أمين صالح، روائي وقاص ومترجم وكاتب سيناريو وناقد سينمائي بحريني، يجد كل الوقت والمتعة للغرف من يم الإبداع دونما كلل ولا ملل، كتب أول فيلم بحريني بعنوان “الحاجز” ، كما ترجم كتاب “السينما التدميرية” و”حوار مع فليني” وألف “الملاذ” ورواية “رهائن الغيب”، وشارك الشاعر قاسم حداد في كتابة نص مفتوح أسمياه “الجواشن". "" في هذا الحوار نستكشف بعضا من هذه العوالم الإبداعية في سماء أمين صالح..لنتابع: إن شئنا الحديث عن التصانيف المتعارف عليها، فأنت ما شاء الله تكتب القصة القصيرة وتكتب الرواية (رهائن الغيب نموذجا) وتكتب السيناريو وتهتم بالسينما، وتقوم بالترجمة (مثلا ترجمت النحت في الزمن للمؤلف: أندريه تاركوفسكي) ..فكيف يمكنك التوفيق عمليا بين كل هذه "الأعباء" الإبداعية؟ * في كل ما ذكرت، أنا كاتب فحسب، ولا أمارس أنشطة أخرى: كالموسيقى أو الرسم أو التمثيل أو ما شابه، الأمر الذي قد يفضي إلى التشتت والارتباك، وربما، في هذه الحالة، يحتاج المرء إلى تنظيم آليات معينة في الإنتاج من خلالها يوفّق عملياً بين مختلف المهمات. إن القصة والرواية والسيناريو والترجمة هي ليست "أعباء" بل أشكالاً تتصل بالكتابة وحدها، بمعني هي تنويعات على الكتابة. الانتقال بينها، بالنسبة لي على الأقل، لا تشكّل معضلة أو صعوبة.. فعبر سنوات من التجربة والخبرة صرت قادرا على التنقل بيسر ورشاقة دون أن أشعر بالارتباك، ودون حاجة إلى بذل جهود خارقة في التكيف مع الأشكال الأخرى. كل ما أحتاجه هو التركيز، وصقل الأدوات الكتابية، واستخدام العناصر من لغة ومخيلة ورؤى وغيرها على نحو جيد ولائق. من جهة أخرى، أنا لا أمارس هذه الأنماط من الكتابة في وقت واحد، وعلى نحو متزامن، بل أخصص وقتاً وجهداً لكل فعل بحيث يكون هناك تركيز على نوع معيّن ينال، عادةً، كل الاهتمام والعناية. ما الذي برأيك يجمع كتابة رواية واجتراح قصة وتأليف سيناريو فيلم أو مسلسل تلفزيوني وترجمة كتاب..هل هناك خيط رفيع يجمع بين هذه المجالات؟ ربما هي الرغبة في ارتياد فضاءات توفرها، أو تقترحها، الكتابة بشتى أنواعها، واللغة بمختلف مجالاتها وتجلياتها (اللفظية والبصرية).. وربما هي النوافذ الكثيرة، التي لا تحصى، والمفتوحة على عوالم غنية، مدهشة، لا يمكن اكتشافها وارتياد مجاهلها إلا بالخروج عبر تلك النوافذ والسفر إلى تلك العوالم.. ربما هو الخوف من الرتابة والتكرار.. والموت، بمعناه المجازي. والذي ينشأ من الثبات عند موضع معين، أو مجال معيّن، قد يضيق شيئاً فشيئاً حتى يسد المنافذ ولا تبقى أمامك غير نافذة واحدة يفترسها الضجر على مهل.. ربما لأن لكل وسط من هذه الأوساط سحره الخاص وجاذبيته المغوية..