التصوف في كتاب أهل العرفان، ربانية واجتهاد في العلم بمقتضى الحق والعمل به، تختلف حدوده بحسب مقامات رجاله في معارج السلوك ومقامات العرفان اللدني، لذلك لا تستقيم دراسته دون النظر في سير هؤلاء والتشوف في مصنفاتهم وآداب مناقبهم، فبهم تعرف حقيقته، وبه يعرفون ويُفضلون.. فبين جحود وظلم لمقامهم، ومغالاة في رواية كراماتهم ومناقبهم، تزداد الحاجة إلى ترجمة أفكارهم لعموم الناس، في مغرب يحرص اليوم على خصوصيته المذهبية، بإحياء قيم التصوف لمواجهة رياح التطرف. مرتبة القطبية في كتاب أهل الولاية، هي مرتبة رفيعة، يعنون بها الرجل الكامل في المحبة والمعرفة وسائر المقامات، وهو خليفة الله في أرضه، والشيخ أبو مدين هو قطب بلغ مرتبة القطب الغوث، وهي مرتبة لا تتحقق حسب الشيخ الأكبر ابن عربي في الفتوحات المكية إلا إذا اجتمعت في صاحبها فضائل في العلم اللدني، تجعله قادرا على الخوض فيما نهى الله تعالى عن الخوض فيه رحمة بالبسطاء من عباده، كأمور الروح والغيب والرزق، فهم أولياؤه، و«من عادا لي وليا فقد أدنته بالحرب» كما جاء في الحديث القدسي..، ومنها أيضا القدرة على فهم معاني الحروف التي تبتدئ بها بعض سور القرآن الكريم: ك«الم» في سورة البقرة، و«كيعهص» في سورة مريم. ولعل أهم من شهد لهم ببلوغ مرتبة القطبية بإجماع أهل العرفان من كل أقطار الأرض، أبو مدين شعيب بن حسين الأنصاري دفين تلمسان، ولد سنة 520 هجرية، عرف بالزهد والصبر على عبادة الله فنال فضل العلم الرباني وحاز أسرارا كشفية، وهذا ما وردت أخباره في أكثر من مصنف، وأفرد له ابن قنفد مصنفا بعنوان «أنس الفقير وعز الحقير»، وترجم له صاحب «التشوف» في الترجمة رقم 162، ووردت إشارات له في «المعزى في مناقب أبي يعزى» ناهيك عن كتاب «الاستقصا».. ومن أقواله في هذا الشأن «الوجود بأسره حرف جاء لمعنى، وبالمعنى ظهرت الحروف، وبصفات اتصف كل موصوف، وباسمه ائتلف كل مألوف، فمصنوعاته له محكمة، ومخلوقاته له مسلمة لأنه خالقها ومظهرها ومنه مبدأها وإليه مرجعها كما أظهرها ذرا»، لذلك ارتفعت مكانته عند أهل السنة والحقية معا، بحسب ما ذكره صاحب «طبقات المالكية». طاف الشيخ أبو مدين المغرب الأقصى والمشرق العربي باحثا عن العلم، وكانت فاس بشيخها الإمام العارف ابن حرزهم، نقطة التحول في مسار هذا القطب الغوث، حيث اطمأن لعلمه الذي يدخل إلى القلوب، وسافر إلى أبي يعزى في الأطلس المتوسط، وتنبأ له هذا الأخير بمكانة عظيمة بعد أن اختبر صبره وتحمله، ليستأذنه في السفر شرقا للحج، فلقي الشيخ عبد القادر الجيلاني، شيخ الطريقة القادرية. وردت أخباره مستفيضة في «التشوف» وكذا في «أنس الفقير».. قبل أن يستقر في بجاية، والتي كانت تابعة آنذاك لحكم الدولة الموحدية، ليتفرغ للتعليم، وحكى صاحب التشوف أن له ألف تلميذ لكل منهم كرامته..، ولأنه كان من الفضلاء وأعلام العلماء، ومن حفاظ الحديث، وكانت ترد إليه الفتاوى في مذهب مالك فيجيب عنها في الوقت، فقد اشتهر بطرق تعليمه وتربيته، المعتمدة على منهج تناقله كبار الطرق الصوفية في العالم الإسلامي، تبدأ بالتوبة ثم الإرادة، فيقول: «طلب الإرادة قبل تصحيح التوبة غفلة، ومع التوبة تكون الطاعات، فمن يهمل الفرائض ضيع نفسه»، وله ديوان شهير باسمه . ومن أكبر تلامذته، الشيخ عبد السلام ابن مشيش والشيخ أبو الحسن الشاذلي، وتحكي الروايات أن ما يسمى اليوم بباب المغاربة في القدس الشريف هو وقف خصصه الملك الأفضل ابن صلاح الدين الأيوبي لتلامذة الشيخ أبي مدين الغوث، وهو على الجانب الغربي من القدس الشريف، والذي يتعرض من عقود لمحاولات تخريبية من طرف جماعات صهيونية حاقدة، تروم تهويد هذا الصرح التاريخي والروحي الكبير.