على امتداد شهر رمضان الأبرك، تفتح «المساء» أدبيات مؤسسات دور الرعاية الاجتماعية التي كانت تعرف ب«الخيريات»، بكل ما في هذه التسمية من حمولات قدحية، في محاولة للكشف عن الجانب المشرق لهذه المرافق، وتتبع الممرات الوعرة التي سلكها «وليدات الخيرية» في مسيرة الألف ميل، قبل أن ينتفضوا ضد الفقر والحاجة ويحجزوا لأنفسهم موقعا يمنحهم مكانة اعتبارية داخل المجتمع. يقول رفيق طفولته عز الدين الماعزي، في شهادة بمناسبة حفل تكريم نظم على شرف الزجال المغربي أحمد لمسيح: «يتكلم أحمد بصوت خفيض حتى يكاد لا يسمعه أقرب الناس إليه، ويكاد يتحدث وهو صامت صمت زوربا الحكيم.. هو الوحيد الذي لم يكبر، والذي قال: سأكبر حين تظهر الديمقراطية، وعندما سئل عن الشيب الذي تسلل إلى شعره، قال: هذه بوادر الديمقراطية». هكذا، عاش أحمد لمسيح صامتا لا يتكلم إلا زجلا، وكأنه يهيىء في طفولته لانقلاب ضد قوافي الشعر العربي الكلاسيكي. توقف الطفل أحمد، القادم من قرية زاوية سيدي اسماعيل الواقعة في الطريق الرابطة بين الجديدة وآسفي، وهو على سكة سفره الدراسي بالجمعية الخيرية الإسلامية بالجديدة، خاصة وأن غياب مؤسسة تعليمية ثانوية بالقرية حتم عليه الاغتراب الدراسي مبكرا، ففي بداية الستينيات التحق الفتى القادم من الزاوية بثانوية القاضي عياض بالجديدة، وهي مؤسسة للتعليم الأصيل، عرف خريجوها بامتلاك فقه اللغة والدين. أسباب «النزول» بالمرفق الخيري أشبه بحكاية تمرد على نمط سلطوي لخالته التي كان يقطن في بيتها خلال تواجده بالجديدة، وبالتحديد في حي مولاي أحمد الطاهري، يستحضر أحمد تفاصيله الصغيرة في هذا البوح: «كانت خالتي تحكم سيطرتها على كل من في البيت، وكنا نلقبها ب«جيش التحرير» من شدة اكتساحها وتسلطها، كنت أرفض هذا السلوك وأسعى نحو التحرر من قيود تأسرني وتحد من حريتي أنا القادم من فضاء مشبع بالحرية». التجأ لمسيح إلى رئيس الدائرة، ويدعى عبد السلام حصار، حكى له قصته وأحاطه علما بالحصار المضروب عليه من طرف الخالة، ودعاه إلى مساعدته من أجل استكمال مسار التحصيل بتوفير مأوى له يقيه شبح التشرد والنوم على رمال شاطئ الجديدة. تدخل رئيس الدائرة لدى مدير الجمعية الخيرية الإسلامية بالجديدة، وتم على الفور قبول ابن الزاوية الذي التقى في هذا الفضاء بكثير من الأطفال القادمين من المناطق القروية، لنفس الدواعي الدراسية، بل إن أغلبهم كان يقاسمه نفس الثانوية. «كانت الخيرية تضم العديد من الأطفال، أغلبهم يعاني من مشكل انعدام سكن يؤويه أكثر مما يعاني اجتماعيا. تعايشت مع الوضع داخل مؤسسة كانت ترعى العجزة أيضا، حيث خصصت لهم إقامة مجاورة في درب بندريس، لكن التغذية كانت تقدم من الجمعية الخيرية للأطفال والشيوخ على السواء». كان مقامه قصيرا في هذا المرفق الخيري، حيث ظل التمرد حاضرا في دواخله ضد كل الضوابط الصارمة التي تميز عادة الجمعيات الخيرية حيث يصبح النزيل