في شهر أكتوبر من سنة 2008 توفي الطبيب والكاتب والمؤلف وعاشق الفنون محمد السجلماسي، بعد مرور ساعات قليلة على توقيعه لكتابه «المغرب المتوسطي من طنجة إلى السعيدية». وبذلك فقد المغرب أبرز المهتمين بالثقافة المغربية، حيث صدرت له 15 مؤلفا حول المغرب والتراث المغربي الذي كرس له جزءا مهما من وقته بعد مهنة الطب، وهو ما جعله محط اهتمام الملك الراحل الحسن الثاني، وجعل السلطات تخصص محجا بالبيضاء يحمل اسمه. - كيف كانت طفولة ونشأة الدكتور محمد السجلماسي؟ > ولد محمد السجلماسي بمدينة القنيطرة في 11 نونبر من سنة 1932، ومكث بها إلى حدود العاشرة قبل أن يعود إلى مدينة فاس ليتربى عند جده السلاوي، رفقة خاله إدريس السلاوي الذي كان بمثابة أخ كبير له، والذي سيصبح في ما بعد مستشارا للملك الراحل الحسن الثاني. وبعد أن نال شهادة الباكلوريا قصد فرنسا لدراسة الطب، ثم عاد إلى المغرب بداية الستينيات لممارسته وليتخصص في طب الأطفال. - وكيف بدأ اهتمامه بالتراث والفنون؟ > بالموازاة مع دراسة الطب، كان والدنا يأخذ دروسا في الجامعة في تاريخ الفن والثقافة، وكان لديه هاجس تعريف الناس بهذا التاريخ الزاخر. - كان والدك معروفا أيضا بالبحث والتوثيق. كيف ترسخت عنده هذه الفكرة؟ > بعد عودة والدي من فرنسا عمل طبيب أطفال في مراكش وورزازات والدار البيضاء، وكان يستقبل نماذج مختلفة من الأمهات اللواتي كن يرافقن أولادهن للتطبيب، وكان يشد انتباهه رسوم الوشم التي كانت تزين وجوه بعضهن، فكان يستأذنهن ويلتقط صورا لهن بلغ عددها حوالي ألف صورة. اليوم لم تعد المرأة تتزين بالوشم، وأصبح هذا التقليد في طريقه إلى الانقراض، ولكنها لا تزال مدونة بهذه الصور التي التقطها والدي الذي أفرد للوشم بابا في كتابه عن الفن التشكيلي المغربي. - لماذا انصب اهتمامه على الحفاظ على الثقافة المغربية والتعريف بها؟ > كان عاشقا كبيرا لمغرب التنوع والاختلاف، وكان مهووسا بالحفاظ على الفن الإسلامي، حيث كان عضوا في البعثة الدولية للحفاظ على التراث الثقافي الإسلامي. وكان يردد دائما هذه العبارة: «لا يمكنك عبور المستقبل دون معرفة الماضي». هل صحيح أن عيادته كانت أشبه بمعبد للفن؟ هذا صحيح، فقد كان يؤثث جدران العيادة بلوحات لبعض الفنانين التشكيليين. ما هي قصة فردة الحذاء التي حملها معه عندما ترك عيادته في عهدة الطبيبة فاتحة مرشد؟ لقد عثر عليها داخل عيادته ولم يعرف لمن تكون، لكنها أصبحت تذكارا عزيزا عليه. لقد كان يرى الأشياء بمنظار خاص، وعلى مدى عدة سنوات عالج خلالها أكثر من 300 ألف طفل. كان يراقب عادات الصغار وتصرفاتهم، وهو ما دفعه إلى تأليف بضعة كتب عن عالم الطفل منها كتاب «دليل الأسر» وكتاب «الأطفال بالمغرب العربي بين الأمس واليوم»، وكان يستعين بمصادره من خلال مخالطته لجميع الطبقات الاجتماعية التي كانت تفد عليه. علاقته بالكتابة - كيف بدأت علاقته بالكتابة؟ > حبه وشغفه بالتراث والفن المغربيين خلقا لديه هاجس تعريف الناس بهما، وقد كان الفن التشكيلي من أول الفنون التي أولاها اهتماما بالغا، حيث ألف كتابا عن الفن التشكيلي المغربي سنة 1971، ليصبح بذلك أول مغربي يؤلف كتابا عن المبدعين المغاربة بعد أن كان ذلك حصرا على الأجانب. وقد كتب في مقدمة الكتاب أنه ليس متخصصا في هذا المجال، ولكن حبه للفن التشكيلي دفعه إلى تأليف كتاب عن بعض الرسامين المغاربة الذين أعجب بأعمالهم. لقد كان والدنا متأملا لكل الأشياء الجميلة من حوله، ثم يقوم بالبحث والتوثيق لها. وكان قبل اختراع الكاميرات الرقمية يلتقط الصور، ويقوم بتحميضها بنفسه. - كيف كانت علاقته بالناس المحيطين به؟ > كان لطيفا واجتماعيا ومقربا من أصدقائه، وكان يجمع بين مهنته كطبيب وهوايته ككاتب، ومن ميزاته الخاصة طريقة استماعه للآخرين وطيبوبته الشديدة. ذكرى دخول القفص الذهبي - كيف تعرف الدكتور محمد السجلماسي على والدتكم؟ > تعرف عليها عن طريق صديق مشترك، سبق له أن تحدث له عنها، فتقدم لخطبتها ثم تزوجا. ووالدتي تنتمي إلى عائلة العلمي، وقد كان والدها وزيرا للخارجية وسفيرا في عدد من الدول الصديقة للمغرب. - كيف كانت علاقتهما؟ > كانت مبنية على الحب والاحترام المتبادل، وكانا شريكين في كل شيء، يتحاوران ويتشاوران، وقد شجعها على إكمال دراستها بعد الإنجاب، حيث استأنفت تعليمها بعد أن اختارت شعبة الحقوق، وكانت عميدة دفعتها، ثم التحقت بسوق العمل وأسست شركتها الخاصة. ألم تشعروا في يوم من الأيام أن مسؤولياته الكثيرة كانت تحرمكم منه؟ إطلاقا، لأنه كان يكرس وقته لنفسه ولعائلته ولأصدقائه، ولذلك لم نشعر يوما بغيابه. وفي هذا الصدد أذكر أن والدي كان يمارس الكتابة في المنزل، وكان يطلعنا على كل شيء يؤلفه. - كيف كان محمد السجلماسي يعاملكم كأب؟ > كان أبا حنونا عطوفا، ولم يكن يميز أو يفرق في معاملتنا. - ما هي الأنماط الموسيقية التي كان يحب الاستماع إليها؟ > كان يحب الموسيقى الغربية الكلاسيكية والتراث الموسيقي الآسيوي، كما كان يحب سماع عزف سعيد الشرايبي على آلة العود. - ما هي المدينة المغربية التي كان يحبها أكثر من غيرها؟ > كان يحب مراكش، ومدينة فاس، ومدن الشمال التي كنا نقضي فيها عطل الصيف بشكل سنوي. ذكرى وفاته - حدثنا عن آخر يوم في حياة محمد السجلماسي؟ > لم أكن موجودا حينها في البيت لأنني كنت في رحلة عمل، ورغم مرضه وإلحاح الطبيب عليه بالتزام الراحة أصر على إقامة حفل لتوقيع كتابه «المغرب المتوسطي من طنجة إلى السعيدية»، وبعد توقعيه عاد إلى الفندق، وبدأ يعاني من صعوبة في التنفس، فتم نقله إلى المستشفى، وهناك أسلم الروح بحضور والدتي وأختي مريم. - ماذا ترك لكم محمد السجلماسي؟ > ترك لنا اسما كبيرا يثق به الجميع، فجمعية «فاس 1200 سنة» هي التي مولت مجموعتي «المنار» لثقتها باسم محمد السجلماسي. وأعترف أن أثره علي كبير جدا. في ضيافة الملك - استقبلكم الملك محمد السادس وقدمتم له آخر مؤلفات الراحل. كيف كان اللقاء؟ > كان لقاء لا ينسى، لمسنا خلاله مدى اهتمام جلالته بالثقافة والتراث المغربيين، وقبل هذا اللقاء تولى جلالته مراسيم جنازة ودفن والدنا. كما حظي والدنا بالاهتمام من طرف الملك الراحل الحسن الثاني، حين كان والدنا يتشرف بتقديم مؤلفاته لجلالته. - وكيف تلقيتم خبر تدشين محج في البيضاء باسم والدكم؟ > تلقينا الخبر بفرح لا يوصف لأن ذلك كان بمثابة اعتراف بخدمات والدنا، وقد حرصنا من خلال العلامة التي تزين الشارع على التعريف بمهنته كرجل طب وثقافة. - بعد سلسلة «المنار» هل تنوون تقديم الجديد بالاستفادة من مخزون والدكم؟ عاش والدي كريما وعاشقا لبلده وباحثا في ثقافتها وتراثها، وسنواصل رسالته من خلال جمعيته، ونحن في جعبتنا الكثير من المشاريع الثقافية التي أتمنى أن ترى النور قريبا. كما نفكر في خلق جائزة تحمل اسمه. - هل لا زلتم تذكرون موقفا لا تنسونه من حياة والدكم؟ > قبل 10 سنوات ألمت به أزمة قلبية، فطلب العلاج في فرنسا، وهناك أخبرونا أن مرضه لن يمهله سوى سنة، لكنه عاش 10 سنوات وألف 15 مؤلفا، وعندها أدركت أن كل شيء بمشيئة الله. - عبارة تصفون بها والدكم. > كان كالمنار الذي يشع نوره للآخرين، لذلك أسميت مجموعتي التي ألفتها «منار» وأهديتها إلى روحه