وضع المعهد الملكي للدراسات الاستراتيجية في أول دراسة له منذ إحداثه اليد على النقائص الهيكلية التي أبرزتها الأزمة المالية والاقتصادية العالمية في النسيج الاقتصادي الوطني، والتي انكشفت بدرجة أو بأخرى، سواء تعلق الأمر بمحدودية استمرارية الميزانية العامة، وضعف التنافسية التجارية، أو محدودية السوق الداخلي، والاختلالات المسجلة في تدبير الملفات الإستراتيجية للحكامة. وهو ما يتطلب، حسب تقرير المعهد، تدخلا عاجلا لحل هذه الإشكاليات الهيكلية، والاستعداد لمرحلة ما بعد الأزمة عبر أربعة توجهات كبرى قد تشكل أساساً لخارطة طريق وطنية، وتتجلى أولا في تقوية الجانب الاجتماعي بمراجعة السياسات الاجتماعية، وثانيا تحسين طرق تسيير السياسات العمومية لتكون أكثر انسجاما وفعالية وتفاعلية، وثالثا رفع التنافسية الاقتصادية والإبقاء على اليقظة العالية للمحافظة على بعض التوازنات الماكرو اقتصادية، ورابعا تعميق البعد الإقليمي للمغرب. وفي كل توجه من التوجهات الأربعة التي يشدد عليها المعهد الملكي، يقترح التقرير جملة من النقط التوضيحية والإجرائية، فبخصوص التوجه الأول وهو مراجعة السياسات الاجتماعية، يرى أن الديمقراطية وجودة نظام الإدارة وتقوية شبكات التضامن الاجتماعي هي المقومات الكبرى لإحداث مصالحة أكبر بين ما هو سياسي واجتماعي خصوصا في زمن الأزمات، وكذا تعزيز السلم الاجتماعي وتفعيل مؤسسات الوساطة الاجتماعية. ويعتبر التقرير أن إصلاح نظام المقاصة هو مدخل لباقي الإجراءات في الشق الاجتماعي، داعيا إلى تسريع المراحل الأخيرة من عملية إعادة النظر في الدعم غير المباشر، وتحويله إلى دعم مباشر يستهدف الأسر الأكثر حاجة، مع تحديث القطاعات التي تنال دعم الدولة. وفي ما يخص التوجه الثاني يقترح المعهد إرساء إطار مناسب للتنسيق بين السياسات الاقتصادية والاجتماعية، ومراجعة الأهداف ومدى انسجام الاستراتيجيات القطاعية الكبرى (المغرب الأخضر، الميثاق الصناعي، مخطط التنمية السياحية...). ويربط التقرير بين معالجة دائمة لتنافسية المغرب وإعادة هيكلة النسيج الإنتاجي وتحديث التخصصات القطاعية للاقتصاد الوطني، بتقوية القطاعات المصدرة ذات القيمة العالية، وتقليل حجم حضور الأنشطة التصديرية ذات التنافسية الضعيفة، مع تشجيع الإنتاج المحلي لبعض المكونات التي تحتاجها برامج البنيات التحتية والتجهيزات المختلفة، من خلال وضع شروط ملزمة في هذا الاتجاه ضمن العقود المبرمة بين الدولة ومقدمي الخدمات الأجانب، والتركيز على روافع نمو السوق الداخلية والتي تظل الدعامة الأساسية في ظل تراجع الطلب الخارجي على المنتجات المغربية. ولتنفيذ التوجه الأخير وهو تعميق مكانة وتجذر المغرب في محيطه الجهوي، يشير المعهد الملكي إلى أن التكتلات الجهوية تساعد على امتصاص الاقتصاديات المندمجة فيها لصدمات الأزمات العالمية، ومن هذا المنطلق فالمغرب مدعو بقوة للاستفادة من الفرص العديدة للاندماج والتعاون المتاحة أمامه، سواء في ما يخص الفضاء الأوربي أو الإفريقي أو المغاربي. وبصفته قوة اقتراحية، يدعو المعهد الملكي إلى ضرورة تعجيل المغرب باتخاذ موقع له لمرحلة ما بعد الأزمة لاعتبارات ثلاثة هي أن تدبير آثار الأزمة على المستوى الداخلي والإجراءات الاستعجالية والقرارات المتخذة على المدى المتوسط مترابطة في ما بينها، وبالتالي لا بد أن يتم تنفيذها بطريقة منسجمة وتكاملية، كما يلاحظ التقرير أن المغرب استشعر تداعيات الأزمة العالمية في وقت متأخر نسبيا مقارنة بشركائه الاقتصاديين الرئيسين، والتخوف هو من أن ينجح هؤلاء في الخروج من الأزمة وهو ما يزال يتخبط فيها. ويشير التقرير إلى أن الأزمة حلت في ظرفية وطنية تتميز بإطلاق المغرب لما وصفه ب«الورش الواعد» لتحقيق التنمية، بحيث بدأ في إقامة استراتيجيات قطاعية إرادية، والمطلوب الآن هو مراجعتها أو تسريع إيقاع تنفيذها تبعاً للآفاق التي تلوح حول مرحلة ما بعد الأزمة. ولهذا لا بد من المزاوجة في الوقت نفسه بين تدبير الأزمة والاستعداد لما بعدها، وذلك لمواصلة الدينامية التي تشهدها عجلة النمو، وإخراجها من حلقة الأزمة. والسبيل هو تقديم إجابات للمعطيات الظرفية وأخرى للإشكاليات الهيكلية، شريطة أن تكون إجابة جريئة وشمولية تستوعب كل مفاصل خريطة المخاطر المحتملة، والتعامل بذكاء فيما يخص تنفيذ الإجراءات المعتمدة واستغلال الموارد المتوفرة. تجدر الإشارة إلى أن التقرير الأول للمعهد الملكي للدراسات الاستراتيجية يقع في 68 صفحة، موزعة على أربعة محاور مع ملاحق وبيبلوغرافيا، ويتطرق المحور الأول لتأثيرات الأزمة المالية والاقتصادية العالمية على المغرب، والمحور الثاني للتطور المحتمل للأزمة على المغرب من حيث المخاطر الواجب التنبه إليها، والمحور الثالث هو العالم ما بعد الأزمة بين الاستمرارية والقطيعة، والمحور الرابع، هو الأكثر أهمية يتطرق للإشكاليات الهيكلية في الاقتصاد المغربي الواجب تسويتها، والتي أبرزتها الأزمة بقوة، وكذا الاستعداد لمرحلة ما بعد الأزمة.