هي ذكريات من الزمن الجميل الذي احتضن فيه درب السلطان أبناءه المشاهير، عشاق الكرة ( الأب جيكو، بيتشو، الظلمي، الحداوي، اسحيتة، بتي عمر، الحمراوي...) وهي الذكريات التي أهدى فيها هذا الحي الشعبي الفقير أجمل الأعمال المسرحية والتلفزيونية والسينمائية التي أبدعها في زمن بيضاوي جميل أبناء من تاريخ عصفور، ثريا جبران، عبد العظيم الشناوي، محمد التسولي، عبد القادر مطاع، سعاد صابر، مصطفى الزعري، الحاجة الحمداوية، مصطفى الداسوكين، عبد القادر وعبد الرزاق البدوي، عبد اللطيف هلال، مصطفى التومي، عائد موهوب، أحمد الصعري، الشعيبية العدراوي... هو درب السلطان الحي الذي احتضن طفولة عبد اللطيف السملالي وسعيد السعدي الوزير الأسبق للأسرة والتضامن...، ومنح للتاريخ مناضلين يشهد شارع الفداء الشهير على تضحياتهم. احتضنتها الأحياء الفقيرة ورعت موهبتَها الأسوارُ البسيطة. بين أناس فقراء ومهمشين اكتشفت الحياة وخبرت بعض أسرار درب السلطان، وعرفت ما معنى أن تعيش في مثل هذه الأحياء. هي مريم شديد التي تعد أول عالمة فلك في العالم استطاعت أن تصل إلى القطب المتجمد الجنوبي وأول طالبة عربية أنجزت الدكتواره في أكبر مرصد وطني في فرنسا، هي من اعتزت- على الرغم من الشهرة العالمية- بالانتماء إلى درب السلطان وخصته بكلمة عرفان جميلة وصل صداها إلى كل الأرجاء من خلال شهادتها في برنامج «رائدات» الذي بث قبل أشهر على قناة «الجزيرة» وخصصت إحدى حلقاته لمسارها العلمي. ويتذكر المشاهدون المغاربة والعرب- في الحلقة ذاتها- لحظات بوح مريم شديد في حديثها عن طفولتها في درب السلطان، قائلة: «كنت أذهب إلى سطح المنزل وأراقب النجوم كأنها تتكلم معي. كان هناك حب كبير بيني وبين السماء ولازال. ولدت في عائلة جد متواضعة من أب وأم حنونين ونحن سبعة أطفال ثلاث بنات وأربعة أولاد... أنا «رقم ستة» كما تقول أمي وكان أبي يعمل كحداد، نعم كان يقضي معظم وقته يقوم بزخرفة الحديد، وكنت أرى هذا العمل كفن جميل جدا. بالنسبة إلى أمي الفتاة يجب أن تتعلم الخياطة، الطبخ، وتتزوج وتنجب أولادا والأشياء الأخرى، لقد بدأت في روض الأطفال مدرسة «الفكر العربي» وبعدها ذهبت إلى المدرسة الابتدائية مدرسة «المزرعة» للبنات، وبعدها التحقت بإعدادية «المنصور الذهبي» وثانوية صلاح الدين للبنات». عاشت الفتاة الحالمة بالفلك في الفضاءات التعليمية البسيطة المنتمية إلى فضاء درب السلطان، واقتسمت مع أطفال ذلك الحي الفقير صعوبة الحياة وعسر أن توفر لقمة العيش، عاشت هناك تبحث عن إمكانية أن يتحقق حلمها بأن تصبح عالمة فلك. حلم شجعت عليه مؤشرات الطفولة. تقول عنها زهرة الطاهري الإدريسي والدة مريم: «كانت تقرأ، كانت تحفظ، كانت تسهر الليالي لكي تطالع، «وهي الفكرة التي زكتها جميلة شديد بالقول: «طوال الوقت تتناول مريم كتابا في يدها تحفظه، كانت تحفظ إلى درجة أننا سميناها «كراكة». كانت لا تتوقف عن الحفظ، كنا نذهب إلى الحمام في درب السلطان وكانت تأخذ معها الكتب داخل أكياس