في العالم الحر الذي نستورد منه برامجه الإصلاحية دون اجتهاد، تعتبر ثقافة المحاسبة والمساءلة جوهر دولة المؤسسات، فالمشاريع والاقتراحات والتعهدات وغيرها التي يقدمها المسؤولون عن القطاعات العمومية وشبه العمومية، تخضع دوما لفحص تقويمي دقيق، وفي حالة الفشل أو ظهور دلائل للتعثر، فإنه لا بد لجهة ما أن تتحمل المسؤولية، سواء كانت إدارة أو حزبا أو حتى شخصية، فتتعرض هذه الجهة لشتى أنواع المساءلة، شعبيا من خلال الانتخابات أو الصحافة أو المجتمع المدني، وسياسيا، من خلال الرقابة البرلمانية الحقيقية، بل وحتى المتابعة القانونية أحيانا، وهذه الثقافة تعتبر مناخا صحيا لازما في تدبير المجال العمومي الذي يُمول من جيوب دافعي الضرائب، ووضع مثل هذا بعيد كل البعد عما ألفناه نحن من تلفيق للحقائق وتزوير للأرقام وتبرير للأخطاء.. فالقطاعات العمومية عندنا راكمت عقودا من ثقافة الإفلات من العقاب والهروب من المساءلة، والأنكى هو تبرير الفشل بما استجد من هلوسات العجزة طويلي اللسان، آخرها تبرير بعض أعضاء حكومة الفاسي بلا موضوعية المعايير التي اعتمدها تقرير التنمية الذي وضعنا في الرتبة 031 عالميا، وراء بلد مقسم الأوصال بالطائفية هو لبنان الرتبة 83، وبلد عربي آخر مقسم الأوصال بالاحتلال هو فلسطين الرتبة 011، وكأننا مظلومون لاستحقاقنا مرتبة أكثر تقدما، مع أن واقع الحال يظهرنا وكأننا بلد خرج للتو من زلزال مدمر أو استعمار هدام، إذ لا يوجد قطاع واحد يسمح لنا حاله باختراع تخريجة كهذه..، الأمر نفسه حصل ويحصل وسيحصل، مادام حالنا هذا، في قطاع هو الثاني من حيث الأهمية الإستراتيجية بعد قضية وحدتنا الترابية هو قطاع التربية والتكوين. فالجميع ثمن مضمون التقرير الأول للمجلس الأعلى للتعليم الذي قدم حصيلة لعشرية الإصلاح، إذ إنه نطق باسم حال القطاع بدرجة محترمة من الموضوعية، لكن ما لم يسجله التقرير هو تحديد المسؤوليات، فوراء كل ما تم تسخيره من إمكانات مادية وبشرية لإنجاح دعامات الميثاق، ووراء كل المنتديات واللقاءات وأشكال التعبئة، كانت هناك إرادة بشرية ما، في مكان ما، لها وزن قوي ومؤثر، سعت للحؤول دون تحقيق رهانات عشرية الإصلاح، وهي لم تضح، إذ فعلت، فقط بقطاع عمومي يُكَوِّن البشر، بل وبمستقبل أمة بكاملها، وهذه الجهة ينبغي أن تقدم كشفا للحساب وتتعرض للمساءلة. صحيح أن الموقف أشبه بنار حارقة وطوفان جارف قد يمس أفرادا أبرياء، لكن مستقبل أمة يبقى دوما أهم وأشرف من مستقبل بضعة أفراد مهما علت قيمتهم.. إن المسألة التعليمية مسألة مرتبطة بإرادة سياسية أولا وأخيرا، وهذا الموقف بعيد عن أية مزايدة، فهل فشلَ مسلسل إصلاح المنظومة التربوية؟ نعم، وبشكل ذريع أيضا، هل ينبغي اليأس؟ أنّا لنا ذلك، «فلازال في الدرب درب لنمشي ونمشي» بتعبير درويش، غير أن البداية ينبغي أن تكون بتحمل أحدهم كامل المسؤولية في فشل عشرية الإصلاح، وعندما نقول هذا، فلأن التقرير هو إعلان صريح عن فشل عشرية الإصلاح المنبثقة عن الميثاق الوطني، بالتالي كان أولى من الناحية الأدبية أن يُقال أو يستقيل السيد بلفقيه من مهام الإشراف على هذا القطاع، فهندسة تعبيد الطرقات و«تزفيتها» التي يتخصص فيها، ليست هي هندسة الرأسمال البشري التي تراهن عليها المنظومة التربوية، أما السيدة العابدة ونظرا إلى المسؤولية التي كانت تحتلها في التسع سنوات الماضية، هي عمر الإصلاح، فيجب أن تتم مساءلتها برلمانيا، صحبة الوزير آنذاك المالكي، إما من طرف لجنة برلمانية، أو من طرف المجلس الأعلى للتعليم ذاته، لأن إشارة التقرير إلى مفهوم الاختلالات البنيوية في أكثر من موضع، يعني بكل بساطة أنه لا شي أُنجز، وبالتالي فحديث المخطط الاستعجالي في ديباجته عن «تثمين الإصلاح واستكمال الإصلاح واستيعاب الدينامية الناتجة عنه» هو تناقض مع المصرح به من طرف تقرير المجلس الأعلى، لأنه وفق منطق البداهة والعقل السليم، لا يمكن لإصلاح يدعي الشمولية والاستعجالية..أن يراهن على تثمين واستكمال الاختلالات.. لكن هذا للأسف ما لم نستطع إقراره في القطاع العمومي لهذا البلد، لارتباطه بوضعية أعم، وهي طبيعة نظامنا السياسي،و الذي استطاع أن يراكم تقاليد الإفلات من المساءلة على نحو يثير الاشمئزاز، اللهم إلا من بعض «الحْجَّامة» الذين يعلَّقون عندما تقع كارثة في قطاع عام، تماشيا مع قيم الشفافية..، كتحميل المدرس وحده مسؤولية الفشل، مثلما صرح الوزير أخشيشن أكثر من مرة، مع أن تعميما بهذا الشكل يحتاج في حد ذاته إلى الاعتذار..