كل شيء معقول في زمن اللامعقول.. درهم يخرج من جيب موظف كادح يعاني ما يعانيه من ضغوطات الحياة يساهم بشكل أو بآخر في توسيع ثراء متسول محتال، عجيبة هي الحياة، أناس بسطاء يمنحون جزءا مما يملكون تقربا إلى الله العلي القدير مسرعين للحاق بحافلة نقل الركاب وسعيد الحظ منهم من وجد كرسيا شاغرا يريحه من عناء المطاردة اليومية لوسائل النقل في بغداد بينما يستقل المتسول المزعوم سيارته الخاصة بعد انتهاء ساعات عمله المربحة... لم أصدق أذني عندما أخبرني الخبير(س.ن) أحد المنتسبين إلى منظمة أطفال الشوارع عن الابتكارات المستحدثة في أساليب استغلال بعض ضعفاء النفوس لبراءة الطفولة في جني أموال طائلة بعد إجبارهم على التسول في الساحات العامة، الموضوع أثار الفضول داخلي لتتبلور في رأسي فكرة تحقيق صحفي مقوماته البحث عن حقيقة تلك الابتكارات والتلذذ بمتاعب المهنة التي ربما يخسر الصحفي حياته يوما ما جراء جرعة مفرطة منها!! مفهوم العصابة قصدنا ساحة حديقة الأمة، إحدى أكبر ساحات العاصمة العراقية بغداد، بعد أن قفز اسم تلك الساحة بين الكلمات التي أمطرني بها ذلك المتحدث الخبير والذي رفض أن أذكر اسمه خوفا على حياته وحياة عائلته من ردة فعل زعماء العصابات الذين يبدو أنهم يعرفوه جيدا كما يعرفهم هو، على أي حال لم نجد صعوبة تذكر في إيجاد أفراد شبكات التسول فهم على الأغلب أطفال بعمر الورود عصفت خشونة الحياة ومصاعبها ببراءتهم التي لم يتبق منها سوى تلك الملامح الطفولية التي تختفي خلف غيوم البؤس وعدم النظافة، يتوزعون في أرجاء الساحة ويتبادلون الأماكن بحركة شطرنجية منتظمة ومحسوبة، ربما لكسر روتين الاستجداء أو لتنشيط المتسولين الصغار للقيام بعملهم على أكمل وجه، خمس ساعات من المراقبة تناولت خلالها عددا كبيرا من أقداح الشاي وقناني المشروبات الغازية لإضفاء صفة المنطقية على وجودي بالقرب من مكان عملهم، بينما اختفى زميلي المصور لاصطياد ما يمكن اصطياده من حركاتهم التي تشبه حركة كواكب المجموعة الشمسية فهم يدورون في أرجاء المكان ليعودوا إلى امرأة مسنة ليضعوا ما حصلوا عليه من النقود في أحضانها، أصحاب المحال التجارية امتنعوا عن إعطائهم النقود بعد أن اكتشفوا حقيقتهم مع مرور الأيام. حيث يخبرنا أحد محدثينا أن هذه الشبكة من صغار المتسولين في اتساع مستمر, فقبل أشهر كان الأمر مقتصرا على ثلاثة أطفال وامرأة، أما الآن فيتجاوز عددهم الخمسة عشر طفلا يتغيرون باستمرار والثابت الوحيد هي المرأة المرافقة لهم والتي تلعب دور وزارة المالية التي تصب موارد كل الوزارات في خزينتها، تنقلنا بين أصحاب المحال التجارية للحصول على بعض أسرار هذه الشبكة، بينما استمر الأطفال بحركتهم الدؤوبة في جمع النقود من جيوب عباد الله الفقراء، فتارة تنتزع النقود بالتوسل والتقبيل وتارة أخرى بالإحراج والإلحاح وفي أحيان أخرى تنتزع النقود بقوة السلاح من قبل أفراد الشبكة المراهقين عندما يفرغ الشارع من المارة قبيل حلول المساء. كما أخبرنا بذلك بعض من تحدثنا إليهم والذين اتفقوا على نقطتين جوهريتين الأولى أن هؤلاء الفتية جزء من عصابة خطيرة وتجاهلهم أفضل الطرق لاتقاء شرورهم والثانية المطالبة بعدم تصويرهم أو ذكر أسمائهم خوفا ممن يديرون مثل هذه العصابات