أزيد من 50 حالة تتوافد يوميا على مستعجلات الرازي للأمراض النفسية والعقلية، فإضافة إلى جهة الرباط وجهة الغرب، فإن القسم يقدم خدماته إلى المرضى الوافدين من جميع أنحاء المغرب، أمام قلة المراكز المتخصصة في الطب النفسي والعقلي نسبة كبيرة من المرضى الذين يستقبلهم القسم يعانون من مرض انفصام الشخصية، يأتي بعده الاكتئاب في مراحله المتأخرة التي تجعل المصاب به يفكر جديا في وضع حد لحياته قسم المستعجلات جملة ارتبطت كثيرا في أذهان الناس بلون الدم والإصابات الجسدية، لكن أقسام المستعجلات أنواع، ومنها نوع خاص بالأمراض النفسية والعقلية. بالقرب من بناية أثرية مهملة اسمها زاوية النساك بسلا، تستقر بناية من طابق واحد، يعلوها قرميد أخضر، شكل البناية يجعل الأمر يختلط لدى البعض ويظن أنها ضريح، أو ولي من أولياء الله الصالحين، لكن الأمر في الواقع يتعلق بقسم المستعجلات التابع للمستشفى الجامعي الرازي للأمراض النفسية والعقلية. الساعة تشير إلى التاسعة والنصف صباحا، أمام باب المستعجلات الصغير والذي يشبه أبواب المنازل في حي شعبي، وقف أزيد من 18 شخصا، بعضهم جلس على الأدراج الإسمنتية رغم الجو البارد في شبه انهيار، فيما وقف البعض جامدا بعيون شاردة، والجميع ينتظر دوره من أجل الفحص. بالداخل يوجد أيضا سبعة أشخاص يحول بينهم وبين قاعة الانتظار باب حديدي بلون فاقع، يشبه إلى حد كبير أبواب زنازين السجن، وبه كوة تظهر من خلالها قاعة انتظار كئيبة، بها مكتب خشبي بسيط، وهاتف، ولائحة المرضى المسجلين. بداخل القاعة، جلس شاب في مقتبل العمر ربط رأسه بقطعة قماش، وبدا من خلال قسمات وجهه أنه يعاني صداعا رهيبا، وإلى جانبه جلست سيدة في العقد السادس رفقة ابنها الذي يصرخ في وجهها بأنه ليس مجنونا بل يعاني فقط من «الضيقة» ولا بد له من الأكسجين. أزيد من 50 حالة تتوافد يوميا على مستعجلات الرازي للأمراض النفسية والعقلية، فإضافة إلى جهة الرباط وجهة الغرب، فإن القسم يقدم خدماته إلى المرضى الوافدين من جميع أنحاء المغرب، أمام قلة المراكز المتخصصة في الطب النفسي والعقلي نسبة كبيرة من المرضى الذين يستقبلهم القسم يعانون من مرض انفصام الشخصية، يأتي بعده الاكتئاب في مراحله المتأخرة التي تجعل المصاب به يفكر جديا في وضع حد لحياته، تم يأتي بعد ذلك الهيجان والهستيريا، إضافة إلى عدد كبير من المدمنين على المخدرات القوية مثل الهيروين والكوكايين، خاصة من المناطق الشمالية للمغرب. بعد لحظات، تصل سيارة إسعاف تابعة لجماعة قروية، يترجل منها رجل نحيل في الستين من عمره ومعه فتاة، قبل أن ينزل السائق ويفتح الباب الخلفي لينزل شاب قوي البنية بملامح قاسية تشبه إلى حد كبير قسمات وجه ملاكم محترف. بهدوء يصعد المريض الأدارج المؤدية إلى باب المستعجلات وسط حذر شديد من مرافقيه، ليأخذ مكانه في قاعة الانتظار قبل أن يخرج من جيبه وردة بلاستيكية حمراء، ويشرع في الهذيان بكلام غير مفهوم. الشاب نزيل سابق في المستشفى حضر رفقة أقاربه، بعد أن بدأت حالته النفسية تتدهور من