التصوف في كتاب أهل العرفان، ربانية واجتهاد في العلم بمقتضى الحق والعمل به، تختلف حدوده بحسب مقامات رجاله في معارج السلوك ومقامات العرفان اللدني، لذلك لا تستقيم دراسته دون النظر في سير هؤلاء والتشوف في مصنفاتهم وآداب مناقبهم، فبهم تعرف حقيقته، وبه يعرفون ويُفضلون.. فبين جحود وظلم لمقامهم، ومغالاة في رواية كراماتهم ومناقبهم، تزداد الحاجة إلى ترجمة أفكارهم لعموم الناس، في مغرب يحرص اليوم على خصوصيته المذهبية، بإحياء قيم التصوف لمواجهة رياح التطرف. الشيخ أبو يعزى بلنور، والمعروف عند العامة «بمولاي بوعزة»، وهو الاسم ذاته التي تحمله بلدة تابعة إداريا لعمالة خنيفرة، لا يعرف عنها عموم المواطنين إلا ما تناقلته الأخبار في سبعينيات القرن الماضي، عن محاولة انقلابية كان يُعد لها هناك، غير أنها عند أهل الذوق والربانيين شأو عظيم، لأنها تحتضن ضريح قطب من أقطاب الصوفية، في المغرب الأقصى في كل الأزمنة، عاش في القرن الثاني عشر الميلادي، وردت له ترجمتان وافيتان في كتابين شهيرين، الأول هو «دعامة اليقين في زعامة المتقين» لصاحبه أبو العباس العزفي، والثاني هو كتاب «التشوف إلى رجال التصوف» لصاحبه ابن الزيات التادلي، ناهيك عن ترجمات لأعلام آخرين تتلمذوا على يديه أو زاروه ورأوا ما هو عليه من سعة علم وصفاء سريرة وإيثار في إكرام عابري السبيل.. ينتسب إليه عدد لا يستهان به من أهل العرفان، والذين قدموا إليه من كل فج عميق، من بلاد تادلا وحاحا ورجراجة وسوس وسبتة وغيرها من الأقطار..، كما أن له ذكرا في مصنفات التاريخ، لما اشتهر به عند سلاطين المغرب في العصر الموحدي. وخاصة عبد المومن بن علي الكومي، على حد ما جاء به صاحب «الاستقصا». يرجع بعض مريديه طريقته إلى الشيخ الجنيد السالك، ذي الفضل الكبير على كبار مشايخ التصوف في المغرب الأقصى، كأبي مدين الغوث والذي قال يوما؛ «طريقتنا هذه أخذناها عن أبي يعزى بسنده عن الجنيد عن سرى السقطي عن حبيب العجمي عن الحسن البصري عن علي-رضي الله عنهم-عن النبي صلى الله عليه وسلم عن جبرائيل عليه السلام، عن رب العالمين جل جلاله».. غير أن صاحب «التشوف..»، أورد له كلاما يذكر فيه تلمذته على يد أربعين وليا، «منهم من ساح في الأرض، ومنهم من أقام بين الناس حتى مات». ولم يقتصر صيته عند أهل المغرب، بل وردت له إشارات مضيئة في مصنفات المشارقة من أهل الذوق الرباني، ناهيك عن كتب المناقب في المشرق، وأهمهم الشيخ الأكبر ابن عربي في كتابه الشهير «الفتوحات المكية»، حيث ذكر بعض مناقبه وفضائله، وكذا كرمه لضيوفه، طالبا من مرسول له أن يبلغ الشيخ أبو يعزى السلام، سائلا منه موفور الدعاء. نقلت أخبار كثيرة عن كراماته، لشهود عاينوا أمره الجلل، أوردهم صاحبا «التشوف» و«دعامة اليقين»، ومنها اكتفاؤه بأكل النبات، تفرغه لخدمة أهل العلم والعبادة، وتطويعه للسباع، ودعواته مستجابة، في استسقاء المطر ومداواة المسقومين، وله في إكرام عابري السبيل بحسب مراتب إيمانهم وإحسانهم أخبار بلغت كل الآفاق.. توفي سنة 572 هجرية، بحسب ما ذكر صاحب «التشوف، ودفن في منطقة تعرف باسمه «مولاي بوعزة»، وهي على الحدود بين الأطلس ومنطقة زعير. يقام له سنويا موسم شهير في نهاية شهر مارس، غير أن المقام العرفاني، ومكانة القطبية التي بلغها الشيخ، لا علاقة لها بقريب أو بعيد بما يجري في هذا الموسم، من طرف عموم زواره والمنتفعين بتراثه ممن يدعون أنهم أهل بيته، حيث المتاجرة بالتمائم ولحوم القرابين المفترسة نيئة، ناهيك عن طقوس وشعائر تناقض المعلوم في الدين بالضرورة، طقوس تناقض ما كان عليه الشيخ من مقامات اليقين والعمل بمقتضى السنة المحمدية.