على امتداد شهر رمضان الأبرك، تفتح «المساء» أدبيات مؤسسات دور الرعاية الاجتماعية التي كانت تعرف ب«الخيريات»، بكل ما في هذه التسمية من حمولات قدحية، في محاولة للكشف عن الجانب المشرق لهذه المرافق، وتتبع الممرات الوعرة التي سلكها «وليدات الخيرية» في مسيرة الألف ميل، قبل أن ينتفضوا ضد الفقر والحاجة ويحجزوا لأنفسهم موقعا يمنحهم مكانة اعتبارية داخل المجتمع. استهل أحمد أمشكح أول موسم دراسي في حياته بنكبة عائلية، بعد أن مات والده في سنة 1967 إثر نوبة مرضية لم تمهله طويلا. كان الفقيد مجرد عون في مستشفى العياشي للأمراض الصدرية بضواحي أزمور، لكن والدته قررت أن تضع أبناءها في منأى عن النكبة، وناضلت، رغم ضيق ذات اليد، من أجل تأمين مسار دراسي لهم. كانت دار الطالب بأزمور هي الملاذ الذي سيضع الطفل أحمد بعيدا عن هواجس القلق، ويمكنه بالتالي من متابعة مشواره الدراسي في معزل عن غيمة الخصاص الجاثم على أسرة فقدت معيلها الوحيد. من حسن حظ الطفل «الشقي» أن أبواب المؤسسة الخيرية قد فتحت في وجهه وتمكن من العثور على سرير يمنح الأم جرعة اطمئنان على مستقبل ابنها، ومن محاسن الصدف أن يلاقي الولد في أول عهده بالمؤسسة مربيا يسمى محمد بنعيسى، الملقب بالبيضاوي، وكان مدرسا بقطاع التعليم ومديرا لدار الطالب، والذي سهل عملية الاندماج مع المحيط الجديد. اندمج أحمد سريعا في الوسط الجديد، وتفرغت الأم لبقية أشقائه. وعلى الرغم من حداثة عهده بالمؤسسة فإنه كان من بين العناصر المؤثرة داخل هذا المرفق، حيث كان يستمتع بلعبة القط والفأر مع المدير. «كان اختلافنا مع الإدارة يتمحور حول موعد إغلاق أبواب المؤسسة الخيرية بعد العودة من المدرسة، فالإدارة لا تمنحنا إلا 20 دقيقة للعودة، لهذا غالبا ما كنا نجد أنفسنا مطالبين بالركض نحو دار الطالب خوفا من إغلاق الأبواب في وجوهنا، وبالتالي المبيت خارج أسوار المؤسسة، لذا كان من الطبيعى أن نبحث عن حل لهذا الحصار، فحفرنا في السور حفرا تمكننا ونحن في سن صغيرة من تحويل الجدار العازل إلى سلم إسمنتي، إلا أن المدير فطن إلى الأمر وغالبا ما كان يكمن لنا تحت السور وما إن نقفز حتى نجده أمامنا فيقبض علينا ويسوقنا إلى مكتبه لننال على يديه حصة من الضرب المبرح». شرب الفتى الأسمر من كأس الشقاوة، وأصبح يشكل رغم صغر سنه جبهة للمعارضة، معارضة مدير جيء به ليضبط الوضع العام داخل المؤسسة، ويختزل اختصاصات الطاقم التربوي والإداري، يذكر أحمد معاركه الصغيرة والكبيرة مع هذا المدير بأدق تفاصيلها وكأنه خارج للتو من هذا المرفق الاجتماعي. «جاء مدير من مدرسة هرمومو، وكان من المشاركين في انقلاب الصخيرات، لأن التعاون الوطني قرر توظيف مجموعة كبيرة من الجنود الذين ثبتت براءتهم، لكن الرجل كان متشبعا بالأفكار العسكرية فقرر تسيير المؤسسة وفق ضوابط عسكرية، انتفضنا ضد تحويل دار الطالب من مؤسسة تربوية اجتماعية إلى ثكنة، فعشنا معه معارك لا تحصى. وأذكر أنه كان يمارس سلطاته في كل شيء حتى وهو يلعب معنا مباريات في كرة السلة بملعب الخيرية، إذ نادرا ما كان يمتثل لقرارات الحكم، وحين كنا نحتج كان يمسك بالكرة ويأمرنا بمغادرة الملعب ويصدر أمرا بتوقيف المباراة. ومن شدة الغضب الذي ينتابني ساعتها كنت أحتج على مصادرة حقنا في اللعب. ومرة التجأت إلى التقاط الحجارة وبدأت في تسديدها نحو المدير لأنه، بالنسبة إلي، كان يريد أن يلعب الكرة بقانونه الخاص». كانت هذه الواقعة بمثابة الشرارة الأولى لخلاف «أزلي» بين أحمد المتحرر والمدير الصارم، وهو ما حوله إلى عنصر غير مرغوب فيه، لكن نتائجه الدراسية وتوسلات الأم كانت تشفع له وتمدد مقامه في الدار، قبل أن يفتح جبهة أخرى مع مربٍ جديد حاول منذ التحاقه بالمؤسسة تنفيذ الاستراتيجية العسكرية للمدير.. «دخلت في عراك مع المربي الجديد، فقررت مغادرة المؤسسة والعودة إلى البيت وأنا في سن المراهقة، وأكملت مشواري الدراسي من خارج أسوار دار الطالب. ومن المفارقات الغريبة أنني لم أغادر المؤسسة من البوابة، بل من السور الذي كنا نقفز فوقه