قليلة هي تلك السير الذاتية التي تعكس التاريخ مثلما تعكس سيرة حياة عبد الباري عطوان أحداث زمانه. فقد ولد عبد الباري عطوان في مخيم للاجئين في غزة عام 1950، التي غادرها في السابعة عشر من عمره ليصبح أحد أهم المعلقين الصحفيين في قضايا الشرق الأوسط في العالم. عطوان يروي بصدق وروح عفوية في هذا الكتاب قصة رحلته من أوحال مخيم اللاجئين إلى رأس هرم صحيفة «القدس العربي». خلال رحلته يصور عبد الباري عطوان الرعب الذي سببته مذابح المخيمات والنتائج غير المتوقعة للتدخل البريطاني في المنطقة. كما يروي المآسي التي واجهته جراء تنقله من بلد إلى آخر، والصدمة الثقافية التي أحس بها عندما سافر إلى لندن في السبعينيات. ويحكي أيضا لقاءاته الصحفية مع شخصيات سياسية مهمة مثل مارغريت تاتشر وأسامة بن لادن وياسر عرفات والعقيد القذافي وشاه إيران. كما لا يخلو الكتاب من روايات عن تجارب شخصية وإنسانية كان أكثرها تأثيرا تجربة لقاء أولاده بريطانيي المولد مع عائلته في المخيم. صاح بي جندي إسرائيلي: «أوراقك!»، لم تكن لدي آنذاك أوراق تعريف تدل على هويتي غير بطاقة الطالب الخاصة بي، وكنت خائفا أن لا يكفيهم ذلك وأن تنتهي رحلتي هنا وأعود أدراجي جارا أذيال الخيبة إلى المخيم. سألني الجندي الإسرائيلي: «إلى أين أنت ذاهب؟» فقلت له: «إلى عمان».رد علي الجندي وهو يسوق مجموعة من الأطفال و النساء بمدفعه الرشاش قائلا: «سوف نرى!». في ذلك الحين بدأ الجندي في استجواب امرأة كانت تجلس بجانبي في الحافلة. كانت تلك المرأة بصحبة أبنائها الأربعة في طريقها إلى الكويت للالتحاق بزوجها، الذي حصل على عمل هناك. حضر جندي آخر وفي يده رزمة من الورق، وقال لنا: «وقع هذه!» وهو يعطينا ورقة من بين رزمة كان قد كتب عليها أسماءنا. سألتني المرأة: «ما هذه الورقة؟» فأدركت أنها لا تستطيع القراءة وقمت بتفحص الورقة سريعا، وكانت عبارة عن تعهد خطي بأننا ما إن نغادر الأراضي المحتلة فلن نرجع إليها أبدا. وما إن شرحت مضمون الورقة للمرأة حتى انخرطت في بكاء مرير. قاطعها جندي إسرائيلي بالقول: «هل تريدين الذهاب أم لا؟» فهمست بحزن: «نعم»، وقال لها: «إذن وقعي!». قلت للجندي إنها لا تستطيع الكتابة. حينذاك أخذ الجندي معصمها ووضع إبهامها في دواة الحبر، وقال: «إذن ضعي بصمتك هنا فوق اسمك». كان علي أنا أيضا أن أوقع تلك الورقة، ويعلم الله أي مصير كنت سألقاه إن رفضت تنفيذ أوامرهم. وما إن وقعنا الأوراق كاملة حتى تم السماح لنا بالمغادرة وأدركت آنذاك أن كل ما كانوا يهتمون به في الواقع هو التخلص من أكبر عدد منا وبأي طريقة كانت. مدينة الخليل عندما دخلت الحافلة مدينة الخليل في الضفة الغربية كنت قد استعدت بعض حماستي للتمتع بالمناظر التي كنت أراها خارج النافذة. كان كل شيء مختلفا وجديدا بالنسبة لي نظرا لكونها المرة الأولى التي أزور فيها المجتمع الحضري. كانت مدينة الخليل تعج بالشوارع والأسواق والمحلات والسيارات. لم تكن غزة أفقر وأبأس فحسب، بل كانت أيضا أكثر تحفظا في ما يخص طريقة اللباس والحياة. كان الرجال في الخليل يلبسون الأزياء الغربية وكانت النساء يمشين في الطرقات سافرات بدون وضع غطاء للرأس، مظهرات تسريحات شعر أنيقة. طبعا كانت تسريحات الشعر في رفح رفاهية غير معقولة. من شدة دهشتي سألت جاري في الحافلة: «هل هؤلاء النساء فعلا فلسطينيات؟». كانت النساء الوحيدات اللائي قابلتهن في حياتي سيدات فقيرات يعشن في مخيمات اللجوء في قطاع غزة. عمان و النوم على السطح كان لدي قريبان يسكنان عمان، أحدهما حسين، كان يعمل عميدا لجامعة عمان، ويعيش في بيت أنيق في حي أرستقراطي. وكان يظهر على باب بيته كل أسبوع تقريبا أحد أقاربنا القرويين، متوقعا أن يشمله حسين بكرم الضيافة لمدة شهر أو يزيد. كان حسين في موقف حرج حيث لم يكن قادرا على رفض استقبال هؤلاء المشردين من أقاربه، ولكن زوجته الأردنية