ممن نتعلم «فقه الحياة»، وكيف السبيل للوصول إلى هذا الفقه المنشود، الذي من خلاله يستطيع المسلم أن يعمل لدنياه كأنه يعيش أبدًا، وأن يعمل لآخرته كأنه يموت غدًا. هل نتعلم «فقه الحياة» ممن يتمسك بأدلة الشرع فحسب؟ أم نتعلمه ممن يتمسك بأدلة الشرع مع النظر كذلك إلى الواقع؟. هذه الأسئلة وما يتفرع عنها من قضايا، وما يتعلق بها من مسائل وإشكالات، هي موضوع «المائدة الفقهية» الدسمة التي قدمها العلامة الدكتور يوسف القرضاوي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين على قناة «أنا» الفضائية، وذلك من خلال برنامج «فقه الحياة»، والذي تعمل «المساء » على نشره بشراكة مع قناة «أنا» - هل هذه النصرة تحتاج إلى طلب من المستضعفين أنفسهم؟ > يفترض هذا، لأن هؤلاء في بلادهم، ولكي تذهب إليهم لتنصرهم لابد أن يكون ذلك بطلب منهم، فإذا طلب من المسلمين النصرة، في أي وقت للوقوف في وجه الطغيان، وفي وجه الفراعنة، والجبابرة، يجب أن يكون المسلمون عند النداء، وأن يقوموا بنجدة هؤلاء الذين لا يستطيعون أن يدفعوا عن أنفسهم، فالمسلمون قوة لكل ضعيف في العالم. أما الهدف الرابع فهو تأديب النكاثين، الذين لا يتورعون عن أي عمل (لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ) ولا يضمرون لأحد خيرًا ولا رحمة، وهؤلاء المفسدون في الأرض يجب أن يؤدبوا ويقفوا عند حدهم وهذا ما قاله القرآن (وَإِن نَّكَثُوا أَيْمَانَهُم مِّنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ (12) أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ) فالقرآن يحرض المؤمنين على أن يؤدبوا هؤلاء، حتى يعلموا أنهم ليس لهم مطلق الحرية أن يفعلوا ما يشاؤون في عباد الله وفي أرض الله، وأن هناك من يقول لهم قفوا عند حدكم. بقي هدف واحد. - وهو؟ > فرض السلام داخل الأرض الإسلامية بالقوة، وهذا ما يحدده قوله تعالى: (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ) ولا يجوز أن يترك المسلمون يقتل بعضهم بعضًا، ويسفك بعضهم دماء بعض ولا يتدخل أحد، ولابد أن يكون عند المسلمين قوة، بحيث تردع المعتدين، وتقاتل الباغين حتى يفيئوا إلى أمر الله. وهذا يفترض أن المسلمين أمة، ولا يكونوا ممزقين، فلابد أن يكون لهم كيان فيدرالي أو كونفدرالي، أو أي شيء حتى ولو منظمة المؤتمر الإسلامي، يقوونها ويجعلون لها قوة بحيث تردع المعتدين. - سميتم هذا من قبل اتحاد الدول الإسلامية، ولامكم البعض على ذلك؟ > أوربا التي تعادت وتقاتلت فيما بينها، وقامت بينها حروب لقرون عدة، وآخرها الحربان العالميتان المعروفتان اللتان قتل فيهما الملايين، مع هذا أغفلت هذا الأمر وغضت الطرف عن هذه الحروب، وقالت إن مصلحتنا في أن يتحد بعضنا مع بعض، والاتحاد بدأ ضعيفًا ثم قوي، ومحدودًا ثم توسع، وأصبح الآن فيه عملة واحدة، وجواز سفر واحد، فعلى المسلمين أن يستفيدوا من هذه التجارب ويكونوا لأنفسهم نوعًا من الاتحاد يجعل منهم قوة لها وزنها. الحرب في التوراة - القرآن الكريم ككتاب مقدس للمسلمين تحدث عن الحرب والجهاد، وكذلك التوراة باعتبار أنها كتاب يؤمن به اليهود تحدثت عن نفس الأمر، فهل لنا أن نحدث مقارنة بين هذا وذاك؟ > إن من يقرأ القرآن، وهو الذي يستمد منه المسلمون أحكام عقيدتهم وشريعتهم، ويقرأ في مقابل ذلك التوراة في أسفارها الخمسة، أو في ملحقاتها من نبوات الأنبياء، يجد الفرق الشاسع والبون الواسع ما بين النظرة الإسلامية للجهاد أو للقتال، والنظرة اليهودية للقتال. نحن رأينا الأهداف الإسلامية ووضوحها في القرآن الكريم، فالمسلمون لا يريدون اعتداءً على أحد، بالعكس جهادهم يكون لرد الاعتداء والمعتدين وتأمين حرية الدعوة، ومنع الفتنة، وتأديب النكاثين، وإنقاذ المستضعفين في الأرض، وفرض السلام بين المسلمين بدل التقاتل. فماذا جاء في التوراة؟ التوراة تقول لموسى في سفر التثنية، وهو السفر الخاص بالتشريع: إن الأرض البعيدة التي تريد أن تغزوها أدعهم إلى الاستسلام، فإذا قبلوا فأهلها يكونون عبيدًا له، أي إذا قبلوا الصلح والمسالمة والدخول معك في هدنة أو معاهدة، أقبل منهم هذا ويكونون جميعًا عبيدًا لك، أما أموالهم ونساؤهم وأبقارهم وأغنامهم، وأشياؤهم كلها تصبح غنيمة لك. أما إن أبوا الاستسلام، فقاتلهم واضرب جميع رؤوس ذكورهم بحد السيف، لم يستثن طفلاً صغيرًا ولا شيخًا كبيرًا، فجميع الذكور يجب أن يبادوا. - نفهم من هذا أن قضية الإبادة الجماعية ثقافة توراتية، مثلما يحدث الآن في فلسطين؟ > سنتحدث عنها في القسم الثاني، هذا في الأراضي البعيدة، إنما الأراضي القريبة، التي يسكنها الكنعانيون والحيثيون، والذين يسكنون ما نسميه أرض فلسطين، هؤلاء تقول التوراة لموسى: لا تستبقي فيها نسمة حية، مطلقًا، أبدهم عن بكرة أبيهم، لا تستبقي في هذه البلاد نسمة حية، وهذا معناه فعلاً فكرة الإبادة والاستئصال، وهي فكرة للأسف توراتية، ورثها النصارى من اليهود، لأن الكتاب التوراتي يعتبر جزءًا من الكتاب المقدس عند النصارى. ولذلك حينما دخل النصارى من البريطانيين أستراليا أبادوا السكان الأصليين، ولم يبقوا فيهم نسمة حية، وحينما دخل كريستوف كولومبوس إلى أمريكا أقاموا حرب إبادة منظمة ضد الهنود الحمر، الذين هم السكان الأصليون للبلاد، واستخدموا في ذلك وسائل لا أخلاقية وأبادوا منهم الملايين، لكنهم لم يستطيعوا إبادتهم بالكامل. وليس عندنا نحن المسلمين فكرة الإبادة لأي جنس من الأجناس، فذلك لا يجوز، بل أكثر من ذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام حينما سألوه أن يتخلصوا من الكلاب في المدينةالمنورة، بعدما آذتهم كثرة الكلاب الضالة، قال كلمة يجب أن تسجل بماء الذهب، كما يقولون: «لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها» وهو يشير إلى هذه الحقيقة القرآنية التي سجلها الله في سورة الأنعام حينما قال: (وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم) ولذلك جاءت سور في القرآن بأسماء هذه الحشرات، سورة النمل، وسورة النحل، وسورة العنكبوت، فهذه أمم الله خلقها وجعلها متميزة عن الأمم الأخرى، فالذي يريد أن يقتلها، كأنما يقاوم إرادة الله التي خلقت. وهكذا إذا كان الإسلام حمى الحيوانات والحشرات والدواب من القتل الجماعي، أو الإبادة الجماعية، فما بالك بالإنسان؟ - هل هناك في التراث الإسلامي بعض الوصايا التي تسجل المحافظة على من ليس له علاقة بالقتال، كالرهبان، والشيوخ، والصغار، والأطفال، والحيوانات؟ > هناك وصايا نبوية، وهناك وصايا راشدية، توصي بهؤلاء الناس، القرآن أساسًا يأمر بقتال من يقاتل (قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوَهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوَهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ القَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوَهُمْ عِندَ المَسْجِدِ الحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ). والنبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه مسلم، حديث بريدة، قال: «قاتلوا من كفر في سبيل الله، لا تقتلوا وليدًا ولا تقتلوا امرأة، ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا» حيث كان العرب قبل الإسلام يمثلون بالقتلى، وحدث ذلك مع المسلمين في غزوة أحد، والنبي يقول لا تمثلوا حتى ولو كان هذا على سبيل المقاصة، فحتى إذا هم مثلوا بالمسلمين فلا يجوز أن نمثل نحن بغير المسلمين. ولما جيء لأبى بكر رضي الله عنه بصرة بعثها قائد إحدى المعارك في حروب الفرس، ففتحها ووجد فيها رأسًا وقال ما هذا؟ قال هذه رأس أحد قوادهم، وهم يفعلون بقوادنا مثل هذا، فإذا قتل شخص له مكانة يبعثون برأسه إلى قوادهم الكبار، فقال لهم: أأستنان بفارس والروم؟ بمعنى تجعلونهم أساتذة لكم تستنون وتقتادون بهم، وتجعلونهم أسوة وقدوة لكم، لا يحمل إلي رأس بعد اليوم، إنما يكفي الكتاب والخبر. هدنة إجبارية - لكن قد يعترض البعض ويقول إن خالد بن الوليد قتل بعض النساء، وإن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة بني النضير أمر بإحراق الشجر، فكيف نوفق بين هذا وذاك. > بعض الأشياء فعلها خالد اجتهادًا منه، وكان خطأ وهذا ما حاسبه عليه سيدنا عمر، وأما حادث بني النضير، فهذا كان بإذن من الله عز وجل، وحتى اليهود أنفسهم، قالوا يا محمد كنت تنهى عن الفساد وتعيبه، فمال بال تحريق النخيل. لكن هم أرادوا أن يطيلوا الحصار، مستغلين موقف المسلمين من أنهم لا يقطعون شجرًا، ولا يهدمون بناءً ولا يفعلون شيئًا من الإفساد في الأرض، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يعاملهم بقصدهم، وفي ذلك قوله تعالى: (مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الفَاسِقِينَ) فالله أذن بهذا على غير الأصل ليخزي الفاسقين، وليكره هؤلاء على أن يسلموا ويجلوا عن هذه البلاد. والقتال في الإسلام هو لمن يحمل السيف، لمن يقاتل بالفعل، فلا يجوز أن تقتل شيخًا كبيرًا، ولا طفلاً صغيرًا، ولا امرأة إلا إذا كانت امرأة مقاتلة تحمل السلاح، أو كان شيخًا مدربًا ويستطيع أن يقاتل أو يفيد بالرأي مثل دريد بن الصمة في غزوة «حنين»، حيث كان من شيوخهم وأخذوه معهم ليستفيدوا من رأيه؛ لأنه مجرب كبير في الحروب والقتال وأحيانًا الرأي يكون أشد من السيف، كما قال الشاعر: الرأي قبل شجاعة الشجعان هو أولاً وهي المحل الثاني - ذكرت في كتابكم «فقه الجهاد» أن الإسلام جعل ثلث العام هدنة إجبارية، وأن الحج في حد ذاته بمثابة تدريب على السلام، فما المقصود بهذا؟ > الإسلام يجعل الأصل في العلاقات بين الناس السلم، ويقول تعالى (يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة) ويريد أن يكون الناس في حالة سلام مستمر، ولذلك قال: اتركوا الترك ما تركوكم، ودعوا الحبشة، ما ودعوكم، وقال أيضًا: لا تتمنوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية، وإذا لقيتم فاصبروا، واعلموا أن الجنة، إنما لا تتمنى، ويقول الرسول عليه الصلاة والسلام «أقبح الأسماء حرب ومرة»، فحتى لفظة الحرب من المفردات المكروهة في الإسلام، كما علق القرآن على غزوة الأحزاب أو الخندق (وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ المُؤْمِنِينَ القِتَالَ) فهل هذا التعليق يقوله رسول ويقوله دين يتشوف إلى الدماء، وسورة الفتح نزلت في صلح الحديبية وسماها القرآن فتحًا مبينًا. هذا هو الذي جاء به الإسلام، ولذلك الحج تدريب على السلام فلا يجوز أن تقتل فيه صيدًا، أو تقطع فيه شجرًا، وثلث العام، أي الأشهر الحرام يعني رجب، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، لا تقاتل فيها الأعداء، فهي هدنة إجبارية.