جديد، لكنه نجح في التخلص من سلوكه العدواني، عكس نزيل سابق يعاني من البارانويا، والذي خلق حالة من الفوضى، قبل أن يتم نقله إلى المستشفى بعد حقنه بمهدئ. أخطار المهنة طعنات بالسكاكين، جروح وغرز، لكمات وبصاق، وسباب يطال الملة والدين، هي الضريبة المشتركة التي يؤديها العاملون بقسم المستعجلات الخاص بالأمراض النفسية والعقلية. يقول عبد العزيز العرباوي الممرض الرئيس بالقسم: «أنت لا تعلم متى سيبدي المريض تصرفا عدوانيا قد يلحق من خلاله الأذى بالمحيطين به أو بنفسه»، قبل أن يشرع في سرد واقعة عاينها. «في إحدى المرات، قام أحد المرضى بكسر زجاج النافذة، وأمسك بقطعة زجاج شرع في غرسها في عنقه، مهددا بذبح نفسه، ما لم يتم تسليمه حبوبا مهدئة»، قبل أن يضيف: «لقد وقف الطاقم عاجزا عن التدخل ليقوم أحد الممرضين بالاستعانة بالعبوة الخاصة بإطفاء الحريق، حيث عمد إلى رش محتواها على وجه المريض قبل أن يتم شل حركته». العاملون بقسم المستعجلات يقولون إن الخطر يهددهم بشكل يومي، كما أن هامش التدخل يكون محدودا، خوفا من إصابة المريض في حالة التدخل بعنف، وهو الأمر الذي ستكون له مضاعفات مهنية وإدارية. وكان قسم المستعجلات قد عرف قبل سنة حادثا مأسويا أودى بحياة الممرض عبد الله الفجري، (54 سنة)، أب لأربعة أبناء، بعد أن تعرض لهجوم من قبل مريض حل بالمستشفى في حالة هيجان تام. الضحية حاول أن يقوم بحقن المريض الهائج بحقنة مهدئة، لكن هذا الأخير قام بمهاجمته، ووجه إليه سيلا من الضربات على مستوى رأسه وجهازه التناسلي كانت كافية لإزهاق روحه. وزيرة الصحة ياسمينة بادو، التي حضرت ساعات بعد وقوع الحادث، إلى مستشفى الرازي، كانت قد أعلنت عن تشكيل خلية أزمة من أجل حل المشاكل التي يعاني منها المستشفى وضمان عدم تكرار هذه الحوادث، وهو الكلام الذي بقي بدون تنفيذ إلى حد الساعة، يقول أحد الممرضين: «الوزيرة وزعت الوعود من أجل امتصاص غضب العاملين، وكلامها كان مجرد علكة مضغتها وانصرفت». العاملون في المستشفى كانوا قد طالبوا بعد هذا الحادث الذي لازال حاضرا بقوة في أذهانهم، بضرورة توفير الحماية لهم، لكن الوضع لم يتغير وتم الاكتفاء بتغيير الأبواب الخشبية بأخرى حديدية، والاستعانة برجل شرطي يحضر بين الفينة والأخرى. وكانت «المساء» قد انتقلت إلى القسم لحظات بعد وقوع الحادث، وعاينت التخريب الذي تعرضت له التجهيزات، إضافة إلى الصدمة الشديدة التي خلفها مقتل الممرض لدى العاملين بمستشفى الرازي، يقول أحد الممرضين وهو يشير بيده إلى المكتب الموجود بقاعة الانتظار «ديما كنبدلوه، حيت كل مرة كتوقع شي مصيبة». «نصف المغاربة مجانين» قسم المستعجلات يعمل على مدار اليوم بثلاث فرق من الممرضين فريق من الثامنة صباحا إلى الثالثة زوالا، وفريق من الثالثة إلى الثامنة ليلا، يليه فريق يتولى العمل من الثامنة ليلا إلى الثامنة صباحا، في حين يتولى طبيب واحد تشخيص كل الحالات. الدكتور عموري علي، طبيب مقيم بقسم المستعجلات، سيتولى في إطار المداومة تشخيص الحالات الوافدة خلال 