بلاستيكية. لم يكن لدينا حمام وكنا نذهب إلى الحمام، في المنزل العمومي وكانت مريم تضع أوراقها داخل البلاستيك وتحفظ في انتظارنا مثلا ريثما ننتهي من الاغتسال». سنة 1988 سنة أساسية في حياة مريم شديد، ابنة درب السلطان، إذ بعدما أنهت الشابة مرحلتها الثانوية بتفوق، وعندما لم تجد أي جامعة مغربية تمكنها من دراسة الفلك، ذلك الحلم الذي عاش بين جوارحها، قررت مريم أن تخط لنفسها مسارا تعليميا خاصا بها، فالتحقت بكلية العلوم في جامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء. عن هذه التجربة، قالت مريم شديد: «درست تخصص الرياضيات في سنوات الدراسة الأربع ودرست تخصص الفيزياء واخترت هذا بنفسي. هو اختيار فردي محض، قال لي زملائي: «لماذا لم تكملي الطريق في علوم الرياضيات يا مريم إنه شيء جميل؟ وقلت لهم: «لا الآن سوف أتوجه إلى العلوم الفيزيائية لعلم الفلك»، وهذا ما فعلته بالضبط، لم تكن عندي منحة وكانت عائلتي فقيرة، لقد واجهت صعوبات مادية كثيرة، لكن حبي للعلم وللعلوم كان أكبر من ذلك إذ كان يكسر كل حاجز يقف أمامي وأمام هذا العلم». وواصلت مريم النبش في ذكريات الماضي، قائلة: «غادرت المغرب في أكتوبر عام 1992 إلى فرنسا، إلى نيس تحديدا، أتذكر جيدا: كان اليوم يوم 11 أكتوبر يوم عيد ميلادي، أنا لم أحدد بالضبط هذا ولكن كانت مفاجأة، كل شيء أتى هكذا.. لقد كانت مغامرة، وأريد أن أقول إننا إذا كنا نريد شيئا فلا بد من التضحية. لذا غامرت، هكذا رحلت من المغرب إلى فرنسا. كانت أول مرة أغادر فيها بلاد المغرب. وبدون منحة جئت إلى فرنسا واشتغلت. كنت أشتغل بالليل وأدرس بالنهار، الموضوع الدراسي في الكليات المغربية ليس كالكليات الفرنسية، إذ لم يكن هناك توازن لذلك كان علي أن أشتغل ليل نهار في البداية لكي ألتحق بالمستوى الفرنسي. كنت أحن كثيرا إلى عائلتي في المغرب وهذا لم يكن بالأمر السهل للطالب عندما نكون وحيدين في بلد لا نعرفه كثيرا وبعيدا عن المغرب وعن العائلة. إنني لا أجد كلمات أعبر فيها عن إحساسي في تلك اللحظة، في لحظة الماجستير، هذه اللحظة كانت جد صعبة بالنسبة إلي» وبعد مسار تكويني ومعرفي تكرس في العديد من البحوث والاكتشافات غير المسبوقة عالميا، حصلت مريم شديد سنة 1996 على دكتوراه في النجوم وزلازلها بمرتبة الشرف وكتبت الصحف الفرنسية عن أطروحة مريم باعتبارها أول دكتوراه تتم في مرصد وطني في فرنسا وأول مغربية تحصل على دكتوراه في علم الفلك. وأهدت مريم الرسالة إلى والدتها. كانت تجربة فريدة مهدت لأن تصير مريم شديد أول عالمة فلك تصل إلى قلب القطب المتجمد الجنوبي لتراقب النجوم على مدى ثلاثة أشهر في مغامرة علمية تناقلت خطورتَها العديد من القنوات العالمية، مغامرة ظهرت فيها ابنة درب السلطان وسط ثلوج القطب المتجمد حاملة العلم المغربي, مقدمة للطاقم التقني المرافق لها أكلة الكسكس هناك، بشكل يعطي الدليل على أن الفقر لم يكن في يوم من الأيام مانعا لتحقيق أحلام عاشت وتربت وسط الأحياء الفقيرة والمهمشة.