قال الباحث المغربي عبد الله حمودي إن التأطير الإداري والبيروقراطي الجديد الذي تقوم به الدولة تجاه الزوايا الصوفية يعكس رغبة الدولة في توظيف التصوف لضرب الإسلام الراديكالي، لكنه أكد أن هذا التأطير الإداري يتنافى في نفس الوقت مع روح التصوف والجهد الروحي للصوفية. وفي حديثه عن حزب الأصالة والمعاصرة لفؤاد عالي الهمة، زميل الملك محمد السادس في المعهد المولوي، قال حمودي إن القرابة مع السلطان أو الأمير ما زالت مصدر مشروعية ولها مفعول إجرائي، معتبرا بأن الحزب جاء في مرحلة فراغ سياسي كبير في المغرب يمكن لأي فاعل أن يملأه. وفيما يلي نص الحوار. نظم قبل أيام الملتقى العالمي للزوايا الصوفية بسيدي شيكر قرب مراكش، وأعلن عن إنشاء قطب عالمي للتصوف مركزه المغرب، هل هذا يعني برأيك أن الدولة تريد المراهنة أكثر على التصوف؟ > هذا في الحقيقة إعادة إنتاج لآليات معروفة للتصوف، لها أهداف سياسية واضحة، فالجميع يعرف أن الكثير من النظم السياسية تنزعج مما يسمى بالإسلام الراديكالي، ولذلك هناك تحركات، منها الرسمي وغير الرسمي، لحماية هذه النظم، أو على اقتناع بأن هناك آفات أخلاقية بسبب التحولات الجديدة وأنه لا بد من التصدي لهذه الظاهرة. لكن لا ننسى أن جانبا من هذا التحرك يدخل في إنتاج تيار أو تيارات لمواجهة الإسلام الراديكالي. الثقافة الصوفية في العرف العام ثقافة تنتمي إلى الماضي أو إلى ثقافة القرون الوسطى إن صح التعبير، كيف يمكن المصالحة بينها وبين الحداثة التي يقول الخطاب الرسمي في المغرب إن هذا الأخير يسعى إلى الانخراط فيها؟ > أظن أنه لا بد من شيء من التحفظ في هذا الموضوع، فإعادة بعث الثقافة الصوفية ليس بالضرورة هو بعث لثقافة القرون الوسطى، ومن جانب آخر لأن هذا المفهوم مرتبط بالثقافة والسيرورة الأوروبية وفيه معان قدحية. أظن أنه لا بد من التحفظ في هذا المضمار، لأن إعادة بعث الثقافة الصوفية يمكن أن ينجز طبقا لمفاهيم متجددة. ولا أعتقد مثلا أن الجهد البيداغوجي في الاتصال مباشرة بقوة الوجود أو بالله مباشرة، كما تعبر عن ذلك الأديان السماوية، في حد ذاته شيء لا يتماشى مع الحداثة أو الأصالة، فيمكن لأي شخص شعر بخصاص معنوي أن يقوم بجهد خاص والانتماء إلى طريقة معينة من الطرق الصوفية أو الموسيقى السامية أو فنون أخرى، لكي يبعث في حياته وفي نفسه شيئا من السمو الروحي المعاكس لأوساخ الدنيا، وهذا شيء طبيعي، إلا أننا نرى اليوم إعادة بعثه بوسائل إدارية جديدة، أو بعبارة أخرى إعادة توظيفه سياسيا. - لكن كيف يمكن التوفيق بين الحاجة الروحية للفرد في التصوف وبين الحاجة السياسية للدولة وإنجاح هذا التوظيف السياسي للتصوف الفردي؟ > ليس لي جواب عن إمكانية هذا التوفيق، وأنت تعرف أن أي مسألة، خاصة المسألة الدينية، يكون لها وجه أساسي هو الحس الإنساني، وهذا يظهر من خلال تصرفات معينة تبرز في خلق مؤسسات للعمل الاجتماعي من نوع ما، وهذا التمظهر يمكن لأي ناشط، سواء من طرف الفرد أو الدولة، أن يوظفه في اتجاه سياسي معين، وطبعا يبقى لهذا التحرك طابع إداري، فنحن نلاحظ عبر التاريخ أن المتصوفة لم يكونوا ينتظرون الدول العصرية أو القديمة للاتصال ببعضهم البعض في المواسم مثلا، أو في المناسبات الأخرى، أو في التردد على زواياهم وتنظيم أمسيات للحضرة، وطبعا يمكن لأي نظام، خاصة أي نظام سياسي، أن يحاول الركوب على صهوة التصوف. وعلمت عن مصدر موثوق أن الإدارة المغربية قامت عن طريق وزارة الأوقاف بمسح شامل للزوايا وفضاءاتها. وقد تكون لذلك أغراض سياسية أو أغراض التأطير، وأنت تعرف أن لهذا المسح الشامل سابقة حيث قامت الإدارة الاستعمارية في أوائل القرن الماضي بمسح المجال الديني وخاصة الزوايا. - لكن هل توظيف الدولة للتصوف وخلق هيئة شبه رسمية أو تحت وصاية الدولة يخدم الزوايا الصوفية التي كانت في غالبيتها مستقلة نسبيا عن الدولة في الماضي؟ > نعم، هو يخدم الدولة بكل تأكيد - لكن هل يخدم الزوايا؟ > لا أقول إن أفرادا أو مجموعات منخرطة في الدولة ليست لديها مشاعر صوفية أو نزعات صوفية، ولكن هذا التحرك هو بالدرجة الأولى تنظيم إداري، لكن على المتصوفين أنفسهم أن يزنوا ماذا ينتج عن ذلك، لأن الأهداف السياسية واضحة وهو تأطير بيروقراطي بالدرجة الأولى، يتنافى مع روح البحث والجهد الروحي للمتصوف، لكن هذا لا يعني أن المتصوفة أو بعض أقطاب التصوف لم ينخرطوا في تحالفات سياسية، فقد كانت هناك دائما علاقات بين الحاكم والمتصوف وخاصة المنخرط في شبكة الزوايا. - لاحظنا في الفترة الأخيرة أن الملك عين بظهير شيخي اثنتين من الزوايا الصوفية في المغرب، هما الزاوية الكتانية والزاوية التيجانية، ما هو تفسيرك لدخول الدولة طرفا في تسوية خلافات معينة داخل بعض الزوايا أو تعيين شيوخها، وهل هذا سينتج عنه صراع حول المشروعية داخل الزوايا، مشروعية الزاوية ومشروعية المخزن أو الدولة؟ > التدخل في الزوايا الصوفية في المغرب ليس جديدا، فالسلطان المغربي سبق له مثلا أن تدخل في الخلاف الذي حصل في الزاوية الناصرية في القرن التاسع عشر وقد وقفت شخصيا على وثيقة في هذا الصدد، فهناك سوابق تاريخية في هذا المجال، لكن السلطان لم يكن يتدخل في جميع الزوايا بطبيعة الحال، بل في الزوايا التي كانت على علاقة وثيقة به، بل هناك زوايا كانت لديها مشاحنات مع السلطان، كالزاوية الدرقاوية التي كانت ترسل بالمساعدات إلى الأمير عبد القادر الجزائري والمقاومة الجزائرية بعدما تخلى السلطان عن إرسال الإعانات، لكن التدخل الحاصل اليوم له ظروف جديدة تختلف عن ظروف التدخل الذي كان يحصل في الماضي. - من الحديث عن السلطان ننتقل إلى ظاهرة حزب الأصالة والمعاصرة، هل تعتقد كباحث أنثروبولوجي أن القرب من الأمير أو السلطان ما زال مصدرا للمشروعية السياسية في المغرب، من خلال ظاهرة هذا الحزب الذي يقال إنه يستمد قوته من قرب مؤسسه فؤاد عالي الهمة من الملك؟ > أنا لا أستعمل كلمة مشروعية، بل القرابة التي لها مفعول إجرائي، وهو مفعول ظاهر، وأنا لا أتهم أحدا هنا، ولكن أقول إن القرابة أو ما يشاهد منها أو ما يتخيل، في مخيلة السياسيين أو الناس، لها تأثير كبير، فأي شخص في أي منطقة قروية أو مواطن بسيط يقال له في شخص ما إن هذا الشخص هو صديق الملك فهذا له قوة إجرائية وسبب مشروعية معينة، أما المشروعية بالمعنى القانوني والأخلاقي فهذا شيء آخر. - لكن اكتساح حزب الأصالة والمعاصرة للانتخابات الجماعية الأخيرة وتحريكه المشهد السياسي في ظرف قصير فقط كيف تقرؤه كباحث؟ > في الحقيقة ليست لدي قراءة معينة لهذه الظاهرة، وبالإجمال تخليت حتى عن التفكير فيها. وعلى كل حال، أستغرب سرعة هذا الاكتساح وتوسعه، وكل ما هناك أن الحزب جاء في ظرفية معينة بحيث إن الساحة السياسية تآكلت لأن هناك فراغا سياسيا كبيرا يمكن لكل فاعل سياسي حازم أو معان أن يملأه، خاصة إذا كان فاعلا بمواصفات معينة، مثل قائد هذا الحزب الجديد بتاريخه وتصدره لعدة مهام في الدولة، وقد جاء في ظرفية عرفت فيها الحياة السياسية تحولات وانحطاطا كبيرا. - هل يعني ظهور حزب الهمة وما نتج عنه من تحركات قلبت الحياة السياسية بهذه السرعة وبهذه الطريقة أننا أمام ظاهرة موت النخبة في المغرب؟ > أظن أن النخب التي خرجت من الحركة الوطنية لفظت أنفاسها منذ ما سمي بالتناوب، فقد انهارت تلك النخب وانهارت معها برامجها وخطاباتها السياسية، لكن هل لها البديل بالنسبة للعمل السياسي واستخلاص العبرة منها لتصور المستقبل أم لا؟ هذا ما يجب أن نطرحه، لكن إذا كنت تعني مستوى التفكير وجدية البرامج وكل هذا، طبعا سيكون معك حق، لأننا نلاحظ تشابه البرامج السياسية وتكرار نفس الخطاب السياسي. - خلال الانتخابات الجماعية الأخيرة وتشكيل مجالس المدن لاحظنا وجود تحالفات هجينة وغير معبرة عن المشهد السياسي، سؤالي هو: هل هذا يدل على أن الانتماء إلى طبقة اقتصادية معينة أو مجموعة مصالح أو انتماء قبلي أو الانتماء لطبقة الأعيان هو المحدد الرئيسي للتحالفات السياسية في المغرب وليس الانتماء الحزبي، الذي يبقى هو الأضعف بين كل هذه الانتماءات؟ > لا بد أن نقوم بمسح لما يمكن أن يسمى بالنوع الجديد للأعيان، مثلا أصبح موقع الأعيان يكتسب أمورا جديدة مثل الديبلوم أو الخبرة في الخارج، وأصبح الرأسمال المادي والرمزي الذي يستند إليه مفهوم الأعيان يتجدد، لكن هذا لا يعني أن مفهوم الأعيان بمعنى الانتماء إلى وسط اجتماعي معين قد تغير، واليوم أصبح له ارتباط بتقنيات جديدة بما فيها تقنية التواصل والإعلام ومواقع المال والنفوذ الجديدة، وبتغيير الأجيال، لكن ما هو أساسي هو ارتباط الأعيان بموقع النفوذ السياسي الواقعي وهو المؤسسة الملكية. ولكن لا بد أن نسجل أن الانتماءات العائلية ما زالت موجودة، فمثلا