ومن أهم الأسماء التي حصلنا عليها عباس الأعرج ونعيم أبو كرش ويوسف الأحمر. الدرس الأول مع انتهاء ساعات العمل الشاقة بدا التعب واضحا على وجوه الأطفال الذين لم يتناولوا طوال فترة مراقبتي لهم سوى لقيمات صغيره أجاد بها عليهم أهل البر والإحسان، فافترش بعضهم زوايا المكان ليتناولوا وجبتهم السريعة، بينما أخذ البعض الآخر يلهو بعلبة صفيح فارغة متخذينها بمثابة كرة يركلونها كيفما اتفق في محاولة طفولية فطرية لتقليد أقرانهم الذين ربما كانوا الآن في أحضان ذويهم ينعمون بالدفء والحنان. لحظات اللهو القصيرة أنهتها المرأة العجوز مطالبة إياهم بالاستعداد للانصراف انسحب الجميع بحركة مغناطيسية خلف العجوز إلى الشوارع الخلفية، فتبعتهم بحذر خوفا من انكشاف أمري, ورغم قصر المسافة إلا أن المشي المتثاقل للعجوز جعل المسافة تبدو أطول مما هي عليه بالواقع، ومع مرور الوقت يزداد توغلها داخل الشوارع الفرعية في محاولة ذكية لتفويت الفرصة على من يحاول ملاحقتها بينما أخذ الأطفال بالجري باتجاهات مختلفة، مما جعلني أمام خيارات تعقب عديدة اخترت أسهلها بحسب وجهة نظري في محاولة للوصول إلى شيء ما يغني موضوعنا هذا، وما هي إلا لحظات حتى توارى الجميع عن أنظاري، هنا أيقنت أن انسحاب هؤلاء الأطفال مدروس ومخطط له بذكاء ربما لأنهم كشفوا أمرنا أو ربما لأنه إجراء احترازي يومي للإفلات ممن يلاحقهم إن لاحقهم أحد. ورطة لم يكف السيد (س.ن) عن الضحك بعدما أخبرته عن المقلب المدروس الذي شربته، وطلبت منه بعض النصائح والإرشادات لأنه أكثر خبرة في أحوال هذه الشبكات فأرشدني إلى بعض الأماكن والتي تكون غالبا بالقرب من الساحات العامة والمساجد والمراقد والفنادق والأماكن السياحية، هذه المرة قصدنا تقاطع منطقة الوزيرية، وكالعادة توزع المتسولون على الشوارع الأربعة ولكن بشكل كثيف إلا أن طريقة الاستجداء كانت مفضوحة وأقل ذكاء، فالسيناريو هنا عبارة عن تسول ثنائي من رجل وامرأة يدعي الرجل أنه يعيش أيامه الأخيرة، وبينما اتخذت المرأة على عاتقها مساندة زوجها في محنته الذي هو غالبا لا يمت إليها بأي صلة في كسب ثمن الدواء، بينما اكتفت أخريات بحمل أطفال لم يتجاوزوا عامهم الأول لكسب تعاطف الناس معهم، غريزة مصورنا الصحفية بالبحث عن صور أفضل وأكثر وضوحا واقترابه المتكرر منهم جذب انتباه بعض المتسولين إلى الكاميرا رغم اجتهاده في إخفائها مما دفعهم إلى الجري لكن إلى أين؟ بالتأكيد وراءه فما كان منه إلا أن أطلق ساقيه للريح خوفا من ردة فعل الرجلين، ورغم سرعته الهائلة التي ذكرتني بسباقات المسافات القصيرة فإن بعض اللكمات الخاطفة نالت من رأسه ووجهه قبل أن يركب السيارة التي كنت أقودها ولكن بنصف قميص، تلاحقنا عبارات الوعيد والتهديد وبعض الشتائم، انطلقت السيارة بسرعة في مشهد دراماتيكي يشبه عملية الفرار بعد القيام بعملية سطو مسلح شاكرين المولى العزيز القدير لإنقاذنا من هذا المأزق علما أن المعركة حدثت بالقرب من إحدى دوريات الشرطة الذين اكتفوا بمتابعة المشهد كمن يتابع أحد أفلام الأكشن! إجابات مزيفة افترقنا أنا والمصور وكلنا إصرار على المحاولة مرة أخرى، ولكن هذه المرة في أخطر أحياء العاصمة بغداد منطقة البتاويين، التي كثيرا ما خضعت لحملات تفتيش من