في الأسبوع الماضي، رحل رجل اسمه مصطفى محمود. كان مصطفى محمود رجلا لا يستقر في مكان ولا تعجبه الفكرة التي تبقى مدة طويلة، لأن رجل المعرفة يسعى دائما إلى التجديد، ويعتبر أن الفكرة التي لا تجدد نفسها، فإن القمامة أولى بها. ولذلك تقلب هذا العالم والمفكر في كل شعبة من شعب الأفكار وخاض بحورا من المعارف ورسا، في النهاية، عند شاطئ وحيد، تلتقي عنده صخور الإيمان بأمواج العلم. وقال البعض إن هذا هو التصوف العصري، التصوف الذي يقول وداعا للخرافة ويعانق رحابة العلم المؤدي إلى اليقين. وبينما كان الآخرون يعكفون على شيخ يقبلون يديه ويتبركون باقتفاء آثار قدميه، كان مصطفى محمود يعكف على دنيا العلم، باحثا عن بصمات المطلق في حياة النمل والنحل. قاد النمل الإسكندر المقدوني إلى النصر بعد هزيمة شنعاء في إحدى المعارك، بعدما اختلى بنفسه مفكرا في استراتيجية الخروج من الهزيمة، فاهتدى إلى خطة عسكرية جديدة من ملاحظة نملة تحاول أن تصعد بحبة قمح في مرتفع صغير، ونجحت بعد محاولات مكرورة. فهم الإسكندر الدرس ورأى أن محاولة واحدة للنجاح لا تكفي. وربما حصل الأمر ذاته لمصطفى محمود، الذي قدم، قبل سنوات، حلقات تلفزيونية عن مجتمع النمل، أدرك من خلاله فلسفة الوجود الإنساني. لقد رأى أن النمل، الذي يبدو في الظاهر وهو يتدافع في اتجاهات متعددة بلا غاية، يخفي على العكس من ذلك فلسفة كاملة للإنسانية، وأنه ليس من غير معنى أن تأخذ سورة قرآنية كاملة اسمها من هذه المخلوقات الدقيقة التي لا يأبه لها الإنسان وهو يمشي، جاء فيها «حتى إذا أتوا على وادي النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون». تقلب مصطفى محمود في عدة فلسفات في البداية، وكان هذا التقلب مصحوبا دائما بالجدل، لأن الرجل لم يكن يهدأ وكان دائم البحث عن اليقين. اعتنق الوجودية عندما كانت صرعة إيديولوجية وفكرية عالمية مع سارتر وكيركجارد وكامي، فحملها عبد الرحمان بدوي إلى العربية وكان أبرز دعاتها في العالم العربي. ثم اعتنق الماركسية، عندما كانت هذه موضة العصر طيلة عقود في الماضي، وفي الأخير اعتنق الإسلام وكتب كتابه المثير للجدل «رحلتي من الشك إلى الإيمان»، متجلببا بتجربة أبي حامد الغزالي صاحب «المنقذ من الضلال». وراح الرجل بعد ذلك يخوض السجال مع الماركسيين والماديين في مصر والعالم العربي، فكتب «الماركسية والإسلام»، و«حوار مع صديقي الملحد». وكان هذا الكتيب الصغير يدور به الطلبة الإسلاميون في الجامعة مثلما كان الماركسيون يطوفون ب«البيان الشيوعي». كان صغيرا وسهلا وسريعا مثل وجبة «الهامبورغر»، وفيه حوار مبسط ومنطقي من أجل الإقناع. لم يقف مصطفى محمود عند وضع الأفكار الجاهزة في مختبر التحليل المنطقي والجدل العلمي والمنهج البرهاني، بل تجاوز ذلك إلى وضع ما أسماه تفسيرا عصريا للقرآن، أثار هو الآخر جدلا في الأوساط الدينية والفكرية في مصر والعالم العربي، وكان جزء من الجدل مرده إلى أن صاحبه غير محسوب على الإسلاميين، وليس مفكرا دينيا بالمعنى الكلاسيكي للكلمة، ولكنه رجل يعتبر أن الإسلام ملك للجميع وأنه ليس فيه أوصياء ولا كنيسة ولا باباوات. وكان يقول دائما إن كلمة «عقل» ذكرت في القرآن 49 مرة، وذكرت كلمة «العلم «768 مرة، وذكر «القلب» 172 مرة، و«البصر» 147 مرة، أما كلمة «الذِّكر» بمعنى التساؤل والتدبر، فقد ذكرت في القرآن 268 مرة. ومع ذلك كان مصطفى محمود يفهم أن العلم هو أن تكون إلى جانب الناس، فبنى في عام 1979 مسجد «مصطفى محمود» في القاهرة، ضم ثلاثة مراكز طبية ومستشفى تهتم بعلاج ذوي الدخل المحدود، وأربعة مراصد فلكية، ومتحفا للجيولوجيا.