«لقد تغير المغرب: تركت الناس داخل الأقفاص ووجدتهم خارجها... لكنهم مازالوا ينطّون!» ج. لولاش «مسلمين الرباط»، اليوم، أكثر خسّة من جدودهم. الموريسكيون، على الأقل، ناوروا بدينهم دفاعا عن قضية نبيلة: العودة إلى الديار. أما الأحفاد فيتاجرون اليوم في كل شيء، ويبيعون الزوجات والأمّهات والأولاد والملة والضمير، مقابل كرسي أو حفنة أموال. عصابة أجْلاف استولت على خيرات البلاد وأحلامها، وجلسوا على كراس وثيرة يحصون الغنائم ويشتمون أبناء الشعب الذين يزحفون على مدينتهم ويشوّهون شوارعها الأنيقة. في الرباط يتجول الاحتقار طليقا في العيون والشوارع والأحياء الراقية. إذا لم يكن مظهرك يعطي الانطباع بأنّك تأكل جيدا، وتشتري ملابسك من محلاّت محترمة، وإذا لم تكن لكنتك تشبه لكنة المسلمين، واسمك لا يوحي بالانتماء إلى شجرة نسب وارفة... لن يكون نصيبك إلا الاحتقار! لماذا رجعت؟ هنا على الأقل، لا يفرّق الناس بين أبناء البلد الواحد. نصير جميعا مغاربة، مغاربيين، عربا، أجانب... الفرنسيون لا يحتقرون أحدا، أو يحتقرون الجميع بلا تمييز. الجلدة السمراء كافية لتوحيد الكل. ينشأ تآلف غامض بين المهاجرين. أهل القمّة ينزلون مكرهين من أبراجهم، فيما يصعد نزلاء الحضيض قليلا، هكذا يتم اللقاء في منتصف الطريق. في فرنسا، تشبه المدن المغربية بعضها البعض، لذلك لا أحد يتحرج في المجاهرة بانتمائه إلى بلدات صغيرة لا تكاد ترى بالعين المجردة، كما الحال في البلاد. لا حرج في أن تقول لأحدهم بأنّك من بلدة صغيرة وسط المغرب، تدعى زحيليكة مثلا، لأنه لن يحتقرك بسبب ذلك. ببساطة، لأن كل المدن المغربية متشابهة ومتخلفة في نظره. وربما وجدته على قدر لا يستهان به من السذاجة التي تجعله يعتقد أن زحيليكة تشبه سان طروبي أو كان... وقد يفصح لك عن حلمه بزيارة المغرب ورؤية كل تلك البلدات التي تشبه بلا شك مدن ألف ليلة وليلة: سيدي سليمان، سيدي قاسم، سوق الأربعاء، حد كورت، خميس الزمامرة... وهلمّ أسواقا. هنا في فرنسا، يستردّ المغاربة الفقراء كرامتهم التي طالما جرجرتها في الوحل حفنة متسلطين من أبناء جلدتهم، ولأنهم متعودون على كل أصناف الاحتقار سوف يجدون عيون الفرنسيين متسامحة جدا. لن تؤثر فيهم ندف الثلج التي تتساقط بينهم وبين هؤلاء الآخرين. سيعتبرون النظرات الأوربية الباردة طبيعية تماما. لأنها تذكرهم باختلافهم، ببلادهم، بأصدقائهم، بأمهم وأبيهم وإخوتهم. أمّا أولئك الذين فرضوا على المغرب معاهدة حماية جديدة، منذ 16 نونبر 1956، المستوطنون الجدد، أصحاب البشرة السمراء والأوهام البيضاء، أولئك الذين مازالوا يعتبرون المغرب محافظة فرنسية من محافظات ما وراء البحار، الذين يسبحون بحمد ليوطي في العمل، في البيت، في نادي الفروسية والسباحة والغولف، ويسخرون من هؤلاء المغاربة المتخلفين، هؤلاء الأهالي، لأنهم يتكلمون لغات بربرية ويكتبون بالعربية، ولأنهم يزحفون على أحيائهم الراقية ويشوهون رونقها، الاستعماريون الجدد الذين يرسلون أولادهم إلى مدارس البعثة، ويمنعونهم من ارتياد الحارات الوسخة، حيث الفقراء الحقراء، الأوربيون المزيفون، الفرنسيون بالتيمم الذين يزورهم في نهاية كل سنة بابا نويل محملا بالهدايا والفرح ويسقط الثلج في بيوتهم فوق أشجار أرز تزينها الشرائط والأضواء... لكم تصدمهم النظرات غير المبالية والكلمات العنصرية التي تشبه لسعات نحل، لا تتحملها بشرتهم البضّة. يكتشفون بغباء أن الفرنسي شخص أبيض، شعره مائل إلى الشقرة، ويحمل جواز سفر أحمر... ولأنّ بشرتهم سوف تبقى سمراء، مهما رطنوا ولبسوا وتنكروا، يجدون أنفسهم ينتظرون في صفوف طويلة مع المغاربة الذين احتقروهم دائما، من طابور إلى طابور، يقفون حائرين مدّة طويلة قبل أن يكتشفوا، بكثير من المرارة، أن نظرية داروين مجرد هراء، لأن القرد سوف يبقى قردا إلى الأبد! لماذا رجعت؟ هل اشتقت إلى رؤية هاته القرود تنطّ خارج الأقفاص؟ هل أصابني حنين إلى هذه البلاد؟ أبلاد حقا هي أم مستودع أموات كبير؟ أوطن هو أم كوكب سعادين؟... لقد قبّلت رأس أمي، وضحكت مع إخوتي حول كاس شاي رائق، فلأعد إذن، لأعد أدراجي نحو الضوء، نحو الحياة، قبل أن أُمْسَخَ قردا أو أتحول إلى جثة بين ملايين الجثث المحفوظة بعناية... في انتظار الدفن.