عبد الكريم الأمراني، الصحافي المثير للجدل، يحكي تفاصيل مهمة من مساره النضالي في صفوف حزبي الاستقلال والاتحاد الاشتراكي، ويقف عند تفاصيل الأحداث التي عاشها على المستوى المهني. يعود إلى مراحل مهمة من تاريخ المغرب كان شاهدا عليها، ويروي كيف كبرت جريدة «الاتحاد الاشتراكي» وأسباب سقوطها، كما يعرج على كواليس ميلاد جريدة «الأحداث المغربية» وأسباب تراجعها في المبيعات والتأثير. الحديث مع الأمراني لايمكنه أن يخلو من الكشف عن أسرار ومناطق ظل كان يجتمع فيها الأمراني مع بعض رجالات الدولة. إليكم اعترافات صحافي ضد التيار... - كنت تهتم فقط بالمقالات الثقافية في بداياتك؟ > في البداية.. نعم.. ولكن مع مرور السنوات، بدأت أقرأ الافتتاحيات وخطب الزعماء، وخاصة علال الفاسي وعبد الخالق الطريس، الذي تعرفت عليه شخصيا أثناء ترؤسه تجمعا عاما في بيتنا بمناسبة الانتخابات التشريعية لعام 1963، التي فاز بها المرشح الاستقلالي البشير لقباقبي بأغلبية ساحقة.. مازلت أذكر أنا الطفل الذي لم يكن عمري يتجاوز آنذاك ال 12 عاما صورة الزعيم الطريس وهو يخطب «وسط الدار» أمام أكثر من ألف مواطن ملؤوا جنبات المنزل وسطحه.. وكان حزب الاستقلال، وقتها، قد خرج إلى صفوف المعارضة... خطاب عنيف ضد «الخونة» الذين استولوا على البلد، والوطنيين الذين ضحوا من أجل الاستقلال، ثم أُبعدوا عن السلطة.. بيتنا الذي احتضن تجمع الزعيم عبد الخالق الطريس، كان قد استقبل الزعيم علال الفاسي، الذي «فر» إليه من زحمة المستقبلين الذين جاؤوا إليه من مختلف مناطق إقليمتازة بعشرات الآلاف، لتهنئته بعد عودته إلى أرض الوطن، في نهاية الخمسينيات، وكان منزل «آل التازي» الذي يبعد عن بيتنا بحوالي مائة متر هو محج المهنئين.. ولكنه طلب «الابتعاد» عنه لأداء الصلاة وأخذ قسط من الراحة.. فأخرجوه من باب جانبي، وتوجهوا به إلى بيتنا حيث أدى ما عليه من صلوات وأخذ قسطا من الراحة، قبل أن يعود إلى بيت آل«التازي »لمواصلة استقبال المهنئين، وقد اغتنم والدي فرصة وجوده في المنزل لإدخالنا، أنا وشقيقي، إلى «الصالة» أو (البِيتْ) الذي كان ممددا فوق فراشه، لتقبيل يده وأخذ بركته.. - بِمَ تحتفظ ذاكرتك في هذه المرحلة؟ احتفظت ذاكرتي في هذه الفترة «الاستقلالية» بعدة أشياء، أهمها على الإطلاق: > معاداة الشُّوريين (المنتمين إلى حزب الشورى والاستقلال)، الذين كانوا يمثلون أقلية «منبوذة» في المدينة، حيث كان أغلب الناس ينظرون إليهم بازدراء يقارب الاتهام بالخيانة.. (عندما تقول «شوري»، كأنك تقول بلغة ومنطق اليوم: «صهيوني»..!). كراهية «الانفصاليين» أو «البركويين»، كما كنت أسمع من والدي.. وقد زاد من هذه الكراهية ما أشيع أثناء حرب الرمال من اتهام للمهدي بن بركة بالخيانة، من خلال دعمه للجزائر في تلك المعركة ضد بلده المغرب.. وبعد اعتقالات يوليوز 1963، زادت كراهيتنا، عمقا، بعد أن أضيف إلى الاتهام ب«الخيانة الوطنية»، اتهام آخر ب«التآمر على العرش»... جاء التنسيق داخل البرلمان أثناء تقديم ملتمس الرقابة سنة 1965، الذي كانت التلفزة تنقله مباشرة، للتخفيف من حدة العداء، وكانت «العلم» تنشر مداخلات النواب الاتحاديين (عبد القادر الصحراوي، الذي اكتسب «نجومية» حقيقية في صفوف الشعب، شأنه في ذلك شأن المحامي التبر، وعبد الواحد الراضي)، إلى جانب مداخلات عبد الخالق الطريس وعلال الفاسي وغيرهم... ثم جاء إعلان حالة الاستثناء، ومفاوضات القصر مع زعماء الحزبين الوطنيين الكبيرين، عبد الرحيم بوعبيد وعبد الله ابراهيم وعلال الفاسي، لتُصحح لدي الصورة عن «الانفصاليين»، الذين بدأت أنظر إليهم بشكل مختلف تماما، خصوصا مع بدء انفتاحي على الفكر الاشتراكي والشيوعي، من خلال أدبيات الآباء المؤسسين، ومن خلال الكتاب- «الإنجيل»، وقتها، بالنسبة إلى كل المتمركسين («أصول الفلسفة الماركسية» لجورج بوليتزر). في سنة 1969، وقع الاعتداء الشهير الذي قامت به عناصر من