هل يمكنُ أن تكون للأدب ورشة مثلما هو موجود بالنسبة إلى النجارة أو الحدادة أو الميكانيكا؟ هل يمكن للخيال والمهارة الأدبيين أن يتحوّلا إلى قائمة مبادئ تُلقن في ورشات الكتابة لتصنيع الشعراء والروائيين وكتاب المسرح والقصة القصيرة؟ هل يمكن لكائنات الأدب ومجازاته السحرية الخارقة أن تتحول إلى موضوع تمرين، يخلُص له الناشِِئ بنوعٍ من المثابرة والتفاني، قبل أن تُدركَه حرفة الأدب وتُسعفه بمخلوقاته ومجازاته الشعرية والروائية الخاصة، التي تجعله يدخل المعترك بتوقيعه الأدبي المميز؟ إنها أسئلة، متناسلة من أخرى، تجوسُ معرفة خصوصية منطق الأدب، من زاوية محفل الكاتِب المُنتِج. وإذا كانت الثقافات القديمة، العربية وغيرها، تربِط فعل التأليف بمنطقة سِحرية غامضة يتحكم فيها الجن والآلهة، فإن زمن الحداثة أنزل فعل التأليف هذا من عليائه الميتافيزيقية، ليربطه بنسيج أرضي لامس عتبته التعيينية الأولى بظهور المدن، بمؤسساتها وتشريعاتها ونظم العيش فيها، التي انفتحت، بالتأكيد، على إغواءات اللذة والمتعة، بطرق جد مبتكرة. والواقع أن هذا الانتقال، من السماء إلى الأرض، في تمثل فعل الكتابة، لم يكن باتا تماما. بل إن المدينة اليونانية القديمة مثلا، ظلت سماؤها حبلى بالآلهة التي تُسعف خيال الشعراء بمخلوقات الفن. المدينة العربية القديمة بدورها، لم ينقطع تماما الوافدون على أرضها من مجازات وادي عبقر. إلا أن الشعراء، وهم سادة الكلام الأوائل، أصبحوا، مع ذلك، يتمتعون أكثر، داخل أسوار المدن، بخبرة فنية وثقافية تُعبدُ لهم طريق الأدب، دون أن تُؤمن لهم طُرق الوصول إلى كنوزه المخبوءة. أصبحَ الشعراء يقطعون مسارا تعلُّميا، في صُحبة شعراء آخرين، لا يسمحون لهم بإنشاء الكلام، إلا بعد شحذ القريحة والثقافة باختبارات معقدة من الحفظ والنسيان، التي تتيح لدمائهم، في النهاية، أن تمتزج بدماء شعرائهم الأسلاف. ومن هذا الامتزاج، تأخذ الموهبة الشعرية طريقَها نحو فحولية افتضاض أبكار المعاني، مع مراعاة أوقات النظم، وأحوال النفس، التي يجود فيها الخاطر بما يتنقّل جواهرَ كلامٍ على كل الألسنة. ما تركَتْه لنا مُدُنُنا القديمة زدنا عليه. حطَّمنا الآلهة وطمرنا وادي عبقر بتراب النسيان، وأعلينا من شأن ميتافيزيقا أخرى، هي ما أصبحنا نصطلح عليه بورشات الكتابة، في مختلف الأجناس الأدبية. أصبح الأمر شبيها بما يحدث في علوم الحياة: لم نعد نلجأ إلى تعزيم السحرة لأجل حدوث الحمل، بل نُعوِّل على عمليات بيولوجية كميائية معقدة، تزرع الحياة، في الضروع والأرحام الجافة. الأدب كذلك، توزّعَ عند بعض المُنتجين المتحمسين إلى قائمة تقنيات ومهارات، تحتاج إلى استيعاب ومران، بإمكانهما أن يَخلقا معجزات أدبية، إذا ظفرا عند الكاتب الناشئ بالمثابرة والعزيمة الضروريين. نسلُ الأدب مرهون، عند أصحاب هذه النظرية، بعمليات التخصيب الاصطناعي التي تحدث في ورشات الكتابة. ومن المؤكد أنها ورشات، انتقلت إلى أدبنا العربي من تقاليد الآداب الغربية الحديثة، التي تحتاج صناعة الكتاب فيها إلى أقلام جديدة تغذي دورات المطابع. وهي، في كل الأحوال، ورشات حيوية تؤكد أهمية الجهد في الإبداع، وهو الجانب البشري فيه، لكنها لا تضمنُ أبدا عملية اختراق تلك الحجب الدقيقة في السر الإنساني، التي هي نتيجة ذات ملتبسة الهيئة، تقيم في مكان يستعصي على التحديدات المُختبرية العقلانية. إنها منطقة الغموض الصعبة، التي لا تخترقها إلا ذوات استثنائية مُهيأة بقوة لذلك، بعد أن تكون قد تمرَّست بالقراءة والكتابة طويلا. ربما لسنا الآن بحاجة إلى تصور ينسب التفوق الأدبي إلى الآلهة أو الشياطين، لكننا بالتأكيد لا نستطيع أن نضع مصير الفن بين أيدي مُعلِّمي الورشات والأندية. هناك شيء سري في الأمر، سيبقى قائما، لعله هو الذي يضمن فعل تجديد الأدب وصيانة سره العظيم، خارج منطق ما تطلبه سوق الأدب، في كل زمن وحين.