بدأ مؤتمر حركة «فتح» أعماله صباح (الثلاثاء) في مدينة بيت لحم في الأراضي المحتلة في ظل غياب مندوبي قطاع غزة الذين منعت حركة «حماس» خروجهم، والعديد من الشخصيات القيادية التي رفضت حكومة بنيامين نتنياهو السماح لهم بالدخول بسبب مواقفهم المؤيدة للمقاومة والرافضة لنهج التسوية في صيغتها الحالية. ولا نعتقد أن الرئيس محمود عباس سيكون حزيناً لغياب هؤلاء، لأن وجودهم سيمثل إزعاجا سياسياً وإعلاميا يمكن أن يفسد عليه مظاهرة التأييد التي خطط لها وأنصاره بعناية شديدة. وربما لا نبالغ إذا قلنا إن الرئيس عباس لم يرد، من الأساس، مشاركة مندوبي القطاع في المؤتمر، وإلا لبذل جهوداً جدية للتوصل إلى تسوية مع حركة «حماس» تسمح بخروج هؤلاء بسهولة ويسر، من خلال التجاوب مع شروطها بالإفراج عن معتقليها في سجون السلطة في رام الله، ولكنه لم يفعل لإدراكه أن هؤلاء الذين تضرروا وتنظيمهم من فساد قيادتهم وأجهزتها الأمنية عندما كانت تحكم القطاع، وتعرضت لهزيمة مهينة مذلة على أيدي قوات «حماس» سيشكلون مصدر إزعاج لقيادة عباس، وربما يخربطون كل ترتيباته لانتخاب قيادة «مستأنسة» وفق المواصفات الأمريكية المطلوبة. والشيء نفسه يقال أيضا عن بعض الشخصيات التي رفضت الحكومة الإسرائيلية إعطاءها تصاريح بالدخول، مثل منير المقدح المعروف بصلاته القوية بالمقاومة اللبنانية، وصلابته في التمسك بمبادئ حركة «فتح» وقيمها في صيغتها الأساسية، والذين سيكونون عنصر تحريض ضد سياسات التفاوض الاستسلامية، مما يعزز جبهة الرفض الفتحاوية. المؤتمر خطط له أن يكون مظاهرة تأييد للسيد عباس وسياساته، ولذلك فإن جميع التوقعات التي تقول إنه سيكون بمثابة بعث جديد للحركة، وتجديد شبابها، في غير مكانها، ولا تزيد على كونها «أحلام يقظة»، فالمؤتمر الحالي سيكون بمثابة «حفل تأبين» لفتح القديمة التي عرفناها وقادت النضال الفلسطيني بشرف ورجولة لأكثر من أربعين عاماً، وكانت الخيمة الوطنية التي تنضوي تحتها مختلف التيارات السياسية الفلسطينية. «فتح الجديدة» التي يريد السيد عباس والمجموعة المحيطة به بناءها على أنقاض «فتح عرفات» هي «فتح الرواتب» ورغيف الخبز، وليس فتح المقاومة وتحرير المقدسات، ولهذا لن يوجد في مؤسساتها الجديدة مكان لرموز جهادية، مثل فاروق القدومي ومحمد جهاد ومنير المقدح ومحمد أبو ميزر وغيرهم. إنها المرة الأولى في التاريخ بمختلف عصوره التي تعقد فيها حركة تحرير وطني مؤتمرها العام تحت حراب الاحتلال ومباركة حكومته، فأي حركة تحرير تقبل على نفسها تسجيل مثل هذه السابقة المخجلة والمسيئة إلى تاريخها وقيمها ومبادئها؟ كيف سيبرر هؤلاء الذين سيتصدرون المنصات الخطابية مؤتمرهم هذا لآلاف الشهداء والأسرى وعائلاتهم الذين ضحوا بحياتهم وأجمل أيام شبابهم من أجل التحرير واستعادة كرامة شعبهم المسلوبة. الذين انقلبوا على الشهيد ياسر عرفات في حياته وتآمروا لنزع صلاحياته، يريدون أن يثأروا حالياً من تاريخ الحركة، بعد أن ورثوها في ظروف ما زالت تفاصيلها محاطة بالغموض. والمقصود بالثأر هو تسفيه كل الثوابت الحركية التي جعلت من «فتح» الرقم الصعب فعلاً. المؤتمرات الحركية تعقد من أجل محاسبة القيادة ونهجها السياسي، ومبايعتها مرة أخرى إذا كانت جعبتها حافلة بالانجازات ومعاقبتها بالعزل أو الاعتقال إذا كانت قد خرجت عن الثوابت وانحرفت عن الأهداف المنوطة بها، فهل سيحاسب المؤتمرون الرئيس عباس ويطالبونه بالتنحي بعد أن ثبت فشل نهجه السياسي التفاوضي في تحقيق وعوده في إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة؟ عقد ونصف العقد مرّا منذ توقيع اتفاقات أوسلو وإقامة السلطة في رام الله، فما هي الإنجازات التي حققها السيد عباس والمجموعة المحيطة به غير مضاعفة المستوطنات، وتهويد القدس، وزيادة الهجرة اليهودية، وانتعاش الاقتصاد الإسرائيلي بفضل الأمان وبناء السور العنصري العازل وأكثر من ستمائة حاجز في الضفة الغربية، وتحويل الشعب الفلسطيني إلى شعب متسول، وتقسيم الوطن أو ما تبقى منه إلى ضفة وغزة، وخسارة الحكم بشكل مهين ومذل في الآخر. لا نشك في أن هناك عناصر فتحاوية وطنية شريفة تشارك في هذا المؤتمر، وتريده مختلفا عما تريده له القيادة، وهذه العناصر والقيادات مطالبة بإعلاء صوتها بالاحتجاج على محاولات ومخططات حرف الحركة عن تاريخها وثوابتها، والعمل على إعادتها إلى ينابيعها الأصلية النقية الطاهرة. هذه العناصر يجب أن تتضافر مع بعضها البعض بالإصرار على إجراء عملية مراجعة شاملة للتجربة الفتحاوية في العشرين عاما الماضية، من أجل استخلاص العبر من الهزائم والإخفاقات، ومقاومة التوجهات الحالية القوية بسلخ صفة «التحرير» عن الحركة، وتحويلها إلى حزب سياسي مهادن للاحتلال، منسجم مع المشاريع الأمريكية والشروط الإسرائيلية. حركة «فتح» بحاجة إلى عملية تطهير شاملة لإزالة الأعشاب الضارة والمتسلقة التي تغلغلت في مفاصلها القيادية، العناصر التي استخدمت المال الحرام لشراء الذمم والمواقع والمناصب من أجل فرض أجندتها الخارجية، بحيث جعلت من «حماس» عدوها الأول، ونسيت العدو الحقيقي الذي يحتل الأرض ويرتكب المجازر ويهوّد المقدسات. نعترف أن سقف توقعاتنا منخفض للغاية، مثلما نعترف أن ما نطالب به هو مجرد تمنيات يصعب تحقيقها أو حتى نصفها، لقناعتنا الراسخة بأن حركة «فتح»، الحركة الوطنية الشريفة المناضلة، تعرضت لعملية خطف بشعة، من قبل بعض المحسوبين عليها، وما يحزننا ويثير فينا الإحباط بأشكاله كافة أن المؤتمر العام، الذي يبدأ أعماله اليوم، قد يضفي الشرعية على عملية الخطف هذه وقادتها والمشاركين فيها، من خلال تسليمهم عجلة القيادة، وهنا تكمن مأساة «فتح» التي هي مأساة الشعب الفلسطيني أيضا الذي أحب هذه الحركة والتف حولها عندما بادرت إلى إطلاق الرصاصة الأولى.