في واحتها الصيفية تعود «المساء» إلى أرشيف الأغنية المغربية لتنبش في ذكرياتها، وتكشف بعضا من المستور في لحظة إنتاج هذه الأغاني، من خلال شهادات شعراء وملحنين ومطربين ومهتمين كانوا شاهدين على مرحلة الولادة، شهادات تحمل لحظات النشوى والإمتاع في الزمن الجميل للأغنية، وأخرى تحرك جراح البعض الذين يصرون على البوح للقارئ رغم جرأة البوح وألمه في بعض الأحيان. عند الحديث عن مؤسسي الأغنية المغربية العصرية، لا يمكن القفز بأي حال من الأحوال على اسم كبير ومميز، هو اسم الراحل محمد التدلاوي فويتح، المزداد بفاس سنة 1929، وبالضبط بدرب المشماشة، حي المخفية المعروف. يقول عنه الفنان والباحث الموسيقي عبد السلام الخلوفي: « سعدت بمجالسة الراحل محمد فويتح في الأربع عشرة سنة الأخيرة من حياته، التي قضى معظمها في مدينتي طنجة. وعلى امتداد هذه السنوات كنت أتأكد يوما عن يوم من صدقية قولته المحببة، التي ينطقها بفرنسيته الساحرة: «عندما يموت شيخ، فإن مكتبة تحترق». كان يحكي لي عن سنوات تمدرسه وتأثره بصوت معلمه الشجي، وعن آلة «الهارمونيكا» التي يخفيها بين دفاتره، ويسعد بتعداد الحرف التي اشتغل فيها لكسب رزقه، فمن مساعد إسكافي إلى مساعد نقاش للأواني إلى مساعد مصلح للراديو. وعند هذا الأخير، اكتسب ربيرطوارا واسعا من الأغاني. ولا يغفل فويتح عن أن يتحدث باعتزاز عن أول كبش أضحية اشتراه لأسرته، من مدخراته المتأتية من أعماله البسيطة، وكيف خصه الأهل باستقبال لاينسى». وعن ظروف إبداع أغنية «آو مالولو»، يقول الخلوفي: «معلوم أن الراحل فويتح انتقل سنة 1949 للعمل في باريس، وبالضبط في مطعم «طمطم» حيث التقى كبار الفنانين العرب، ولما غنى لمحمد عبد الوهاب أحد إبداعاته مبعث السحر، نصحه بتقديم نموذج يستلهم التربة المغربية، فكانت الانعطافة في أعمال فويتح، لكن بعده عن وطنه لم يبعده عن تتبع أخباره، وهكذا لما نفي المرحوم محمد الخامس سنة 1953، وجد نفسه يبدع أغنية «آومالولو»، على شكل حوار بين ملك وشعبه، مجسدا ذلك التلاحم القوي بين الملك والشعب. تقول اللازمة: «آو مالولو تم بكيت أنا» وعند إلحاحي على الراحل فويتح لشرح مغزى «آومالولو»، في أكثر من مناسبة، كان يجيبني بعد ابتسامة ذات مغزى: «آمالولو» كلمة رمز تركت للمتلقي أن يفهمها كما يحب، قد تشير لحدث نفي محمد الخامس، قد تفسر بهيمنة المستعمر، قد تعبر عن معاناة الوطنيين، هي كل هذا وذاك. يقول فويتح في الكوبليه الأول على لسان الراحل محمد الخامس: يالغادي بي سيدي/ يالغادي بي بابا/ يالغادي بي خويا يالغادي ردني لبلادي ما اسخيتي بها / واعييت ما ننادي وفي الكوبليه الثاني، يصور فويتح حالة الحزن التي أصابت الشعب بعد نفي سلطان البلاد، إذ يقول: حطيت الطبيلة سيدي/ حطيت الطبيلة بابا/ حطيت الطبيلة خويا وحطيت الكيسان وجاو لبالي/ الحباب والعشران ويمعن فويتح في الكوبليه