فعلاً، من أين جاءت؟ فعلاً، يتعجب المرء جدا كيف يمكن قتل أفكار عملاقة إنسانية، وولادة أفكار مشوهة لاإنسانية جداً! ولكن هذا هو جدل الإنسان!! فعنده قدرة على أن يخرج وحيا من الأرض، له من القوة ثقل الجبال؛ فيخرج قرآنا مستحدثا كله عوج، يقتل به القرآن الذي نزل على قلب محمد من السماء. «وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين». ولكن كيف يحدث ما هو ضد الحدث والزمن والتطور الإنساني، فتمشي أمة إلى الوراء منكوسة الرؤوس مقلوبة الاتجاه؟ إن هذا هو نتاج فقيه مدجن غائب عن العصر، ومثقف اشترى بآيات الله ثمنا قليلا، ومواطن أعمى، فالكل يقود الكل إلى حفرة. كيف يمكن أن يقتل إنسان غير رأيه وبدل معتقده؟ إن هذه بوابة الجميع لقتل كل الآراء، وإعاقة تطور المجتمع روحيا وفكريا، وتدشين ثقافة نفاق جماعية ورعب يلجم العقول أن تفكر؟ فقتل كيف فكر ثم قتل كيف فكر!! حين سئل الشيخ الغزالي في المحكمة عن حلال قتل اليساري فرج فودة؟ كان جوابه هو حلال الدم، على أن يتم قتله بيد السلطة، فمن قتله كان عمله (افتئاتا) على عمل السلطة! علينا أن نتصور سلطة الأمن المركزي في مصر واللجان الثورية في ليبيا والمخابرات الجوية في سوريا؟ وحين يكون الفكر الإسلامي في قمته، يفرز فتاوى من هذا الحجم فيمكن أن نفهم سر التخلف كقدر يطوق العالم الإسلامي من جبال الهندوكوش وملالي إيران إلى الصحراء الجزائرية ونواكشوط. ويضرب الإنسان رأسه بيده ويقول: كيف أمكن لفقهاء السلطة أن يدشنوا عبر التاريخ ثقافة قتل المرتد، فيغتالوا المعارضة وكل معارض، تحت هذه الدعوى؟ بل كيف أمكن للسلطنة العثمانية أن تقتل كل إخوة الخليفة يوم توليه العرش، خنقا وشنقا ورفسا وغرقا وبحتف السيف، تحت فتوى شيخ السلطنة بأن الفتنة أشد من القتل؛ فيجلس السلطان الجديد على جماجم إخوته قبل ظهر شعبة الحمار الكبير؟ كيف أمكن ذلك والقرآن يقول: «فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر»؟! كيف أمكن والقرآن يقول: «لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي»؟! كيف أمكن والقرآن يقول إنه يمكن للإنسان أن يكفر بعد إيمانه ثلاث مرات ولا يطير رأسه مرة واحدة؟ على كل حال، ما كان له ليكفر من جديد لو طار رأسه في الأولى. ولكن الفقهاء يقولون إن الإسلام طريق باتجاه واحد، لا رجعة فيه ولا تبديل، كما لو بنى الألمان والفرنساوية والطليان واليابان سياراتهم بدون (أنارييه) قدرة الرجوع إلى الخلف، بل فقط إلى الإمام، فإذا دخلت الكاراج انحشرت فلم تخرج!! أو أن كل كمبيوترات العالم تنتج بصندوق تنك بدون شاشة مونيتور، فمسموح أن تفكر لنفسك غير مسموح لك بالتعبير!! إنها نكتة كبيرة ولكنها لا تضحك أحدا. ويبقى السؤال: كيف أمكن تدشين ثقافة عدوانية استبدادية غير إنسانية بهذا الحجم، وتدريسها في الجامع والجامعة وكليات الفقه ومعاهد تحفيظ القرآن؟ إن هذا يقول إن إمكانية بناء ثقافة مشوهة واردة جدا بفعل الاعتياد والتكرار وبناء العقلية النقلية وقتل العقلية النقدية. مسموح لك ب(حرية التفكير) كما تشاء وحرام عليك (حرية التعبير) إلا كما نشاء! هل هذا قول عاقل رشيد أم متعصب مستبد؟ هذا هو إحدى مفردات القانون الميمي الثلاثي في العالم العربي (ما في. ممنوع. ما يصير؟) ولكن متى طلب العقل إذناً بالتفكير لممارسة وظيفته؟ فالدماغ يفكر كما يخفق القلب، وتتنفس الرئة، وتفرز الكلية. فهذه مغالطة أولى. ثم هب أننا قطعنا الألسنة كما كان يفعل الفراعنة مع خدم الأهرام، فيدفنون مع أسراره ومحظياته وكنوز فرعون؛ أو كما كان يفعل السلاطين مع خصي الذكور، كي يضمنوا سلامة الحريم؛ فعندما نأمر اللسان ألا ينطق ونخصى الذكور فلا يتحرشوا بالحريم، هل يستجيب اللسان أو الخصي حقاً، أم يحدث ما حصل في قصة (الحلاق والملك ومزامير الرعاة)؟ وما تكرر من مؤامرات الطواشي مع الحريم في القصور السلطانية؟ فهذه مغالطة ثانية. يذكر المؤرخ الأمريكي «ويل ديورانت» في كتابه «قصة الحضارة» حكاية مثيرة عن أجواء الخوف من (التعبير) في أوربا كالتي نعيشها حالياً عن القس (جان مسلييه 1678 1733 م) راعي أبرشية (أتربيني) في شمبانيا، الذي كان في كل عام (يمنح الفقراء كل ما يتبقى من راتبه بعد تسديد نفقات حياته المعتدلة البعيدة عن الإسراف والتبذير)، ولكنه عاش أزمة فكرية حادة، بقيت فيها أفكاره محبوسة في زنزانة الجمجمة طوال حياته، في حالة خوف وترقب أن يفتضح أمره ويقرأ الناس سره وما كتب من هرطقة وإلحاد!! وما هو بإلحاد!! وعندما مات (بعد ثلاثين عاماً من حياة هادئة مثالية في وظيفة الراعي، قضى نحبه وهو في الخامسة والخمسين موصياً بكل ما يملك لأهالي الأبرشية) دفنه أهل القرية بكل إجلال وتعظيم باعتباره التقي النقي طاهر العلم، تاركاً خلفه مذكراته في ثلاث نسخ، من مخطوطة بعنوان «عهدي الجديد». وعندما بدأ الناس يطلعون على ما جاء في أوراقه أصيبوا بزلزال، فوضعوا أصابعهم في آذانهم، واستغشوا ثيابهم، وبدؤوا في صب اللعنات على رأس ذلك الشقي الخائن، كيف استطاع أن يتنكر كل هذه الفترة، ويتكتم على آرائه الضلالية طيلة ثلاثة عقود. كل التساؤلات الخطيرة والعقد التي تتطلب الحل واللاعقلانية لنظام الأفكار المسيطر في عصره قام (مسلييه) باستعراضها بأسلوب شيق، وعرضها في صفحات مطولة؛ فلم يترك مسألة عويصة أو وضعاً غير منطقي للكنيسة والفكر الديني والعرف السائد إلا وتعرض له في نقد لا يعرف الرحمة، ولكنها أسطر كتبها بينه وبين نفسه في هدوء الليل، في غيبة عن عيون الفضوليين والجواسيس والرقيب؛ فلم يُطلع عليها كائنا قط حتى الموت، مع اعتذار شديد إلى أهل القرية عن كونه كتم آراءه عنهم كل تلك الفترة؛ فلم يكن يوماً معتقداً بما كان يمارسه من طقوس وصلوات وكنيسة وناقوس و»توسل إليهم في المخطوطة أن يغفروا له أنه خدم الخطيئة والأهواء طوال مقامه بينهم»، فقد تقلد عمله ليس طمعاً في المال بل امتثالاً لما أمره به أبواه. ومن الطرافة بمكان ذكر بعض نفثات هذا الرجل الذي أطلق العنان ل«حرية التفكير» في الوقت الذي حبس فيه كل «مجاري التعبير» عنده طوال حياته! لنعرف مصير الأفكار المحبوسة عن «التعبير»، كي يمشي على طريق النبوة فلا يتبع أبويه اللذين لا يعقلان شيئا ولا يهتديان. «لن أضحي بعقلي لأنه وحده الذي يمكنني من التمييز بين الخير والشر وبين الحق والضلال... لن أتخلى عن الخبرة لأنها مرشد وهاد، أفضل بكثير من الخيال أو من سلطان المرشدين. لن أرتاب في حواسي التي خلقها لي الرحمن، ولست أتجاهل أنها يمكن أحياناً أن تؤدي بي إلى الخطأ، ولكني، من جهة أخرى، أدرك أنها لن تضللني دائماً... إن حواسي تكفي لتصحيح الأحكام والقرارات المتسرعة التي ملت إلى اتخاذها». لقد كانت كتابات «مسلييه» في مقاييس عصره أكثر الكتابات إيغالاً في مخالفة السائد والمسيطر من الأفكار، لذا لم يتجرأ «فولتير» نفسه إلا على نشر أجزاء منها، ورأى فيها شيئاً من التطرف حاول تعديله. ومن الواضح أن «مسلييه» كان قد وصل إلى اللاعودة مع الكنيسة والمسيحية كما فعل لاحقاً «برتراند راسل»، الفيلسوف البريطاني، عندما نشر كتابه المثير «لماذا أنا لست مسيحياً؟». وصفوة القول، في رأي «مسلييه»، أن المؤامرة كانت «بين الكنيسة والدولة لإرهاب الناس إلى إذعان مريح للحكم المطلق؟». وعندما يتحدث عن الحروب الدينية في أوربا يقول: «زعزعت الخلافات الدينية أركان الإمبراطوريات، وأدت إلى الثورات، وخربت أوربا بأسرها، ولم يكن من الميسور إخماد هذه النزاعات الحقيرة حتى في أنهار من الدماء. إن الأنصار المتحمسين لدين يدعو إلى البر والإحسان والتآلف أثبتوا أنهم أشد ضراوة وقسوة من أكلة لحوم البشر أو المتوحشين»؟! وعندما وصل إلى عقيدة الكنيسة في الفداء، طرح السؤال المربك: كيف يمكن أن يضحي الرب بابنه البريء يسوع الذي لم يرتكب إثما قط؟ وعندما يتحدث عن ازدواجية رجال الدين في عصره يقول: «ويكفي، لنتحرر من الوهم، أن نفتح أعيننا على أخلاق أشد الناس تمسكاً بالدين، ونفكر فيها ملياً، وسنرى طغاة متعجرفين، ورجال البلاط، ومغتصبين لا حصر لهم، وحكاما لا ضمائر لهم، ودجالين وزناة وفاسقين وإباحيين فجرة وعاهرات ولصوصا وأوغادا من كل صنف)!! ليصل في نهاية أطروحته إلى أن: «الناس أشقياء لمجرد أنهم جهلة، وهم جهلة لأن كل شيء يتآمر على الحيلولة بينهم وبين الاستنارة، وهم أشرار لمجرد أن عقلهم لم يتطور بدرجة كافية... لقد طال العهد بمعلمي الناس وهم يركزون أبصارهم على السماء، فليرجعوا بأبصارهم ثانية إلى الأرض. لقد تعب الذهن البشري من اللاهوت المبهم، والخرافات السخيفة، والأسرار العويصة، والطقوس الصبيانية، فلينشغل هذا الذهن البشري، بعد هذا الإرهاق، بالأشياء الطبيعية والأهداف الواضحة والحقائق المعروفة والمعرفة النافعة». وبعد أن ذكر «جان مسلييه» ما سلف، ختم عهده الجديد بعبارة يتحدى فيها كل الذين يمقتونه ويصبون عليه اللعنات: «دعهم يفكرون أو يحكمون ويقولون ويفعلون ما يريدونه... لن أعبأ بهم كثيرا... بل إني اليوم لم أعد أعبأ كثيرا بما يحدث في العالم». ويعلق «ديورانت» على صدق وصراحة هذا الرجل غير المعهودة على هذا النسق من العبارات الصاعقة: هل وُجد ثمة عهد أو ميثاق مثل هذا في تاريخ البشرية جمعاء؟ يعيش منسيا لا ذكر له في قرية قد ترتعد فيها كل النفوس رعبا وهلعا إلا نفسه هو لمجرد الاطلاع على أفكاره الخفية، ولهذا لم يتحدث بمثل هذه الحرية إلا لمخطوطته ومن ثم اختمر في ذهن فرنسا وأسهم في التمهيد لسقوط النظام القديم، ونشوة الابتهاج بالثورة الفرنسية. قام «فولتير» بنشر أجزاء من كتاب الكاهن «مسلييه» كما أن «ديدرو» و«دي هولباخ» قدما خلاصة له عام 1772 م تحت عنوان «رجاحة عقل الكاهن مسلييه»، ولكن النص الكامل للكتاب لم يطبع إلا بعد 130 سنة على موت صاحبه في عام 1864 م. والمخطوطة اليوم محفوظة في المكتبة الوطنية في باريس. «جان مسلييه»، قبل ثلاثة قرون، مشى على نصيحة من يريد لنا «حرية التفكير» ويغلق أفواهنا عن البيان ليضعنا في زنزانة «حرمة التعبير» على شكل كاريكاتير في مصادرة لكل الوعي الاجتماعي. بقي أن نقول إننا نرتاح ونسر بقصص فضائح الكنيسة وعتاة أوربا، ولكن أمراض الكتاب ونحن منهم متشابهة، وفي القرآن أن كل أهل مذهب نعى على الآخر أنه ليس على شيء، ليختتم القانون التاريخي: تشابهت قلوبهم.. وما حدث عندهم، حدث ويحدث عندنا؛ فنحن لسنا أبناء الله وأحباءه. قل فلم يعذبكم بذنوبكم في الصومال والعراق والجزائر وأفغانستان وتزمامارت؟ يحكى أن ملكاً من أهل فارس كان يفتك بكل حلاق يقص له شعره لأنه كان يفشي سر آذان الملك الطويلة، حتى جاءه شخص كتم هذا السر، واستمر في الحلاقة، وحافظ على سلامة رأسه، ولكن الحلاق المسكين، وحتى ينفس عن احتقانه فيعبر عما يختلج في صدره، لم يكن أمامه إلا أن يذهب، في غفلة عن العيون وجواسيس السلطان ومخبريه، إلى شاطئ النهر، وهناك أمام هدير الماء المتدفق كان يصرخ بأعلى صوته تعويضاً عن كل الاحتقان السابق: آذان السلطان طويلة؟!.. حتى جاء ذلك اليوم عندما نبتت فيه عيدان البوص التي يستخدمها الرعاة للنفخ وإصدار الأنغام، وعندما بدؤوا في النفخ، ارتجت الحقول مع مزامير الرعيان، فلم تعد ترسل أنغامها الخاصة بل كانت تردد بدون توقف مع كل نفخة هواء من فم الراعي جملة واحدة: آذان السلطان طويلة.. طويلة..