24 ساعة متتالية. يقول الدكتور العموري: «إن الطب النفسي يتطلب تواصلا من نوع خاص مع المرضى للبحث في نفسيتهم، والتمكن من تشخيص طبيعة المرض»، قبل أن يضيف: «بطبيعة الحال، تشخيص كل هذه الحالات أمر مرهق، لكن ليس باليد حيلة أمام قلة الأطر، نحن نفعل كل ما في استطاعتنا من أجل مد يد المساعدة إلى المرضى، لأننا نعلم ماذا يعني المرض النفسي أو العقلي سواء للمريض أو لأقاربه».. المرض النفسي أو العقلي لا يميز بين الغني والفقير، فلائحة الوافدين تضم، إلى جانب الطبقة الكادحة، شخصيات تنتمي إلى النخبة، منهم موظفون سامون ومدراء شركات ورجال أعمال، بعضهم حاول أن يتغلب على مرضه في مصحات خاصة قبل أن يدرك أن الأمر يتطلب الخضوع للعلاج في مركز متخصص. يقول الدكتور عموري: «في السنوات الأخيرة، تغيرت نظرة المجتمع المغربي إلى المرض النفسي والعقلي، لكن للأسف لازال البعض يعتقد أن كل من يستفيد من العلاج بالرازي، فهو شخص مجنون»، وأضاف: «الإحصاءات والأرقام الرسمية أكدت أن 48 في المائة من المغاربة يعانون من أمراض نفسية، فهل نستطيع في هذه الحالة أن نقول إن نصف المغاربة مجانين؟!». حالات غريبة قسم المستعجلات الخاص بالأمراض النفسية والعقلية مصلحة ساخنة للغاية، والحالات التي تفد تكون أحيانا غربية، مثل حالة فتاة قاصر وصلت إلى المستعجلات على متن سيارة شرطة عملت على نقلها إلى المستشفى، بعد أن عثر عليها في الشارع عارية كما ولدتها أمها، ليتبيّن بعد الفحص أنها تناولت مخدر المعجون، وهو ما أشعرها بسخونة رهيبة جعلتها تتخلص من جميع ثيابها. قسم المستعجلات يستقبل أحيانا وافدين مميزين، ويتعلق الأمر بعرسان وعرائس خانتهم أعصابهم في ليلة العمر، وعوض أن ينتهي بهم الحفل إلى شهر العسل يجدون أنفسهم في قاعة الفحص. يقول الممرض الرئيس: في عدة حالات، استقبلنا عرسانا أصيبوا بالهيجان العصبي، والأمر يكون مرتبطا في كثير من الأحيان إما بالعجز عن البناء بالعروس، وهي مسألة لا يتقبلها البعض، مما يولد ردود فعل نفسية بفعل الصدمة، وأحيانا فإن بعض العرسان يجدون طريقهم إلى هنا بفعل التوتر والضغوطات النفسية المصاحبة للاستعدادات لحفل الزفاف، أو تلك المرتبطة بطقوس الزواج، والأمر ذاته ينطبق على العرائس فأحيانا قد تتسبب الفرحة الزائدة في حالة من الهستيريا لدى بعض الفتيات. القسم يستقبل أيضا المتورطين في الجرائم، خاصة جرائم القتل وإضرام الناروالإيذاء الخطير، هؤلاء تتم إحالتهم على المستشفى بناء على مراسلة من وكيل الملك لتشخيص حالتهم النفيسة والعقلية، وتحديد ما إذا كانوا مسؤولين جنائيا عن أفعالهم، حيث تقوم لجنة مكونة من مجموعة من الأطباء، بإخضاع الموقوفين لفحص قبل إنجاز تقرير يحدد على ضوئه مصير المتابعة. بين الفقيه والطبيب يلج شاب، يبدو من ملامحه أنه ينحدر من الجنوب، قاعة الانتظار وعليه علامات ارتباك واضح، قبل أن يتبعه شيخ يرتدي جلبابين، ويمسك بيده السبحة، وهو يردد جملة «داو ليا لمرا» بطريقة سريعة، ليقوم بطبع قبلتين على وجه الممرض كما لو كان يعرفه من