تحول مؤتمر حركة «فتح» العام، الذي بدأ أعماله الثلاثاء المنصرم في مدينة بيت لحم في الضفة الغربيةالمحتلة، إلى مظاهرة تأييد للرئيس الفلسطيني محمود عباس والنهج السياسي الذي يمثله. فقد غابت عن المؤتمر قيادات تاريخية للحركة، سواء بسبب المرض أو الرغبة في التنصل مما يمكن أن يتمخض عنه من قرارات قد تشكل، في رأيهم، خروجاً عن ثوابت الحركة وانحرافاً عن أهدافها. الرئيس عباس تحدث في المؤتمر لأكثر من ساعتين ونصف الساعة، حيث استعرض في كلمته هذه تاريخ الحركة منذ انطلاقتها قبل حوالي خمسين عاماً، ولكنه لم يكشف الكثير عن المرحلة الأهم وهي التي تتعلق بالمفاوضات التي أجراها لمدة عام ونصف العام مع حكومة إيهود أولمرت الإسرائيلية السابقة، وكان أكثر شراسة في نقده لحركة المقاومة الإسلامية «حماس» من إسرائيل العدو المحتل الذي انطلقت الحركة من أجل محاربته. النقطة الأبرز في الخطاب تمثلت في تأكيد السيد عباس على إبقاء خيار المقاومة، ضمن خيارات أخرى في حال فشل المفاوضات الحالية حول خطة خارطة الطريق، ولكنه لم يحدد صراحة ما إذا كانت المقاومة التي يقصدها هي الكفاح المسلح، أو المقاومة السلمية مثل العصيان المدني والمظاهرات الاحتجاجية. يسجل للرئيس الفلسطيني اعترافه بارتكاب الحركة العديد من الأخطاء التي ساهمت، منفردة أو مجتمعة، في خسارتها للانتخابات البرلمانية الأخيرة، والسيطرة على قطاع غزة لصالح غريمتها حركة «حماس» دون أن يسمي الأشياء بأسمائها أو يحمل مسؤولية هذه الأخطاء لأي أحد، وكان لافتاً أن بعض من ارتكبوا هذه الأخطاء لم يتعرضوا لأي محاسبة. انعقاد المؤتمر، وبعد عشرين عاماً من التأجيل، كان إنجازاً في حد ذاته بالنسبة إلى الرئيس عباس والمجموعة المحيطة به، لأنه عزز مكانته وأبعد العناصر «المتطرفة» من حركة فتح من خلال عملية «فرز» صارمة، وأضفى صفة ديمقراطية على حزب السلطة، وهي صفة طالبت بها الإدارة الأمريكية الحالية، وسعت إليها وهي تستعد لبلورة مبادرة سلام في المنطقة. لا شك أن المؤتمر شكل انطلاقة جديدة لحركة «فتح» مختلفة كلياً عن انطلاقتها الأولى قبل خمسين عاماً تقريباً، رغم أن نصف المشاركين فيه كانوا فوق الستين أو حولها، وكانت رؤوس معظمهم مكللة بالشعر الأبيض أو ما تبقى منه.«فتح الجديدة» هي «فتح المفاوضات» والرهان على الإدارات الأمريكية المتعاقبة، واليمين الغربي، والحكومات الرسمية العربية ومبادرة السلام التي أطلقتها قبل ستة أعوام، ولذلك فهي أبعد كثيراً من أن تكون «حركة تحرير» وأقرب كثيراً إلى أحزاب السلطة المتواجدة بكثرة في الدول العربية. الرئيس عباس أقدم على مقامرة خطيرة بإعلان الطلاق مع المرحلة السابقة، وإعادة تشكيل حركة «فتح» وسياستها وفق توجهاته السياسية التي لم تحقق حتى الآن أي إنجاز حقيقي على الأرض، غير إقامة سلطة ضعيفة تحت حراب الاحتلال، وتعتمد في بقائها على المساعدات الأمريكية، والرضى الإسرائيلي. استمرار «فتح الجديدة» مرهون بمدى نجاح المساعي الأمريكيةالجديدة في التوصل إلى تسوية مقبولة للصراع العربي الإسرائيلي، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، وأي فشل في هذا الإطار يعني انهيارها، وكل ما بني عليها. فترة الاختبار هذه قصيرة جداً، وقد لا تزيد على ثلاثة أعوام في أفضل التقديرات، ولا بديل غير الانتظار في الوقت الراهن على الأقل.