زعيم وطني، كاتب، صحافي، شاعر، طباخ ماهر، متذوق جيد للموسيقى، وأبرز رجال الحركة الوطنية الذين كافحوا من أجل استقلال المغرب، ساهم في تكوين جيل بأكمله من السفراء، الكتاب، النقاد والرسامين، وكان له الفضل في تكوين المدارس بالمغرب، ورصد منحا دراسية للطلاب المغاربة بكل من القاهرة، نابلس وتركيا، وكانت علاقته وطيدة بمحمد الخامس، وتعرض لعمليات اعتقال كثيرة وحكم عليه غيابيا بالإعدام. هذه بعض الملامح من شخصية المناضل عبدالخالق الطريس كما يكشفها ابنه الوحيد محمد الطريس في هذا اللقاء الذي خص به «المساء». - كيف كانت طفولة عبد الخالق الطريس؟ > والدي عبد الخالق الطريس يتحدر من أصول أندلسية، من أسرة سياسية محنكة، نظرا إلى فطنته المبكرة، وإلى أنه كان ذكيا جدا. وقد كانت شخصيته تتميز بالميل إلى زعامة نظرا إلى تقمصه أدوار شخصيات مؤثرة كالقائد والزعيم، وكانت طفولته بشكل عام عادية إلى أن بدأت شخصيته تتكون شيئا فشيئا، لكنه كان مدللا في حضن عائلة كبيرة جدا خاصة من طرف جدته للا فاطمة جعيدي، زوجة الحاج محمد الطريس نائب السلطان بطنجة، الرجل المحنك الذي تفاوض في اتفاقية الجزيرة الخضراء مع كبار الدول الأوربية. طفل مدلل - كيف كانت دراسته؟ > ولد عبد الخالق الطريس في 26 ماي 1910 بمدينة تطوان، درس التعليم الابتدائي والثانوي، والتحق سنة 1925 بصفوف المدرسة الأهلية، ثم انتقل إلى فاس لمتابعة دراسته بالقرويين، وبعدها سافر إلى القاهرة، حيث التحق بالجامعة المصرية، ثم انتقل بعد ذلك إلى فرنسا من أجل الدراسة في السوربون. لقد قطع مراحل دراسية عادية خلال السنوات الأولى، إلى أن بدأت شخصيته تتغير حسب المهام التي تقلدها في ما بعد. - هل كان مدللا من طرف العائلة؟ > كان مدللا كثيرا، وكل ما كان يريده يجده. - ما هي الخصائص والصفات الحسنة التي كان يتميز بها؟ > كان مرحا، وكانت حياته كلها عبارة عن مزحة، وقد عاش حياته بطولها وعرضها، بحلوها ومرها، وكان يستمتع بكل دقيقة في حياته، ويملِؤها بهواياته المتعددة. فقد كان شاعرا حيث حفظ حوالي 10 آلاف بيت شعري، وكاتب مقالات بالجرائد الوطنية التي كانت تصدر آنذاك، ومؤلفا مسرحيا، وصاحب مواهب أدبية وفنية، حيث قام بإصدار أول جريدة وطنية في المغرب باللغة العربية، وهي جريدة «الحياة الأسبوعية» في مارس 1934، ثم جريدة «الحياة اليومية»، وبعدها جريدة «الأمة» التي كانت تعبر عن آمال وآلام المغاربة والصوت الوطني الوحيد، كما ساهم في تأسيس المعهد الحر كأول ثانوية عصرية. رفض الزواج مرتين - هل عطلته سلسلة المهام التي تقلدها في حياته عن تكوين أسرة وعائلة خاصة به؟ > بالرغم من كثرة المهام التي تقلدها، فإنه كان يولي أهمية كبيرة لتكوين أسرة وإنجاب الأبناء، وأكبر دليل على ذلك تزوجه وإنجابه لنا، حيث تزوج عن سن الثامنة والعشرين. - كم مرة تزوج؟ > تزوج بوالدتي خدوجة أفيلال وهو الزواج الوحيد له. - لماذا لم يتزوج مرة واثنتين، كبقية رجال المقاومة في تلك الفترة؟ > أغلب الرجال في العائلات التطوانية لا يتزوجون أكثر من مرة. - وكيف كان عرسه؟ هل كان بسيطا أم باذخا مثل أعراس العائلات الكبيرة؟ أقام عرسا كبيرا جدا حضره الخليفة مولاي الحسن بالمهدي، وبعض العائلات المغربية والعديد من الشخصيات الإسبانية، ومن بينهم المقيم العام الإسباني. أب متسامح - هل كان متشددا مع أبنائه؟ > بالعكس تماما، فقد كان يتعامل معنا بشكل جيد، وكان يحملنا مسؤولية أنفسنا ويعلمنا كيف نتخذ القرارات، وبالرغم من انفصالي عن عائلتي وأنا في سن السادسة عشر بعد أن سافرت للدراسة في طنجة عندما كان سفيرا في القاهرة، ثم إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية في سن السابعة عشر، فإن وصاياه لي كانت تنفذ دائما، كما كان حريصا على تتبع خطواتي، أما بالنسبة إلى أخواتي البنات فقد كان يخاف عليهن بدون أن يتسبب في مضايقتهن أو حتى إرغامهن على شيء لم يحببنه أو يجرح مشاعرهن. - هل كان يخبرك في مراسلاته بما يروج في المغرب وعن تفاصيل حياته بالقاهرة؟ > بالرغم من أن الرسائل كانت تصل متأخرة بعض الوقت، فإنه كان يشركني في العديد من الأحداث، ومن أهم ما كان يفتخر به الحملة الإنتخابية التي قادها سنة 1963 وكان دائما يوصيني في مراسلاته بالنجاح وتحقيق مراتب عليا، لقد كان غير متسامح أبدا معي في ما يخص الدراسة. علاقته بشريكة حياته - كيف كان يعامل زوجته؟ > كان يقدر والدتي كثيرا، وكان يصطحبها معه في الكثير من المناسبات الرسمية وغير الرسمية، وكان الاحترام متبادلا بينهما في المقاومة والدبلوماسية. - هل دخل يوما للمطبخ؟ > ما لا يعرفه الكثيرون عن والدي هو انه كان طباخا ماهرا، ومتذوقا للعديد من الوصفات، وكان يعطي أوامره للطباخين بمنزلنا بطبخ وصفات مغربية وأجنبية حسب مقاييس كان يحددها لهم مسبقا ويعطيهم المقادير المناسبة لتحضيرها. تجربة المنفى - ما هي أسعد اللحظات التي عاشها؟ > استقلال المغرب طبعا ورجوع محمد الخامس من المنفى. - وأسوأ اللحظات؟ > نفي محمد الخامس كانت فعلا أسوأ ذكرى مر بها الوالد. - كيف كانت تجربة نفيه؟ > كانت تجربة صعبة جدا، وهذا هو السبب الذي جعلنا ندرس بطنجة، لقد كان عمري ست سنوات عندما منعنا من الدراسة في المدارس الفرنسية والإسبانية، وبما أن المدارس العربية كانت غير موجودة، فقد فرضت علينا الدراسة في المدارس الأمريكية، وهذا ما جعل دراستنا باللغة الإنجليزية فقط، وتسبب هذا الأمر في حرماننا من اللغة العربية. - ألم يؤثر هذا على حياتكم العادية؟ > بالطبع، وكل ما أذكره عن تلك الفترة هو أننا كنا ننتظر حلول الليل من أجل زيارة أقاربنا، والتخفي داخل السيارة للمرور بين طنجة وتطوان، كي لا يرانا أحد، لقد كانت حياتنا كلها مبعثرة. - قيل إنكم فقدتم كل ممتلكاتكم في تلك الفترة وفقدتم الامتيازات التي كنتم تتمتعون بها قبل مرحلة النفي؟ > لقد جردونا من كل شيء، من منزلنا ومن ممتلكاتنا. - وماذا كان مورد رزقكم ؟ وكيف كنتم تتدبرون أمور حياتكم اليومية؟ > كان الناس المحيطون بنا هم من يساعدوننا، ولذلك لم نتأثر من الناحية المادية كثيرا. رجل مبذر - هل كان والدك متدينا؟ > نعم كان متدينا لكن باعتدال تام، وكان يتعمق في الأمور الدينية وتفسيرها بكل دقة وبدون تشدد، والدليل على ذلك شعار حزب الإصلاح الوطني «الله أكبر». - هل كان مسرفا؟ > أجل، وأظن أنه لم يكن له مثيل في هذا الأمر، فقد كان يصرف ما في جيبه حتى آخر فلس. وكان مرحا يحب النكتة والمزاح ويقول النكت أيضا. - ما هي المدينة التي كان يحبها؟ > كان يحب مدينة طنجة. وقد شاءت الأقدار أن يتوفى بها في 26 ماي 1970، ويدفن بمدينة تطوان. - هل تعرض يوما لاعتداء ما؟ > تعرض بالفعل لاعتداءات كثيرة، وسبق أن دبرت السلطات الإسبانية مؤامرة من أجل اغتياله، وفعلا تم تحديد المكان والزمان، لكن لم يتم لهم ذلك، حيث اعترف الشخص الذي كلفته السلطات الإسبانية باغتياله بالمؤامرة التي دبرت من أجله، فتم إفشال العملية وبقي والدي على قيد الحياة. كما اعتقل وحوكم في إحدى المحاكم العسكرية الفرنسية بمدينة مكناس، حيث حكمت عليه المحكمة بالإعدام غيابيا سنة 1944. - هل كان له أعداء داخل المغرب؟ كان له أعداء من طرف السلطات الاستعمارية الإسبانية فقط. - كيف كانت علاقته بالشخصيات التاريخية المغربية آنذاك كعبد الكريم الخطابي؟ > كانت علاقته بهم جد وطيدة وخاصة عبد الكريم الخطابي الذي كان يقدره كثيرا، حيث اعتبره زعيما ومقاوما له مكانته الخاصة التي لن تنسى، كما كانت له علاقات طيبة مع مجموعة من الأسماء التي ساهمت في تحرير المغرب كعلال الفاسي وأحمد بلافريج وأحمد مكوار والشيخ المكي الناصري. - كيف كانت علاقته بالقصر؟ > علاقة احترام وتقدير، خاصة مع الملك محمد الخامس الذي كان صديقا له ومقربا منه، حيث كان يساعده في ما يخص الحركة الوطنية، ويأخذ مشورته وفي كل ما يتعلق بمصلحة الوطن. - هل كانت له خزانة كتب؟ > كانت له خزانة رائعة، قدمها هبة للمعهد الحر الذي أسسه سنة 1936، وكتب له الخزانة بأكملها التي تتضمن أكثر من 10 آلاف كتاب متنوع. - هل كان يحب الموسيقى؟ > كان يحب أغاني أم كلثوم والعزف على الآلة الأندلسية، وكان يحفظ أغانيها ويرددها باستمرار، وحسب ما قيل لي أنه كان يقيم ليالي ببيتنا كل أسبوع يحضرها أهم موسيقيي مدينة تطوان لعزف الآلة الأندلسية، وكانوا يرددون أشعار أم كلثوم ويعزفون الآلة الأندلسية، وهذا ما لا يعرفه الكثيرون عن والدي الذي كان فنانا أيضا. - ما هي الشخصيات في عائلتكم التي ساهم والدكم في إبرازها؟ > والدي ساهم في تكوين جيل تطوان بأكمله، ولم يفرق يوما بين أفراد عائلته وبين أشخاص من الشعب، فقد ساهم في تكوين سفراء وكتاب ونقاد ورسامين، كما ساهم في تكوين مدارس، ورصد منحا للعديد من الطلبة من أجل الدراسة خارج المغرب في القاهرة ونابلس وتركيا، وهذا الجيل من السفراء لا يزال متواجدا حتى الآن.