مطالبا بالانصياع التام لقانون داخلي يجعل الطفل يتحرك داخل سرب، بشكل جماعي، سواء نحو المرقد أو قاعة الأكل أو فضاء المراجعة». تعلم أحمد أولى دروس المسرح في الجمعية الخيرية، حيث كان أبو الفنون حاضرا بقوة في برامج الأنشطة التربوية والمهرجانات التي تقام في المناسبات الوطنية بالخصوص، وفي حفلة نهاية الموسم الدراسي. «لأول مرة، أكتشف المسرح كفن قائم الذات، بفضل مؤطر عاشق لهذا الفن، كان ينحدر من فاس، لكنني لم أكن أصدق أن أرى فاسيا أسمر اللون، فالفاسي مجسم في ذهني كبورجوازي ممتلئ الجسد ببطن منتفخ ورأس تحتل الصلعة جزءا كبيرا منه، لكنني كنت أمام شخصية فاسي قريب جدا إلينا نحن النزلاء، فقد كان بارعا في تقليد الفكاهي عبد الرؤوف وفي وضع أعمال مسرحية يقوم النزلاء بتشخيص أدوارها، قبل أن أنمي هذه الملكة في المسرح البلدي بالجديدة الذي كان يديره آنذاك الفنان عفيفي والذي ساهم في تكوين عديد من رجالات المسرح كابن ابراهيم والدرهم وغيرهما من الأسماء التي شقت طريقها في هذا الدرب». كان موقع الجمعية الخيرية في حي بوشريط يتيح له ولغيره من الأطفال فرصة الاستمتاع بفن الحلقة، إذ ظل زبونا لنجوم الحلقة في ساحة بوشريط، حريصا على حجز مكانه في الصف الأول لرؤية سكيتشات لمسيح وولد قرد وزعطوط وغيرهم من الشخوص التي ظلت راسخة في ذهنه وساهمت في بناء شخصية أحمد الزجال. كانت تلك الفرجة مجرد امتداد لعادة قديمة بدأها في السوق الأسبوعي بزاوية سيدي اسماعيل حيث كان يقضي سحابة يومه بين حلقات السخرية والطرب والأمداح والملحون والشعبي وعبيدات الرمى، بل إن بذرة الزجل قد نبتت في أعماقه منذ طفولته في دروب دوار السي بوشعيب، قبل أن يسقيها بمواظبته على فن الحلقة وبمعيشه اليومي الذي أسس تدريجيا لشخصية هادئة، لكنها متمردة، رغم صعوبة التعايش بين الهدوء والتمرد. أكبر انقلاب خاضه لمسيح كان على اللغة العربية، التي ظل يعتبرها مجرد أداة، لذا اختار كتابة الشعر باللهجة الدارجة القريبة من نبض المجتمع البسيط. استغل الفتى مقامه في الجديدة لينهل من كل فن طرفا، فقد مارس كرة القدم، وفي أول مواجهة كروية سرقت ملابسه، لكنه تعلم معنى مقولة «اغفل طارت عينيك».. تابع مباريات الكرة في مازاغان حين كان فريقا الرشاد والدفاع يتقاسمان قلوب الرياضيين؛ واظب على القاعدة البحرية واستمتع بلعبة الزوارق الشراعية، وتفرج على مباريات كرة اليد قبل أن يختار سكة الدراسة ويرحل إلى فاس لاستكمال تعليمه الجامعي والانخراط في الحركة الثقافية والسياسية، ثم يقرر في نهاية المطاف الاستقرار في الرباط. كان لمسيح أول من أصدر ديوانا لشعر الزجل تحت عنوان «رياح.. التي ستأتي» قبل أن يعزز المكتبة الأدبية بدواوين أخرى، استثمر فيها -على حد تعبير الشاعر حسن نجمي- «مكونات الخطاب الساخر، واستعمل العامية البدوية الرائجة في البوادي المغربية والقريبة من شفاه الناس وفي مستوى فهم العامة».