القانون مجموعة قواعد تنظم سلوك الأفراد بما يحفظ حقوقهم ويضمن في الوقت ذاته حق المجتمع؛ وأهم خصائص قواعده تلك أنها عامة، أي أنها لا تخص أشخاصا معينين بذاتهم، ومجردة، أي غير موجهة إلى شخص بعينه أو واقعة بذاتها، وملزمة ومقترنة بجزاء، بمعنى أنها لا تستثني أحدا من التطبيق وترتب عن كل مخالفة جزاء ماديا تتولى توقيعه السلطة العمومية المخولة. وباحترام هذه الخصائص، نكون في دولة حق وقانون تضع الجميع في كفة واحدة أمام القانون الذي يحكم ويحمي ويلزم الجميع، حكاما ومحكومين. وحتى لا يقع الاعتراض على هذه القوانين، يجب أن تكون صادرة عمن ستطبق عليهم وبرضاهم، ولذلك فجل الدساتير أوكلت مهمة التشريع إلى البرلمان بصفته ممثل الأمة والمعبر عن إرادتها، وتزداد الثقة في القانون والخضوع لمقتضياته كلما كان البرلمان ذا مصداقية، ومؤشر ذلك انتخابات نزيهة. لكن في المغرب، نكتشف، بين الفينة والأخرى، وجود فئات فوق القانون أو تحظى بمعاملة تفضيلية وتمييزية من قبل من كلف بتنفيذ القانون، وحتى إن خضعت لهذا القانون فإنها سرعان ما تستفيد من ثغراته أو بعض عيوبه. لقد كشف الاستعداد لانتخابات تجديد ثلث مجلس المستشارين تسابق فئة ممن يشتبه في كونهم تجار مخدرات أو متورطين في قضايا تهريب للظفر بمقعد في المؤسسة التي يأتمنها الشعب على تمثيله والتشريع نيابة عنه والدفاع عن مصالحه ومراقبة العمل الحكومي. والغريب أن تكون الأحزاب هي بوابة هذا الفساد وهي التي أوكل إليها الدستور تأطير المواطنين، والأخطر أن تسكت الأحزاب عن هذا الاختراق الذي يطال مؤسساتها مكتفية بالتعايش معه، كما أن تساهل السلطات مع هذه الفئات ينبئ بمستقبل كارثي لا قدر الله، خاصة وأن نفوذ هذه الشبكات يتزايد وسلطتها تتقوى يوما بعد آخر، ولعل الأخبار المتداولة عن الشخصيات المتورطة في بعض الملفات كافية لتوضح حجم التغلغل والنفوذ الذي تحظى به. إن هذا التسابق على الترشح وهذا الإنفاق السخي لنيل التزكية وتمويل الحملات الانتخابية يفتح باب السؤال عن السر وراء هذا الكرسي والامتيازات التي يخولها للجالس فوقه، بل إنه يدعو إلى التساؤل عن سبب تفاقم هذه الظاهرة والنتائج المحتملة لذلك. ولا أعتقد أن الأمر لغز محير يحتاج فكه إلى ذكاء خارق أو مهارات استثنائية، ولا أعتقد أن مواطنا بسيطا ما زال يعتبر الدافع هو الأجرة الشهرية لأن هناك من اشترى التزكية الحزبية بمبلغ يفوق راتب الولاية التشريعية كلها. إن الدافع ببساطة هو الحصانة التي تعطي لهذه الفئة وضعا امتيازيا يجعلها تستفيد من ثمار القانون وتتنصل من تبعاته حسب مصالحها. ولا بد من التذكير بأن نظام الحصانة البرلمانية معمول به في الدول الديمقراطية لحماية البرلماني من المتابعة بسبب التعبير عن رأيه داخل البرلمان، وهذا ما نص عليه الدستور المغربي، كما أن هناك حصانة للبرلماني من المتابعة في باقي الجرائم إلا بعد الحصول على إذن مسبق من البرلمان؛ ولكن الممارسة اليومية وتجربة سنين كشفت مجموعة ثغرات حول نظام الحصانة