الأجهزة الأمنية العراقية، اعتمدنا هذه المرة أسلوبا مغايرا ألا وهو أسلوب انتزاع المعلومات بالطرق الدبلوماسية. اتجهنا إلى حيث يوجد صغار المتسولين تقربت منهم ووزعت عليهم النقود من الفئة الصغيرة ثم حاولت أن أكسب صداقتهم بالسؤال عن دراستهم والأسباب التي دفعتهم إلى مزاولة هذه الأعمال إلا أن إجاباتهم جاءت مزيفة كما توقعت تفحصت وجوههم المتعبة واخترت أكبرهم عمرا ويدعى (علي) ذو السنوات العشر لعلي أحصل على إجابات لما أبغي السؤال عنه، وضعت في جيبه مبلغا آخر مشددا عليه أن يشتري وجبة طعام دسمة شكرني وانطلق قبل أن أوجه إليه أي سؤال، فجلست أراقب حركاته وطريقته بالتودد لمن يستجديهم من خلف مقود السيارة وما هي إلا ساعة حتى ركض (علي) نحو رجل أنيق، حاد الملامح، حليق اللحية يستقل سيارة نقل ركاب صغيرة فيها عدد من الأطفال في مشهد أشبه ما يكون ب (باص المدرسة) ولكن أي مدرسة يا ترى؟! وسرعان ما ضاعت الحافلة بركابها وسط الازدحام الذي تشتهر به منطقة السعدون في بغداد، ثلاثة أيام قضيناها في التقاط الصور وجمع المعلومات في أهم أماكن تواجد المتسولين وفي كل مرة نصطدم بحاجز الحس الأمني العالي الذي يمتلكه أفراد تلك الشبكات مما يحول دون الوصول إلى أبعد مما وصلنا إليه سابقا، فقررنا تعليق العمل بهذا التحقيق على أمل متابعة الموضوع بعد فترة قصيرة لاسيما وأن الأطفال بدؤوا يعرفوننا جيدا لذا تخوفنا من كون تلك العصابات قد رصدتنا قبل أن نرصدها فيصبح مقتلنا تحقيقا صحفيا مصورا. الخال الطيب لم يفارق الموضوع مخيلتي حيث أصبح الموضوع شغلي الشاغل وركنا أساسيا في كل مكالمة هاتفية مع زميلي المصور أو حديث عابر مع زملائي الصحفيين، وفي يوم بارد كنت عائدا إلى البيت. كنت أتعمد سلوك طريق يمر بأماكن وجود المتسولين، فطرق نافذة سيارتي أحد الأطفال ملوحا بيده ولم يكن ذلك الطفل سوى (علي) ترجلت من سيارتي ودار بيننا هذا الحوار: > كيف أحوالك؟ نفس الشيء اليوم مثل البارحة إلا أنه أكثر برودة، وابتسامة مصطنعة ترتسم على شفتيه اللتين تغير لونهما بسبب البرد لاسيما وأن المسكين لا يرتدي ما يقيه قسوة البرد. > جوابك جميل هل أنت في المدرسة؟ نعم في الصف الرابع > مع من تعيش؟ مع خالي لأن أبي وأمي متوفيان وهو يحبني جدا > لماذا تقوم بالتسول؟ لسد نفقات الدراسة، مضيفا أنا أعمل بعد دوام المدرسة > ألا تخجل من أصدقائك بالمدرسة؟ مدرستي في مكان بعيد من هنا ولن يشاهدني أي أحد من أصدقائي ثم إني لا أجبر أحدا على إعطائي المال. > كم تكسب في اليوم الواحد. الرزق على الله لكن في أول الشهر الرزق أفضل من آخر الشهر > هل خالك صاحب سيارة نقل الركاب الصغيرة؟ وبعد تردد ومراوغة أجابني نعم. سكت لبرهة ثم استرسل قائلا خالي رجل يعمل في تجارة السيارات إلا أنه يعيل عددا كبيرا من العائلات الفقيرة ويجعل أولادهم يتسولون لمساعدته بذلك (استغرقت عملية إقناعه بعض الوقت ومبلغا من المال ووعدا بعدم إخبار خاله بأي شيء يقوله) * وهل يأخذ خالك شيئا مما يجنوه؟ الشيء القليل أظنه يكذب * وهل كلهم من الأطفال؟ كلا هناك العديد من الرجال والنساء وأخذ يشير بيديه إلى أماكن تواجدهم * كم يأخذ خالك منك؟ نصف ما أكسب * هل أنت سعيد؟ طبعا سعيد وأشعر بالبرد، مع السلامة. وينطلق مسرعا رغم إغرائي له بالاستمرار بالكلام مقابل مبلغ إضافي، اتصلت بالمصور واتفقنا على القيام بعملية ملاحقة صحفية ل(علي) وخاله المزعوم لأننا نعتقد أن ما أخبرني به (علي) ليس كل الحقيقة، في اليوم الثاني وقبل حلول المساء أوقفت السيارة على نفس الطريق الذي تسلكه حافلة المتسولين، وبالفعل بدأت ملاحقة السيارة التي تقل (علي) ورفاقه بالمهنة الذين ترجلوا الواحد تلو الآخر في مناطق مختلفة، ترجل (علي) ومجموعة من الأطفال في أحد الأزقة الضيقة بينما ترجل باقي الأطفال في مكانين آخرين، فما أن فرغ سائق الحافلة من إنزال ركاب حافلته حتى اتجه إلى منطقة المنصور أحد أرقى أحياء بغداد ليدخل سيارته في مرآب بيته مستبدلا حافلة المتسولين بعد فترة وجيزة بسيارة شبابية حديثة، أمام ما شاهدته لم أجد بدا من بعض المغامرة، ترجلت نحو البيت وأنا أرتدي ملابس تشبه ملابس المتسولين بينما اكتفى زميلي المصور بالمراقبة والتصوير عن بعد، طرقت الباب فخرجت امرأة حسنة الهندام كلمتني عن بعد مستفسرة عن هويتي فقلت لها أنا على باب الله ومحتاج، غزا المرض جسدي فهل من مساعدة؟ فأجابتني بعنف (يعطيك الله) مضيفة «لماذا لا تذهب للعمل ما زلت شابا؟!» قلت في نفسي فما بال صاحب البيت إذن غادرت المكان مسرعا شارحا لزميلي ما حصل معي وبلا تعليق استهجنا مقدار جشع مثل هؤلاء الناس قلل الله عز وجل من أمثالهم. التجربة خير برهان الحصول على إجابات حول مقدار ما يحصل عليه المتسولون من النقود جراء استجدائهم أمر صعب للغاية، لأنهم يعمدون إلى إخفاء الحقيقة ربما لإضفاء صفة الفقر على حياتهم أو خوفا من حسد الحاسدين أو ربما لوضع حد لمطامع الشبكات الأخرى في أماكن استجدائهم. أيا كانت الأسباب قررت أن أصبح متسولا، ارتديت ملابس العمل واجتهدت في المشي بشكل منحني مرددا أني أعاني من مرض عجز الطب عن إيجاد علاج له، الأمر بدا صعبا أول وهلة لكن سرعان ما اندمجت بالدور وسط إصراري على إثبات شيء ما، اتجهت إلى إحدى إشارات المرور لممارسة مهنتي الجديدة بسبب افتقاري إلى مقومات الممثل الناجح فحصلت على النصائح بدل النقود، لذا قررت تجربة طريقة أخرى اعتقدت حينها أنها أكثر تأثيرا على مشاعر الناس فافترشت الأرض على أحد أرصفة شوارع المنصور مادا يدي لطلب المال بدون أي كلمة، واخترت المكان أمام أحد أكشاك الصحف للاستفادة من زحمة المارة وتذكير نفسي بأني ما زلت صحافيا، بدأ الناس يعطوني كل بحسب إمكانياته، وما تجود به نفسه من الفئات النقدية الصغيرة والمتوسطة ومن ثم اتجهت إلى رجال الشرطة المرابطين في شارع المنصور الذين لم يترددوا في إعطائي بعض النقود. ما استطعت الحصول عليه في ثلاث ساعات هو خمسة دولارات تقريبا، لتصبح المعادلة ببساطة خمسة عشر دولارا في اليوم الواحد هي حصيلة عمل المتسول المبتدئ على افتراض أنه يمارس التسول تسع ساعات في اليوم بطبيعة الحال بعض المتسولين يعملون اثنتا عشرة ساعة أي أربعمائة وخمسين دولارا في الشهر، وهو ما يعادل راتب ضابط في الشرطة هذا ما استطعنا الوصول إليه وما خفي ربما كان أعظم. بعض خفايا التسول بعض ضعفاء النفوس يقومون بتأجير أبنائهم وآبائهم وأمهاتهم مقابل راتب شهري، على أن يتكفل المستأجر بتوفير المكان والطعام للأجير المجبر، تأجير الأطفال عمل