الثالث في تصوير هول ما أصاب الشعب من غياب محمد الخامس: بك ما سخينا سيدي/ بك ما اسخينا بابا/ بك ما اسخينا خويا امتى ترجع لينا باش عاد تحلى/ العيشة لينا ويأتي الكوبليه الرابع على لسان الراحل محمد الخامس، مبادلا شعبه حبا بحب: شكون طبيبي سيدي/ شكون طبيبي بابا/ شكون طبيبي خويا غيرك يا حبيبي». يعرف ما بي وشنو فقليبي. ويضيف الباحث الموسيقي عبدالسلام الخلوفي: «الراحل محمد فويتح كان شديد الالتقاط لتحولات القضية الوطنية، وعند عودة محمد الخامس من المنفى استقبله فويتح، بأغنية «ملي مشيتي سيدي» يقول فيها: « ملي مشيتي سيدي والنار شاعلة في قلبي وراك جيتي سيدي وراك طفيتي ناري سيدي محمد يا المير يا بو جلابة حرير». وعن أصدقاء الراحل فويتح، الذين كانوا يزورونه أثناء مقامه في طنجة، يقول الخلوفي: « كان بيته على البحر بشاطئ مربيل يستقبل خليطا من الفنانين والأدباء ورجال الأعمال أصدقاء الراحل، وكان الأمر بالنسبة لي أشبه بكلية أستكمل فيها تكويني يوميا، أذكر من بينهم: عازف الكمان الراحل أحمد الشجعي والمطرب محمد المزكلدي وعبد الهادي بلخياط وعبد الوهاب الدكالي وحمادي التونسي والممثل الراحل حسن الصقلي، وأعضاء جوق إذاعة فاس الجهوية والكاتبان الراحلان كمال الزبدي ومصطفى القصري والدكتور بلعوشي طبيب القلب المعروف والمحامي مولاي أحمد الطاهري والراحل جاك برديغو وسيرج برديغو رئيس الطائفة اليهودية بالمغرب. ومع مسيو جاك وقعت لفويتح إحدى الطرائف التي تستحق أن تروى، وكان يرتبط معه بصداقة متينة تعود إلى أيام الإقامة في فرنسا، وكان مسيو جاك قد تلكأ في زيارة فويتح وبعث له سلامه مع أحد الأصدقاء طالبا منه أن يأتيه إلى البيضاء، فكان جواب فويتح: «سير قوليه عمر الخابية ما كتسخر على الغراف» ولما بلغت الرسالة مسيو جاك، سافر توا إلى فاس، وحين طرق الباب، وأجاب فويتح: شكون؟ أجاب مسيو جاك: أنا الغراف، فتعانقا وضحكا طويلا». ومما يتأسف له عبد السلام الخلوفي أن الراحل لم يعش ليشهد صدور قانون الفنان، والبطاقة المهنية، إذ كان فويتح طيلة رحلة مرضه يستنكف عن تعبئة ورقة التغطية الصحية، حتى لا يرى الطبيب ولا الصيدلي صفته الوظيفية، كعون عمومي ولم يكن ضد هذه الفئة، ولكن كان يريد أن تسمى الأشياء بمسمياتها: الموظف موظف والعون عون والفنان فنان. توفي فويتح في 18 شتنبر 1996 بمدينة طنجة، و ألقى الباحث المهدي المنجرة كلمة تأبينية دعا فيها إلى الاهتمام بالفنانين قبل وفاتهم أو مالو لو تم بكيت أنا يالغادي بيا سيدي يالغادي بيا بابا يالغادي بيا خويا يالغادي ردني لبلادي ما سخيتش بيها وعييت ما نادي <<< حطيت الطبيلة سيدي حطيت الطبيلة بابا حطيت الطبيلة خويا حطيت الطبيلة وحطيت الكيسان وجاو لبالي لحباب والعشران <<< بك ما سخينا سيدي بك ما سخينا بابا بك ما سخينا خويا بك ما سخينا وترجع لينا باش عاد تحلى العيشة