عند ولوج المؤسسة متأخرين». لم تضع معركة أمشكح مع الإدارة العسكرية أوزارها، وحرص على استكمال المعارك، بل إن أولى كتابته حين أصبح مراسلا لجريدة «الاتحاد الاشتراكي» بأزمور ظلت ترصد نبض المؤسسة الخيرية، ووصل النزاع إلى القضاء. «الامتياز الذي كنا نحظى به، مقارنة ببقية التلاميذ، هو نظام المراجعة الإلزامية، ووجود تلاميذ في مستويات أكبر يساعدوننا على حل مجموعة من التمارين، فضلا عن وجود فضاء للقراءة واللعب داخل المرفق، وهو ما دفع العديد من النزلاء إلى اختيار سلك التربية والتعليم، فيما اختار آخرون مهنا أخرى. وكان للرياضة في هذه الدار أبطالها، خصوصا في كرتي السلة واليد. أذكر منهم الجيلالي بوردو، اللاعب الدولي السابق في منتخب كرة اليد». مارس أحمد كل الرياضات وبرع فيها، بل إنه استطاع أن ينخرط رسميا في فرق لألعاب مختلفة ككرة القدم رفقة اتحاد أزمور، والكرة الطائرة التي لعبها رفقة فريق «جمعية المغرب الجديد بأزمور» في أواسط السبعينيات، وكانت أول وآخر تجربة لهذه الرياضة في المدينة. ومارس كرة اليد مع فريق شرف أزمور، ثم كرة السلة مع الدفاع الحسني الجديدي، بعد أن ظهرت مواهبه في البطولة الوطنية لألعاب المؤسسات الاجتماعية التي يشرف على تنظيمها قطاع التعاون الوطني. لم يخرج أحمد عن مسار رفاقه، واختار مهنة التدريس، بعد كلية الآداب والعلوم الإنسانية لعين الشق التي التحق بها في أول موسم فتحت فيه أبوابها، وبعد أن نجح تلقائيا في اختبار بالانتقاء وتابع تكوينه في المركز التربوي الجهوي بالجديدة. بالموازاة مع ذلك، ظل حريصا على خوض الحروب من الواجهة السياسية سواء ككاتب لأول فرع ل«الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية» بأزمور، أو كصحافي بجريدة «الاتحاد الاشتراكي» منذ سنة 1986، وأسبوعية «النشرة» التي كانت تصدرها الشبيبة الاتحادية منذ تأسيسها إلى أن توقفت عن الصدور، و«الصحيفة» ثم «الأيام». ومن المعارك التي لا تزال تحكيها ذاكرة أزمور تلك التي أطلقها في مواجهة الراحل عبد اللطيف السملالي، وزير الشبيبة والرياضة الأسبق والذي كان نائبا برلمانيا عن المدينة باسم «الاتحاد الدستوري»، وهي المعركة التي وصلت تداعياتها أيضا إلى القضاء بسبب بعض المقالات الصحافية. أما أكبر معركة فهي تلك التي أطلقها من داخل إحدى دورات المجلس البلدي في 1995 ضد وزير الداخلية الراحل إدريس البصري، وهو في أوج قوته، حينما قدم أمشكح، باعتباره نائبا للرئيس، تقريرا عن النقل الحضري «الأوطوبيس» الذي كان المجلس البلدي متحمسا له، وكان لسلطة الداخلية رأي مخالف. ليخلص إلى ضرورة مقاضاة إدريس البصري أمام المحاكم الإدارية بتهمة الشطط في استعمال السلطة. ويحكي أحمد كيف دب صمت رهيب داخل القاعة حينما تحدث عن محاكمة البصري، التي لم يصادق المجلس على المضي فيها. لكن الرسالة وصلت، حيث حملت مراسلة سلطة الوصاية بعد أقل من أسبوع خبر الموافقة على ربط مدينة أزمور بالجديدة عن طريق «الأوطوبيس»، الذي اعتبر وقتها إنجازا كبيرا. غير أن تهديدات البصري وصلت أمشكح عن طريق ممثلي السلطة المحلية والإقليمية، «خصوصا وأنني، يحكي أحمد، كنت قد نشرت على الصفحة الأخيرة من جريدة «الاتحاد الاشتراكي» رأيا عن البصري بعنوان «وزارة للدولة في الداخلية والإعلام والكولف» حينما أصبح الوزير رئيسا لجامعة الكولف». غير أن أقوى ما يتذكره أمشكح من معارك سياسية بمدينته الصغيرة هو تلك المعركة التي فتحها في وجه رفاقه في الحزب حينما نشر على صفحات أسبوعية النشرة شهادته عن العمل الجماعي والتي خلص فيها إلى محاولة الجواب عن الدور الذي يقوم به المستشار الجماعي. وانتهى إلى أنه «مجرد قطعة ديكور لديمقراطية الواجهة. إنه يوقع شواهد الازدياد والوفاة. ويبحث عن حلول ترقيعية لمجاري الوادي الحار المختنقة دوما.. ويختلس بعض المال العام تحسبا لعوادي الزمن». نشرت الشهادة وعقد الإخوة أكثر من اجتماع هددوا فيه بطرد أمشكح من بيت الحزب لأنه كشف المستور. ومن يومها، قرر تطليق العمل الجماعي والارتماء في حضن صاحبة الجلالة.