الأرستقراطية كانت تهدده بالطلاق بسبب السلسلة غير المنتهية من زيارات الأقارب حادي الطباع. أشفقت على حال حسين وقررت أن أقصد قريبي الآخر الذي لم يكن شخصا غير ابن عمي صلاح. كان صلاح في استقبالي في عمان، وكان أول ما لفت نظري فيه هو حذاؤه غريب الشكل والمضحك. لم يكن ذلك الحذاء كبير الحجم بشكل غريب فحسب، بل إن لونه كان يميل إلى الأخضر الغامق. كان صلاح يعاني من أقدام مفلطحة ولم يكن يجد من الأحذية ما يناسبه بسهولة. لم يكن صلاح يأبه بشكل الحذاء ما دام يناسب قدميه. آخر ذكراي بصلاح أنه كان شابا نحيلا، ولكنه الآن أصبح أضخم بمرتين على الأقل طولا وعرضا. كما أن جسمه كان مليئا بالشعر. أحسست بأن غوريلا ضخمة تخرج من بين الحشود لتحييني حينها. ما إن رآني حتى أخذ صلاح في ضمي و تقبيلي وضربي على قفاي بحميمية. أخذ حقيبتي وبدأ بطرح مئات الأسئلة عن فلسطين وعن عائلتنا، بينما كنا نمشي في الشارع. كنت أتوقع أن يأخذني إلى منزله، ولكنني فوجئت به يقف أمام فندق يدعى «العربي». أحسست وقتها بحرج شديد لأن المبلغ الذي كان معي كان مبلغا ضئيلا وهو: 10 جنيهات أعطتني إياها أمي، و30 جنيها من عمي كانت مخبأة في كعب الحذاء. أحس صلاح بإحراجي وقال لي: «لا تقلق يا سعيد هذا ليس فندقا!» أخبرته: «إنه فندق. أستطيع أن أرى بوضوح أنه فندق. فلماذا تقول لي العكس؟» قال لي: «بالنسبة لنا نحن الفلسطينيين هذا ليس فندقا! إنه أرخص إقامة في المدينة كلها. تعال معي وسوف ترى بنفسك!». وأخذ بيدي ودلفنا معا باب الفندق وشرعنا في صعود السلالم. بدأنا نصعد الطابق تلو الطابق، وبدأت أظن أن ابن عمي إما أن يكون قد جن و فقد عقله أو أنه أصبح فاحش الغنى دون أن يخبر أحدا. لكن ثيابه المهلهلة و حذاءه المضحك لم يكونا ليوحيا بذلك أبدا. توقفنا عند باب صدئ أعلى الفندق وسرعان ما دفعه صلاح بكتفه لنجد أنفسنا على سطح الفندق. كان هناك على السطح صف من الأسرة في جانب وصف من الأفرشة في جانب آخر، وكان هناك العديد من الرجال جالسين أو مستلقين يدخنون ويتحدثون أو يأكلون تحت السماء الزرقاء الصافية. كان صلاح معروفا بينهم وكان سكان السطح يحيونه بلطف وحميمية. وما إن بدأ بتعريفي بسكان السطح حتى انهالت علي الأحضان و القبل وعبارات الترحيب. قال لي صلاح: «أهلا بك في منزلك الجديد»، وهو يشير إلى أحد الأسرة المثبتة على حافة السطح، والذي لم تكن فيه أي حواجز للأمان تمنع من السقوط. كنت أتخيل رد فعل أمي عندما ترى المكان الذي من المفروض أن أنام فيه، أنا الذي أمشي خلال نومي. إلا أنني عزمت على اختراع نظام لحماية نفسي من السقوط إلى حتفي في الليل وأنا نائم. شكرت صلاح على اهتمامه بتوفير سكن لي وجلسنا على السرير لنتحدث. قال لي وقتها: «إنني أعمل كالحمار! تخيل أنني أريد أن أكمل دراسة الرياضيات وها أنا أعمل في موقع للبناء مقابل قروش قليلة في اليوم، لكنني رغم ذلك أظل أحسن حظا من هؤلاء – مشيرا إلى سكان السطح – الذين لم يجدوا عملا بالمرة. إنهم مضطرون للعودة إلى المخيم للعيش على بطاقات الإعانة التي تقدمها «الأونوروا»! لكن ماذا عنك؟ ما هي طبيعة العمل الذي تبحث عنه؟ أجبته مستغربا: «أنا لست هنا للعمل. أنا هنا لإنهاء دراستي الثانوية والالتحاق بعد ذلك بالجامعة في مصر مثل أخي عبد الفتاح!». بدأ صلاح في الضحك وأخبرني أن الدراسة في الأردن ليست بالمجان وأنني أحتاج نقودا للتسجيل في المدرسة. وعندما أخبرته بمبلغ ال40 جنيها التي كانت معي قال لي إنها لا تكفي حتى لمصاريف فصل واحد، بالإضافة إلى أنني سوف أحتاج نقودا لمصاريف السكن و المأكل. صدمت لمعرفة ما أخبرني به صلاح، ورغم أنني أردت أن أبقى متماسكا، فقد هالني أن كل مدخرات أمي و عمي لا تساوي شيئا في الأردن لدرجة أردت معها البكاء، فأخبرني صلاح بحقيقة مرة كان علي مواجهتها، وهي أنني بحاجة ماسة إلى إيجاد عمل، الأمر الذي لم يكن سهلا بالمرة.