طبيعي في أخلاقيات التسول لكن إجبارهم على تناول المنوم بشكل يومي لكي يبدو عليهم المرض مما يسند ادعاءات المتسولين هذا هو الأمر الأكثر فظاعة، أما عن أسعار استئجار بني البشر فثمن تأجير الطفل المعاق ضعف ثمن تأجير الطفل السليم. ويشير بعض من تحدثنا إليهم أن هناك أطفالا يتم إخراجهم من ملاجئ الأيتام ليتسولوا بدون الإشارة إلى من يقف وراء هذه الظاهرة، الأولاد المراهقون يرتدون ملابس الفتيات للحصول على فرص تسول أفضل!، هذه الشبكات تتقاسم الساحات العامة وتتنافس للحصول على المتسولين البارعين من أصحاب العاهات المرضية أو ممن يتقنون تمثيل الإعاقة، وتربطهم ببعضهم علاقات وطيدة ولابد من الإشارة إلى مقدار التنظيم الذي تحظى به عملية التسول الجماعي والطاعة الواضحة لأفراد الشبكة لمن يديرها. والغريب أن المتسولين يمارسون الاستجداء أمام مرأى ومسمع رجال الأمن من غير خوف والأغرب أنهم يستجدون بالعملة الصعبة من عباد الله الأغنياء بالقرب من الفنادق والأماكن السياحية، أما أكثر ما يدمي القلب هو ما سمعناه عن قيام المتسولين المراهقين بممارسة الجنس مع بعضهم البعض بسبب غياب الرقابة، مما قد تنتج عنه مشاكل اجتماعية خطيرة، ختاما لابد من الإشارة إلى أن هناك أناسا عصفت بهم رياح العوز والظروف الصعبة مما اضطرهم مجبرين إلى استجداء ما يتكفل ببقائهم على قيد الحياة. تكبر المتسولة لتصبح عاهرة لم تتجاوزا العقد الثالث كما بدا من ملامحهما وثيابهما لكنهما تجاوزتا كل الحدود في طريقة استجدائهما المال من المارة، فقد وقفت الفتاتان وسط شارع الكندي وسط بغداد لتستوقفا المارة – من الرجال خصوصا – وترددا إحدى موشحات التسول المعروفة عن نفاد ما لديهما من مال وحاجتهما إليه لشراء دواء لمريضهما.. لم تكن ملامحهما تشي بالتذلل والتوسل كما هي حال المتسولين بل كانت إحداهما تدندن والأخرى تضحك على كل تعليق تطلقه صاحبتها، أما عندما يتوقف عدد من الشبان لسماع عباراتهما فقد كان الحوار يطول وتمتد شجونه وتتخلله ابتسامات وهمسات لا يمكن التكهن بما يكمن وراءها غير أنها تنتهي عادة بحصول المتسولتين على مبلغ لا يقل عن خمسة آلاف دينار!! يمكن اعتبار هذا الأسلوب في الاستجداء ظاهرة جديدة تغزو المرائب والشوارع التجارية وتمارسها فتيات ونساء تحمل ملامحهن مسحة جمال (مطلوبة) لضمان الحصول على المال من التسول و(الدعارة) معا! ولم تتوان (س) يوما عن الوقوف في مكانها المعهود في مرائب العاصمة بغداد وهي تتلفع بعباءة تخفي تحتها ملابس جيدة لتطلب من المارة ولاسيما الرجال مبلغ ألف دينار لأنها أضاعت ما لديها من مال ولا تملك أجرة العودة إلى مدينتها، وبرغم اندهاش البعض من (التسعيرة) التي تتمسك بها الشابة المتسولة وقناعتهم الكاملة بكذبها عليهم إلا أنهم يقدمون لها الألف دينار ليتخلصوا من إلحاحها. أما باطن الأمر فيبعد عن التسول أميالا لأن المساومة فيه تتم على جسد (س) ومن خلال (متعهد) يراقب عملها ويوفر لها الغطاء الكافي لتختفي مع أحد الزبائن لمدة محددة ثم تعود إلى مكانها... ويبدو أن نجاح هذا الأسلوب في التسول وازدهار مهنة (س) شجعتا المتعهد على استخدام فتاة أخرى تقف بدلا منها وتختفي أحيانا لدى قدوم (س) بعد أن يكون المتعهد قد رتب لها موعدا هي الأخرى!