«تريدون أن تعرفوا الفرق بينكم وبين الغربيين؟ هم يعيشون الحياة ويزورون المتاحف، وأنتم تعيشون في المتاحف وتزورون الحياة!» ج. لولاش من هنا مرّ رفاعة الطهطاوي بجلبابه الأزهري ودهشته الخلاقة. وأحمد فارس الشدياق الذي لم تسعه الأرض عندما وطئت قدماه باريس لأول مرة في القرن التاسع عشر، فصاح مهللا: هذه جنة في الأرض أم باريس ... ملائكة سكانها أم فرنسيس وعندما تبدّدت دهشة الاكتشاف وكشّرت المدينة عن أنيابها، شتمها بنفس الأبيات كما يفعل أي شاعر عربي محتال: هذه عبقر في الأرض أم باريس ... شياطين سكانها أم فرنسيس... هنا كان يتجول طه حسين واضعا كفّه في كف سوزان في بدايات القرن العشرين. يفتش عن حفنة ضوء يقذفها في ليل الشرق النائم. ومن هنا أيضا مر توفيق الحكيم ويحيى حقي وسهيل إدريس... والآخرون والآخرون. كلّهم تركوا خطواتهم في الحي اللاتيني ومضوا. كلّهم وقفوا ذات يوم في ساحة سان ميشال، حيث يرتّب العشاق من جميع الأعمار مواعيدهم. تراهم في كل وقت مشتتين يلتفتون في جميع الاتجاهات وينتظرون. يحدّقون في ساعاتهم أو يضعون هواتفهم فوق آذانهم كي يعرفوا أسباب تأخر أشخاص لا نعرفهم. هناك تلمح كيف تولد ابتسامة على محيّا مراهقة رأت صديقها قادما في وقت الموعد تماما. وترى الغضب يتسلّل رشيقا إلى وجه رجل أخلفت صديقته الموعد، للمرّة الثالثة. وترى الانكسار والتفاؤل والحيرة والترقب والملل والخذلان والحزن والفرح... وترى المدمنين يعبّون خمورا رديئة من قناني حقيرة ويصرخون عاليا ويشتمون العالم. رتّبت عشرات المواعيد هناك. والتقيت كثيرا من الأصدقاء القادمين من المغرب. هناك رأيت مناضلين مغاربة يضحكون كمراهقين، ويلتقطون صورا مع صديقاتهم، دون كوفية ولا شارات نصر... كلما شعرت بأنني بعيد ومخذول لا بد أن تقودني خطواتي إلى سان ميشال. الوقت متأخّر ومطر خفيف. أناس قليلون يعبرون. المحلاّت مغلقة. أحدّق في التنّينين اللذين يقذفان الماء بلا توقّف، وألاحق العصافير التي تخرج من قيتار عازف كردي يتكئ على حائط مكتبة جيبير جون. النغمات المتصاعدة من قيتاره حزينة جدّا. تقطّع القلب إلى قطع صغيرة وتحرّك في العيون مياها راكدة. لا شك أنّه يحمل في ضلوعه حكايات حزينة. يغنّي للمتعبين والتائهين والمنفيين والغرباء. يغني للمشرّدين. لأنه كرديّ مشرّد بلا مستقبل وبلا بلاد. جلسته الهادئة ومظهره الأنيق يمنحانك طمأنينة غريبة. كأنك تعرفه. كأنّ بينكما أسرارا لا يعرفها أحد. بنظاراته العريضة وبذلته السوداء يبدو مثل طبيب محترم غادر للتوّ عيادته. طبيب المشرّدين في ليل سان ميشال، لا يخلف موعده أبدا مع صمت المكان. في نفس الزاوية يتكئ كل مساء على حائط المكتبة. يضع أمامه الحقيبة الكبيرة حيث يحفظ قيتاره. يجلس على كرسي صغير ويحوّل الحيّ إلى سامفونية مؤلمة. خدّرتني نغماته. لا أعرف متى ذهبت، كيف ركبت المترو رقم 6، ولم وجدت نفسي أنزل في محطة طروكاديرو... كأنني في سرنمة. مشيت بتثاقل في السرداب الطويل. صعدت الأدراج ببطء كما لو كنت صنما يمشي. الشارع فارغ ونغمات الكردي ترتّب خطواتي. مررت بمحاذاة مسرح لاكولين. بدت لي ساحة طروكاديرو ورأيت برج إيفل واقفا في المكان الذي تركته فيه آخر مرة، يحدّق في الزوار باستخفاف. شان دومارس يمتد بلا نهاية على مرمى البصر. منذ مدة لم أزر هذا الحي الراقي. نغمات الكردي بعيدة ومؤلمة وأضواء الشانزيليزي تغسل الفضاء. أغمضت عيني وحاولت أن أتذكر أول مرة وطئت رجلاي عاصمة النور. استرجعت الألوان والصور والأصوات التي كنت أراها وأسمعها في ذلك الأحد البعيد. زارتني الدهشة التي سكنتني عندما التقيت، أول مرة، بالأشجار والمطر والبنايات والطرقات المبللة ووجوه العابرين الباردة. دهشة الاكتشاف تمضي بسرعة البرق. بمجرد ما تتبدد، تنتهي السياحة وتبدأ الحياة. تنتهي الألوان وتبدأ العتمة. تصير البنايات مجرّد أحجار متراصة، عالية وصامتة. والأشجار نباتات بأوراق صفراء و خضراء و بلا لون. والشمس قرص باهت لا يظهر إلا نادرا. يكمل الحلم وتبدأ الحقيقة. ينتهي برج إيفل وتبدأ سان دوني. يبدأ كنس محطات القطار. البحث عن أوراق الإقامة. نظرات العجائز العنصرية. النوم في لاغار دوليون. مراقبو التذاكر. البوليس الذي يفتشك لمجرد أنّ ملامحك متعبة وملابسك وسخة، ولأنك أجنبي... حين تتبدّد الدهشة، تكشّر باريس عن قسوتها. تنتهي الجنة وتبدأ عبقر. تختفي الملائكة ويظهر الشياطين. الآن فقط أفهم لماذا غيّر فارس الشدياق أبيات قصيدته على ذلك النحو المضحك. أفهمه جيدا تحت هذا المطر الذي يبلّلني بلا رحمة على إيقاع قيثارة مؤلمة.