الذي أصبح عقبة في وجه تطبيق القانون وفزاعة يرفعها بعض البرلمانيين ضد من يريد متابعتهم وجواز مرور إلى عالم بعيد عن التعبير عن الرأي والسياسة وأخلاقياتها؛ ولذلك صار البعض يستغل حصانته فيتاجر في الممنوعات ويتوسط في الصفقات المشبوهة ويوقع شيكات بالملايير بدون رصيد، وما إلى ذلك من المخالفات التي تتعارض مع فلسفة التمثيل البرلماني الذي يعد بالأساس خدمة تطوعية يمليها دافع نبيل يشترط في المرشح لها التضحية وتغليب المصلحة العامة على الخاصة. إن هذا الواقع يستلزم إعادة النظر في نظام الحصانة البرلمانية وتدقيقا من الأحزاب في اختيار مرشحيها ومراقبة صارمة من الدولة للأموال التي تضخ في الحملات الانتخابية ويقظة شعبية عند الاختيار. هناك صنف ثان من المغاربة فوق القانون، وهم العديد من الشخصيات السامية التي تحظى بمسطرة استثنائية، تسمى مجازا الامتياز القضائي، أصبحت تشكل بوابة للهروب من المتابعة والإفلات من العقاب وخاصة في ظل التردد والفساد اللذين يطبعان القضاء، وفي ظل غياب إرادة سياسية تعلي من شأن القانون الذي سبق أن قلنا إن من خصائصه العمومية والتجريد والنفاذ على الجميع، حكاما ومحكومين.. وهكذا، يتابع المواطنون عشرات القضايا التي يتناقل الإعلام تورط مسؤولين فيها، سواء تلك التي تتعلق بالاعتداء على حقوق الغير أو الشطط في استعمال السلطة أو نهب المال العام، ولكن لا يتم تحريك المتابعة ضدهم، مما يضفي على المجتمع جو ريبة وشك ويأس وانعدام ثقة في القانون وفي المؤسسات التي وضعت لحمايته والسهر على تنفيذ مقتضياته. هناك صنف آخر من المغاربة فوق القانون، ويتعلق الأمر هذه المرة بفئة من المغاربة الحاملين لجنسيات دول في أوربا أو أمريكا، فهؤلاء يحظون بمعاملة استثنائية تجعل متابعتهم تتم، أحيانا، على أعلى مستوى وبقرار سياسي، ولذلك لا نستغرب تسابق العديد من المسؤولين للظفر بجنسية بلد أجنبي أو الزواج بأجنبية من عائلة نافذة في دولتها. إن هذه مجرد عينات من مغاربة فوق القانون، وحتى إن فاحت رائحتهم واضطرت الدولة إلى متابعتهم فإنهم يحظون، داخل السجن، بمعاملة الضيوف الكرام في انتظار هدوء العاصفة ليستفيدوا من عفو أصبح هو الآخر محط تساؤل عن الهدف منه والمتحكِم فيه ومعايير اختيار المستفيدين منه؛ وهذا نقاش آخر. لا شك أن موضوعا كهذا يجب أن يحظى بالأولوية في أية مبادرة إصلاحية لأن من شأنه إعادة الثقة إلى المواطن في القانون والمصداقية إلى المؤسسات التي يجب أن تستعيد هيبتها وحرمتها لنستحق فعلا لقب «دولة القانون والمؤسسات» التي لا تمييز فيها بين المواطنين على أساس الجنس أو العرق أو الدين أو الانتماء الاجتماعي. وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أعطانا المثل من نفسه فقال: «إنما أهلك من كان قبلكم إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد. وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها»؛ صلى عليك الله فأنت القدوة والأسوة، وفي سيرتك المنهاج والشرعة.