ستجد أن هناك عشيرة الفاسي الفهري التي تجدها موجودة في الخارجية وفي إدارة الطرق السيارة وإدارة مرافق كالماء والكهرباء أو الكتاني أو الفيلالي أو العلوي أو أبو أيوب أو الكلاوي وأسماء أخرى من كل صوب وحدب. وحفلات الزواج في المغرب خير دليل، وإذا أردت أن تكون لك تجربة في الارتباطات العائلية فما عليك إلا التردد على الأعراس، فهي بالنسبة لي خير مؤشر على موقعك الحقيقي في المجتمع، بحيث إذا لم تكن منتميا لإحدى العائلات الكبرى فإنك لا يمكن أن تدعى إلى هذه الحفلات، فهي مقياس الارتباطات العائلية والشبكات العائلية الكبرى في المغرب. - هل استمرار نفوذ العائلات الكبرى في المغرب يعاكس الحداثة التي يقول الخطاب الرسمي إن المغرب منخرط فيها؟ > الحداثة في نظري تكون فيها متناقضات مختلفة في حدتها، سواء في أوروبا أو في العالم الثالث، وطبعا في أوروبا وغيرها كانت هناك مشاريع حداثية، تشخصت مثلا في الثورة الفرنسية أو في الثورة الأمريكية، ولكن ذلك لا يعني أن هناك برنامجا يطبق حرفيا ويلغي كل ما سبقه، لأن الحداثة سيرورة تاريخية تتحقق بالنقاشات وبالعلم وبالتطاحنات، وإذا رجعنا إلى التاريخ سوف نجد أن أحزاب الحركة الوطنية جاءت بمشاريع حداثية سكنتها تناقضات حادة جدا، وهذا ما يفسر الانشقاقات التي حصلت داخل الأحزاب والصراعات والتطاحنات والمعارضة الصاخبة، وكانت هناك مشاريع حداثية نابعة من نموذج الاتحاد السوفياتي، لكنها فشلت، فقد كانت هناك مشاريع ربما هشة، وكان الشيء الأساسي هو الحصول على الاستقلال، لكن هذا لا يعني أننا ما زلنا في التقليد ولم ندخل إلى الحداثة. فنحن في الحداثة وهي حداثة بأوجهها وتناقضاتها ولا يمكن أن نسترسل في القول إننا لم ندخل بعد إلى الحداثة. مفكك خطاطة الشيخ والمريد من مواليد قلعة السراغنة عام 1945، درس في معهد الحسن الثاني للزراعة والبيطرة من عام 1972 إلى عام 1989، وحصل على الدكتوراه من جامعة السوربون بفرنسا عام 1977 في علوم الاجتماع. له العديد من الدراسات في السوسيولوجيا الاستعمارية والسياسة الزراعية بالمغرب، وكان من الأسماء الأولى التي رافقت تجربة مجلة «لاماليف» مع نخبة من الباحثين من بينهم بول باسكون. في نهاية الثمانينيات رحل إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية حيث يعمل كأستاذ زائر في جامعة برنستون. أصدر عام 1988 عن دار النشر الفرنسية لوسوي كتابه «الأضحية وأقنعتها»، وفي نهاية التسعينيات أصدر كتابه «الشيخ والمريد: النسق الثقافي للسلطة في المجتمعات العربية الحديثة»، درس فيه الثقافة الصوفية وعلاقتها بالسلطة السياسية، وناقش فيه أطروحات السوسيولوجيا الكولونيالية. وفي عام 2005 أصدر كتابه «موسم بمكة»، يروي فيه تجربة الحج التي قام بها إلى البقاع المقدسة عام 1999، بنظرة الباحث الأنثروبولوجي الذي يحاول التأمل في الطقوس المرتبطة بهذه الفريضة الإسلامية.