زمن بعيد، قبل أن يجلس بقاعة الانتظار دون أن يتخلى عن جملته التي ظل يكررها وهو يهز رأسه. العديد من المترددين على قسم المستعجلات جربوا في البداية طرق الشعوذة في رحلة البحث عن علاج لأقاربهم، وهي الرحلة التي استنزفت جزءا كبيرا من مالهم نتيجة الوصفات المكلفة التي يطلبها بعض من يدعون قدرتهم على إشفاء المصابين، مثل حالة سيدة قابلناها بالقرب من قسم المستعجلات رفقة ابنها الذي غادر مقاعد الدراسة بعد أن أصيب بمرض نفسي. تحكي هذه السيدة عن ظروف إصابة ابنها بخلل نفسي، وهي تغالب دموعها وتقول: «لقد كان ابني علي تلميذا متفوقا، لكن أصدقاء السوء جعلوه يدمن على المخدرات، قبل أن تسوء حالته النفسية ويحاول الانتحار، الشيء الذي خلق صدمة لأفراد العائلة، فابني تحول من شاب يحب الحياة إلى إنسان آخر، في البداية كنت اشك أن لحالته علاقة بتعرضه لسحر أو عمل من أعمال الشعوذة، مما جعلني أتردد على العديد من الفقهاء دون فائدة، لكني اقتنعت في الأخير بضرورة عرضه على طبيب نفسي، حيث اكتشفت أمر تعاطيه للمخدرات، والآن الحمد لله حالته بدأت تتحسن». الأمراض النفسية ضريبة العصر الإحصائيات الرسمية تفيد بأن نسبة الأمراض النفسية آخذة في الانتشار، وهو أمر يرجعه الدكتور عموري إلى الضغوطات التي يفرضها إيقاع الحياة السريع، والذي يجعل الإنسان في حالة قلق وتوتر دائم، قبل أن يضيف: «التوتر هو أكبر محفز على ظهور الأمراض النفسية». بالموازاة مع الانتشار الكبير للأمراض النفسية، فإن قطاع الصحة العقلية والنفسية بالمغرب لم يعرف تطورا كبيرا من ناحية الإمكانيات سواء المادية أوالبشرية، بشكل يتيح الاستجابة للطلب المتزايد على خدماته. الدكتور عموري سيقضي يومه في غرفة ضيقة مساحتها لا تتجاوز المترين ونصف، بها مكتب خشبي وكرسيان، حيث يستقبل المرضى في جلسات التشخيص، ورغم ظروف العمل المنعدمة فإنه يصر على الاحتفاظ بابتسامته وهو يستقبل المرضى. يقول أحد الممرضين: «ليست لدينا وسائل للسيطرة على المرضى، كثيرا ما نستعين بقطع القماش من أجل تقييد المصابين بالهياج». قبل أن يسرد واقعة تكشف مدى الخصاص الذي يعاني منه القطاع. المستشفى استقبل، في وقت سابق، مهاجرا سريا مغربيا بعد أن قامت السلطات الهولندية بترحيله، بالنظر إلى خطورته التي زادت من حدتها طبيعة مرضه النفسي. حيث انتقل طاقم طبي إلى المطار، وبعد نزوله- يقول الممرض- وجدنا بان لديه وسائل خاصة عبارة عن سلاسل تمكن من شل حركة المرضى الهائجين، وبعد أن وصل المريض إلى المستشفى طلبنا الاحتفاظ بالسلاسل لعدم توفرنا على شيء يمكننا من السيطرة على المريض، لكن بعد أيام طالبت السلطات الهولندية عن طريق سفارتها بالأصفاد باعتبارهما عهدة رسمية، وسلمونا بدلها هبة عبارة عن عدد محدود من الأصفاد البلاستيكية. الطاقم الطبي العامل بقسم المستعجلات يقول إن الوزارة لا تبدي اهتماما بدعم قطاع الصحة النفسية والعقلية بالتجهيزات الكافية، والعمل على تغطية النقص في العنصر البشري، رغم الحديث عن مشروع لإنشاء بناية جديدة للمستعجلات.