جهاز المخابرات على مطبعة «الرسالة» التي كانت تطبع جريدتي «العلم» و«لوبنيون».. وكانت قد سبقته محاكمة مديري الجريدتين، بعد نشر «لوبنيون» لخبر يتعلق بتموين الجيش (L’intendance de l’armée)، صدر في أعقابه حكم بالسجن لمدة عام في حق مديرها محمد برادة، وحكم بالسجن مع وقف التنفيذ لمدة ستة أشهر في حق الأستاذ عبد الكريم غلاب، مدير جريدة «العلم». جاء حدث تخريب المطبعة، ثم محاكمة مديري صحيفتي حزب الاستقلال، ثم أحداث «أولاد خليفة» التي ذهب ضحيتها عدد من الفلاحين الفقراء برصاص أفراد القوات المساعدة، لتدفعني بعيدا عن قناعاتي التي تشبعت بها منذ الطفولة الأولى، وتشربتها مع حليب الأم وأحاديث الوالد والعم: الله ثم الوطن ثم الملك... بدأت أطرح أسئلة تتعلق بالدين، ثم بالنظام، وفي هذه الفترة (نهاية الستينيات)، ربطتني صداقة مع شخص بدأ يزودني بكتب سيد قطب، الذي قدمه إلي باعتباره «شهيدا» ذهب ضحية «الطاغوت» الذي لم يكن سوى جمال عبد الناصر، الذي تربينا على حبه، بل إن الوالد أطلق اسمه على أحد أشقائي.. قرأت «ظلال في القرآن» ثم «معالم في الطريق» الذي استهواني مضمونه، وخصوصا حديثه عن «جاهلية القرن العشرين» وعن «البشرية التي تقف اليوم على حافة الهاوية» بسبب الفراغ الروحي الذي تتخبط فيه... كنت أقرب إلى الانخراط في مشروع الإخوان المسلمين، خصوصا الجناح الذي يرتبط بتراث سيد قطب، لو لم أتعرف في هذه المرحلة بالضبط على شخص، قد يستغرب الكثيرون للدور المفصلي الذي لعبه في حياتي.. وهو الصديق عبد الرحمان عاشور. - عبد الرحمان عاشور مدير الإذاعة السابق والمسؤول عن الاتصال حاليا في وزارة الداخلية؟ > بالضبط.. عبد الرحمان عاشور، المسؤول الحالي عن الاتصال في وزارة الداخلية، ومدير الإذاعة السابق.. تعرفت عليه في السنة الأولى من السلك الثاني (ما كان يسمى سابقا بالسنة الخامسة)، وكان يسبقني بسنة دراسية.. كان تلميذا متميزا، خصوصا في اللغة الفرنسية، وكان يقرأ بنهم، وأذكر أنه زودني في هذه الفترة بالعديد من الكتب والمنشورات المحظورة وقتها، منها على سبيل المثال لا الحصر: «مذكرات شي غيفارا» التي أصدرتها منشورات فرنسوا ماسبيرو، (Journal de Bolivie)، بالإضافة إلى أعداد كثيرة من مجلتي «الحرية» (التي كانت تصدرها الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين) و«الهدف» (التي كانت تصدرها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ويرأس تحريرها الشهيد غسان كنفاني)، كما كان يزودني بانتظام بأعداد من صحيفة «غرانما» لسان حال الحزب الشيوعي الكوبي، بالفرنسية.. كنت متعطشا للقراءة والمعرفة، وقد جاءت هذه الكتب والمطبوعات، التي زودني بها الصديق عاشور، لتملأ فراغا كبيرا في رصيدي المعرفي، خصوصا في ما يتعلق بالفكر الاشتراكي... في هذه المرحلة، بدأت الإذاعة الليبية تبث برنامج «التحرير» كل يوم أربعاء.. وهو برنامج كانت تشرف عليه المعارضة الاتحادية في الخارج، وبالتحديد الفقيه البصري وعبد الرحمان اليوسفي ومحمد آيت قدور.. وكان «نجم» البرنامج بامتياز، أحد أبناء تازة من آل التوزاني، الذي كان يقدم فقرة بالدارجة المغربية، تميزها، على الخصوص، طريقة نُطقه التازية لحرف القاف... - كانت الإذاعة مسموعة في تازة؟ > كانت، بالفعل، مسموعة في المدينةوالإقليم.. وكان الناس يتابعون ما تقدمه من معلومات ومعطيات تفضح النظام وممارساته.. وكنت حريصا على متابعتها، بعيدا عن أعين الوالد، الذي كان استقلاليا، وظل مواليا بالرغم من معارضة حزبه السياسية للمؤسسة الملكية، بحكم جذوره الشريفة، فهو نقيب الشرفاء العلويين (مزوار) بظهير ملكي، منحه له الراحل الحسن الثاني، ووالده (جدي) مولاي أحمد الأمراني، كان نقيبا للشرفاء العلويين (مزوار) بظهير منحه له السلطان مولاي يوسف... فكيف يعقل ل «الشريف» ابن «الشريف» حفيد «الشريف» أن يستمع إلى إذاعة لا تتوقف عن شتم رمز النظام المغربي، والتحريض عليه؟!