ما زال الشعراء العرب القدامى ينتجون، حتى بعد وفاتهم بقرون. ما إن تقرأ لهم حتى تدرك أغوارا جديدة ثاوية في بطون كلماتهم التي لا تجف معانيها. كل حسب جهده ومقدار طاقته، والضارب في باطن الأرض أعمق فأعمق يخرج بماء أصفى فأصفى، ذلك لأن قراءة الشعر القديم أشبه بالغوص على اللؤلؤ، المصطبر على البقاء أسفل يخرج بصيد أوفى. وبالرغم من أننا جميعا نريد الحفاظ على وهج الحداثة الشعرية، قراء ومبدعين، فإننا، جميعا أيضا، نحب الشعر القديم أكثر من هذه الحداثة الشعرية، لذلك تجد الجميع، كلما أراد الاستشهاد بالشعر، لجأ إلى مقالة القدماء لا المحدثين، أو قل إلى الشعر الكلاسيكي لا الشعر الحديث. في كل مرة نريد أن نؤكد على فكرة أو نعطيها بعدا أكثر دلالة نأتي ببيت أو بيتين من الشعر القديم. ورغم ما حققته الحداثة الشعرية من تراكمات، بعضها مجرد ركام، ما زال المتنبي والمعري وأبو تمام وغيرهم من القدامى رواد الحداثة الشعرية، باعتراف كبار الشعراء المحدثين الذين بصموا الشعر المعاصر ببصماتهم. والقضية هي أن الشعر القديم لم يمت وأن الشعر الحديث لن يحيى طويلا، ومن تابع مسابقة «شاعر المليون»، خصوصا في بداياتها، سيكون قد اكتشف أن الناس لم يهجروا الشعر القديم كما كان يتصور الكثيرون، فقد حقق البرنامج نسبة مشاهدة عالية جدا في العالم العربي، بل أعاد الشعور القومي إلى الناس، تماما مثلما كان الشعر القديم يعزز الشعور بالانتماء القبلي، لأن «بطل» البرنامج كان هو الشعر الكلاسيكي «الموزون المقفى الذي له معنى» كما عرفه القدماء، والذي يرتكز على الإنشاد، لأن الشعر قول للأذن، وليس كتابة للعين، مثلما فعلت جماعة تفعل مرة في المشرق تحت اسم«القصيدة البصرية» أو الدائرية، حيث تجد غابة من الألغاز تستحق أن تعرض على محلل نفسي مختص في فك العقد لا على ناقد أدبي مختص في تفكيك المعاني. مرة سئل أبو تمام: لِم تقول ما لا يفهم؟، فرد الشاعر الطائي: ولم لا تفهم ما يقال؟ في جميع الكتب التي تتحدث عن الحداثة الشعرية، دفاعا أو تبريرا، تجد هذه القصة. هذا هو القياس الفقهي محمولا إلى الشعر، لكن الذي ننساه هو أن الأمر يتعلق هنا بالقول لا بالكتابة. لم يسأل الرجل أبا تمام: لم تكتب؟ بل قال: لم تقول؟ لأن وظيفة الشعر أن يقال لا أن يكتب، ولن تجد في جميع كتب الأدب: كتب فلان، بل قال وأنشدنا ونظم فلان. وأبو تمام لم يخرج عن الأصول، بل خرق فقط عوائد القول الشعري في عصره. إنه مثل الإمام مالك، أنشأ فقها لأهل المدينة يوافق عصره، ولكنه لم يخرج عن الأصول. وقد زاد أبو تمام في عمق الشعر العربي، لأنه كان يغوص على المعاني، كما قال عنه زميله البحتري، وكان شاعرا مطبوعا، والشاعر المطبوع هو من يتصف بما نسميه اليوم البديهة. وكانت العرب تقول عنه إنه حاضر البديهة، مثلما حصل له في موقف يرويه الرواة حين مدح أحمد بن المعتصم بقصيدة مطلعها: ما في وقوفك ساعة من باس تقضية ذمام الأربع الأدراس. فلما وصل إلى قوله: إقدام عمرو في سماحة حاتم في حِلم أحنف في ذكاء إياس. وجمع في ممدوحه جميع الخصال التي تفرقت في هؤلاء المذكورين، قال له الفيلسوف الكندي، وكان حاضرا في المجلس، غامزا إليه: إن الأمير فوق ما ذكرت. يريد أن الأمير خير من أولئك جميعا، أضاف أبو تمام بحسن بديهته: لا تنكروا ضربي له مَن دونه مثلا شرودا في الندى والباس فالله قد ضرب الأقل لنوره مثلا من المشكاة والنبراس. يريد قوله تعالى: «الله نور السماوات والأرض، مثل نوره كمشكاة فيها مصباح، المصباح في زجاجة، الزجاجة كأنها كوكب ذري، يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية، يكاد زيتها يضئ ولو لم تمسسه نار، نور على نور».