لذلك كان قرار الالتحاق بحركة 20 فبراير سريعا، وهو ما أربك الطبقة السياسية المغربية، وقسم اليسار بين مؤيد ورافض للاشتغال معها بعد أن شكك في نواياها. لم تكن الخلافات بين شباب العشرين من فبراير والقادمين من جماعة الشيخ عبد السلام ياسين، ظاهرة. فالتوافق فرضته نفس المطالب ونفس الهواجس. كيف يمكن لحركة أن تنتزع الحقوق، وتساهم في إسقاط الفساد ورموزه؟ لقد ساد الاحترام بين كل المكونات، وكان التنسيق الميداني بين مكونات هذه الجماعة مع أطراف يسارية فرادى أو جماعات، طريقا لتأسيس عهد جديد بشعار بناء الثقة التي كانت مفقودة قبل تاريخ 20 فبراير 2011. غير أنه بعد مرور 10 أشهر من العمل المشترك والنضج الذي أبان عنه الجميع، بالرغم مما أحدثته هذه الجماعة من انشقاقات وتصدعات في الصف الديمقراطي، سيتقرر خروج الجماعة من الحركة. وهو ما طرح السؤال عن خلفيات هذا الخروج المفاجئ لجماعة العدل والإحسان من حركة عشرين فبراير، يوم أصدرت الأمانة العامة للدائرة السياسية لجماعة العدل والإحسان بيانها تدعو فيه إلى انسحاب الجماعة رسميا من حركة 20 فبراير. وهو القرار الذي اعتبره الكثيرون مفيدا للنظام ولحكومة بنكيران، أكثر مما أفاد الحركة والجماعة. لذلك بدأت التعاليق وطرحت الأسئلة: كيف حدث ذلك؟ هل لأن الجماعة وقعت على صفقة سياسية مع النظام لكي يتم عزل شباب العشرين من فبراير؟ لم يكن بيان الدائرة السياسية للجماعة حول الانسحاب من حركة العشرين من فبراير مقنعا للكثيرين، رغم أنه لم يفوت الفرصة لكي ينتقد وبشدة حكومة عبد الإله بنكيران التي وصفها بالحكومة التي لا سلطة ولا إمكانيات لها، وأنها جاءت لتلطخ سمعة الإسلاميين، وإضفاء الشرعية الدينية على الإسلام المخزني الموظف للدين. كما أنه ظل يتحدث مرة عن قيمة الحركة والدور الكبير الذي قامت به، وتارة يوجه لها سهام النقد، ويتهم بعض أطرافها بدفع الجماعة للخروج منها، دون أن يفوت البيان فرصة توجيه أشد عبارات النقد لليسار، الذي كانت الجماعة بالأمس القريب، حليفة له في الحركة. قبل أن يخلص البيان، فيما يشبه تأكيدا على استمرار المواجهة بين الجماعة والنظام، إلى دعوة «كل الفضلاء إلى الاصطفاف إلى جانب القوى المطالبة بالتغيير ضد نظام مخزني عتيق أثبتت هذه المدة أنه مقاوم للإصلاح، ومصر على الاستمرار بنفس العقلية والمنهجية الاستبدادية».. و»من أجل مغرب تسوده الحرية والكرامة والعدل». لقد قرأ المتتبعون قرار انسحاب جماعة العدل والإحسان من حركة 20 فبراير على أنه بمثابة انسحاب من المعركة ضد الفساد والاستبداد، لأنه نجح في تدمير كل خيوط الثقة والتواصل التي تم تحقيقها بينها وبين باقي مكونات المجتمع المكونة للحركة، التي تركت لحالها في مواجهة القمع والاعتقالات. كما أن الحديث الذي روجه البعض عن كون حراك العشرين من فبراير كان له سقف معين يجب ألا يتجاوزه، مجرد هروب إلى الأمام من قبل الجماعة والداعين للخروج من الحركة. حينما نتأمل كل المسار الذي نهجته جماعة العدل والإحسان وهي تنخرط في حركة العشرين من فبراير، نكتشف كيف أنها أرادت فقط أن تعلن للدولة عن استمرارها في رهان القوة الذي عاشته لسنوات. لذلك فمباشرة بعد التعبير عن موقفها السياسي برفض دستور 2011، وما جاء به من إجراءات، اعتبرها جل الفاعلين السياسيين خطوة إلى الأمام مقارنة مع كل الدساتير التي جربها المغرب منذ 1962، عادت الجماعة إلى سباتها الشتوي، وقررت الانسحاب من دعم الحركة. لقد فهمت الجماعة، من دون شك، كيف أن المنهجية الديموقراطية قادت حزب العدالة والتنمية الإسلامي إلى المسؤولية الحكومية، وإلى تدبير الشأن العام، في الوقت الذي لم تحقق فيه انتفاضات ما عرف بالربيع العربي ما راهنت عليه. وهي الانتفاضات التي شاركت فيها العدل والإحسان، كفصيل إسلامي محافظ يشارك في التظاهرات الاحتجاجية ضمن حركة 20 فبراير. ولا شك أنه استخلص أيضا عدة دروس فرضت عليه إعادة النظر في التحالفات التي كونت الحركة وجعلتها حركة شبابية ضمت تيارات إسلامية ويسارية. لقد كشفت حركة العشرين من فبراير وانخراط جماعة العدل والإحسان فيها، قبل قرار الانسحاب، كيف اختارت أسلوبا جديدا في اللحاق بالشرعية الديموقراطية، وإن اكتفت بالتلميح لاستعدادها الانتقال إلى حزب سياسي، أكثر من التصريح. وظهر بذلك أن كل ما كان يصدر عنها من مواقف وممارسات، تجاوز مع حركة العشرين من فبراير، حدود الوعظ والإرشاد، ليتجه رأسا نحو ممارسة جوهر العمل السياسي، وإن كان بدون تسميته. ولا شك أن دعوتها إلى مقاطعة دستور عام 2011 أظهرت أننا أمام حزب سياسي راديكالي معارض. ولا شك أن هذه واحدة من فصول المواجهة التي لا تزال مشتعلة بينها وبين النظام.