و ربما لأن هناك أسباباً أخرى أجهلها تدفع بالمرء لأن يخوض هذه المجالات بحريّة بحّار يذهب إلى الأفق وهو يعلم بأنه سوف لن يقدر أبداً على الإمساك بهذا الأفق المراوغ. النص الإبداعي "الجواشن" اعتبره الكثيرون مغايرا للمعتاد، فقد اشترك معك في ديباجته "قاسم حداد"، وأنت قاص (إن أرضينا التصنيف التقليدي) وهو "شاعر"، فكيف التقيتما في "الجواشن"؟ وكيف استطعتما تجاوز "شرط النوع الأدبي "؟ سئلت أكثر من مرّة عن تجربتي في كتابة "الجواشن" مع الصديق الشاعر قاسم حداد.. في موقع ما، قلت:"إنها إحدى التبلورات التي تشكّل سياقاً منسجماً مع طموحي التعبيري الذي يذهب إلى مغامرة الكتابة، ولأن تجربتنا ترافقت عبر الزمن والمسافة الفنية والرؤية المتقاربة، فقد تحولت إلى كتابة نص مشترك مشحون بالمتعة والمكتشفات الخاصة". وفي موقع آخر قلت: "النص ثمرة رفقة أدبية طويلة، وصداقة حميمة، ورؤى مشتركة فنيا وفكريا. كانت التجربة انحيازاً لرغبة الاكتشاف بواسطة كتابة لا تخضع لأية سلطة". وفي موقع آخر قلت: "كان مهماً بالنسبة لكلينا أن يُقرأ نص الجواشن كما لو أن كاتباَ واحداً قد كتبه. بمعنى أن يأتي القارئ تاركاً خلفه أي إدراك مسبق لخاصية الكتابة عند كل واحد منا، كي لا يشغل نفسه بأمور هامشية لا تتصل بالنص ككيان قائم بذاته.. مثل عقد مقارنة بين الأسلوبين، أو البحث اللا مجدي عن حضور كاتب هنا و آخر هناك. لذلك كان التجانس ضرورياً وشرطاً أوّلياً لكتابة عمل مشترك." مع قاسم أتقاسم الرغيف والهواء والحلم، فليس غريبا إذن أن أتقاسم معه كتابة نص أو بيان أدبي. بيننا لغة مشتركة، رؤية مشتركة، وحياة مشتركة. "الجواشن"، بالنسبة لي ولقاسم، كانت تجربة استثنائية في مسارنا الأدبي. وبعيدا عن التفاصيل التي قد لا تثير اهتمام القارئ، يمكن الإشارة إلى أننا مع الجواشن شعرنا، ربما على نحو أكثر كثافة وعمقا، بضرورة القيام بمغامرة فنية لا تعرف إلى أين تأخذك أو تقودك، تماما مثل الحالم الذي يعهد بكيانه إلى الحلم، فتمضى مستسلما إلى حيث تأخذك اللغة والمخيلة والذاكرة.. أو مثل المسافر الذي يبيح ذاته لمصادفات ومجازفات السفر. كنا أيضا، مع الجواشن، نختبر لذة الحرية.. حرية أن تلهو بالزمن، بالأمكنة، بالسرد، باللغة، بالمعنى، بالقارئ.. ليس اللهو الصبياني، الفوضوي، العابث، بل هو اللهو بصلصال العناصر من أجل أن تخلق شيئا لا تعرف شكله وملامحه إلا بعد اكتماله. كتب الناقد والصحفي حسام أبو أصبع في مقالة له يقول إنه ليس مقتنعا على الإطلاق أن "يبدد كاتب بحجم أمين صالح وقته في كتابة مسلسلات تلفزيونية تستنزف من أعصابه ومن ضوء عينيه الكثير والكثير.. "، هل كتابة المسلسلات تبديد للجهد والعمر وتضييع للطاقة الإبداعية في حالتك إلى هذا الحد؟ عندما بدأت كتابة الدراما التلفزيونية خشيت كثيرا أن يؤثر هذا، على نحو سلبي، في كتابتي للنص الأدبي لغةً وأسلوبا، نظرا للاختلاف والتباين بين النوعين واحتمال أن تقع لغتي الأدبية في نطاق المباشرية والتقريرية والإسهاب التي قد تقتضيها أحيانا كتابة الحوار الدرامي. غير أني اكتشفت بأن ممارستي للكتابة السينمائية والتلفزيونية والمسرحية والترجمة، كلها تساهم في تعميق تجربتي الثقافية وتوسيع مجال الرؤية، دون أن تؤثر سلبا على اللغة والأسلوب. لقد وجدت أن بالإمكان التنقل بين الأشكال والأنواع بيسر وسلاسة دون أن تصادف أي تعقيد أو تشوش أو هيمنة لنوع على آخر. لقد كنت أمارس كتابة الدراما على نحو متواز مع النصوص الأدبية دون أن أشعر بهيمنة أحدهما على الآخر. إن كتابة الدراما هي امتداد طبيعي لعشقي للسينما منذ الطفولة. وقد ساعدتني الممارسة الأدبية في كتابة النصوص الدرامية، خصوصا في الحوار. كنت أدرك مبكراً الاختلافات الجوهرية بين الوسطين: الأدب والدراما.. لذلك لم أتجه إلى الدراما بوصفي أديباً بل بوصفي كاتباً للسيناريو يعي خاصيات هذا المجال ولغته المختلفة كلياً. بالتالي كنت أكتب بشروط الدراما وليس الأدب. في السيناريو تقدم رؤيتك وموقفك على نحو مغاير تماماً. في الدراما التلفزيونية، كما في أي شكل فني أو أدبي، تسعى إلى التجديد والمغايرة، تطمح إلى تقديم رؤية عميقة للواقع ومشكلاته وتناقضاته، تحاول أن يكون رسمك للشخصيات والأحداث صادقاً ومقنعاً قدر الإمكان. لكنك في المقابل تدرك أنه ليس عملك وحدك، وأنك عنصر مشارك كبقية العناصر العديدة الأخرى، وأن النتيجة النهائية قد لا تكون مرضية مئة بالمئة. هذه هي طبيعة الفعل الجماعي سواء في المسرح أو السينما أو التلفزيون. هناك أفراد آخرون، لهم سلطة ونفوذ وتأثير، سوف يتدخلون – بالضرورة – في عملك، ولا يمكن تجنب ذلك: للمخرج نظرته أو رؤيته الخاصة، للمنتج معاييره وحساباته، للممثلين وجهات نظر، وللمصور والمونتير وغيرهما وجهة نظر أيضاً. عندئذ تجد عملك وقد تعرّض لتغييرات وتحولات بدرجات أو بأخرى.. ولابد أن تقبل وتسلّم بذلك، فمن حق الآخرين أن يتاح لهم ذلك طالما هم مشاركون في الخلق وليسوا مجرد منفّذين سلبيين.. وكل ما تتمناه هو أن يثروا نصك، يعمّقوا رؤيتك، يبدعوا عملاً جميلا وممتعاً وعميقاً.. لا أن يشوهوا ويخرّبوا عملك نتيجة سوء فهم أو تخلّف فكري وفني. ناقد آخر يرى أن صفة "قاص من البحرين" تلازمك، مضيفا أنه "أصبح من اللازم تصحيح هذا التجنيس، فأمين صالح حُسِب خطأ على القصة، ولم يجد النقد المناسب الذي يعيد موضعة أعماله ضمن أشكال الكتابة المنزاحة عن نمذجات السائد التعبيري"، هل توافقه الرأي؟ وهل فعلا كتاباتك ليست قصة ولا رواية، وإنما انزياحات في الكتابة عن ما درج عليه العالم من تصنيفات أدبية؟ كل كاتب يختبر نوعا من التطور أو التحوّل في تجربته. لقد بدأت كاتبا للقصة التقليدية لكن سرعان ما استفدت من منجزات القصة الحديثة آنذاك، فابتعدت القصة عندي عن الحدود المتعارف عليها أو المسلم بها إلى أفق مفتوح على المغامرة الفنية. لم تعد عناصر القصة التقليدية (من لغة وسرد وحبكة وحوار وشخصيات) تستجيب إلى ما أريد التعبير عنه وإلى رؤيتي الفنية، بل تشكل عوائق أمام كتابة أسعى إلى استشرافها، تتمازج فيها الأنواع وتتلاشى التخوم المصطنعة التي تفصل بين الشعر والنثر – مثلا - ويتخذ فيها السرد بعداً مختلفا، وحيث تتولد جمالية جديدة أو مغايرة. لا أنظر إلى الأنواع الأدبية كتخوم منفصلة ومتباعدة عن بعضها البعض، إنما كأشكال قابلة للتفاعل والتداخل في ما بينها، لتثمر نصوصاً لا تكتسب قيمتها من انضوائها تحت راية مصطلح بل بما تحققه من اختراق إبداعي يتسم بالجدة والعمق. التسميات والمصطلحات هي من وضع أشخاص بشريين – قد يكونون نقادا أو باحثين أو كتّاباً - وهم الذين سنّوا لها القوانين والقواعد والمعايير. لكن هذا لا يعني أن يلتزم بها الجميع، فهي ليست مقدّسة. وهي موضوعة بالدرجة الأولى لتسهيل مهمة النقاد في التصنيف والتحليل والتقييم. بصراحة أستاذ أمين صالح، هل أنت متصالح مع النقد؟ هل تتبرم منه أم أنك لا تجد فيه ضالتك؟.. * لا أميل إلى، بل لا أثق في، النقد الذي يأتي إلى النص، أو أي عمل فني آخر، من خارجه، فارضاً عليه تصوراته ومفاهيمه وقناعاته، محاولا أن يجد في النص ما يتوافق مع أفكاره أو معتقداته أو أيديولوجيته، فإذا لم يجد ما جاء يبحث عنه، سارع إلى إصدار حكم طائش وغير مسؤول بفشل النص أو ضعفه أو عدم جدارته لأن يحتل مكانة هامة ومتميزة. مثل هذا النقد لا يفيد الكاتب ولا القارئ. النقد، كما أفهمه، هو فعل حب. على الناقد، في المقام الأول، أن يحب العمل الذي يتناوله حتى لو اتسم نقده بالقسوة والصرامة، وإلا ما ضرورة أو جدوى تناول عمل أنت لا تحبه أساسا. النقد المرن والمنفتح، والذي يمتلك حساسية جمالية عالية، هو ما نحتاجه. النقد كان مفيدا جدا في إضاءة الكثير من المفاهيم وتعميق الجوانب العديدة في الفعل الإبداعي. لكن النقد الذي كنا نمارسه نحن (حلقة الأصدقاء في بداية السبعينيات) حيث نقرأ لبعضنا وننقد نتاجاتنا ونقيّم تجاربنا بصراحة وحب، ساهم كثيرا في شحذ امكانياتنا وفي تعميق وعينا. النقد، في معظمه، لا يسعى إلى اكتشاف ما هو جديد ومغاير بل يتجه إلى ما هو معروف ومتكرس، نظرا لسهولة تناوله ولتوفر الأدوات النقدية التي تعالج نتاجات هذا الاتجاه (المعروف). أما الجديد فيستدعي بالضرورة أدوات نقدية جديدة ينبغي استنباطها أو اختراعها. في الأخير..هل يمكن أن ننتظر منك "جواشن" أخرى..بعبارة أكثر مباشرة.. ما جديدك القادم؟ صدر لي حديثاً كتاب في السينما بعنوان "الكتابة بالضوء" وهو من منشورات نادي المنطقة الشرقية الأدبي بالدمام. إضافة إلى كتاب أتوقع طباعته قريباً في القاهرة عن السوريالية (وهو ترجمة وإعداد)..