نظمت وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، نهاية الأسبوع الفارط، الملتقى العالمي الثاني لسيدي شيكر، وهو ملتقى يحضره المنتسبون إلى التصوف بدعوة من الوزارة. والمقصود بهم شيوخ الطرق والزوايا الذين يقترحون من يحضر من أتباعهم من النساء والرجال؛ والهدف منه، كما تعلن الوزارة، هو إتاحة فرصة التعرف على المؤسسات الوريثة لفكرة التصوف والتعارف بين القائمين على هذه المؤسسات لإحياء وظائفها، وربط الصلة بين المنتسبين إلى التصوف داخل المغرب وخارجه. ولا شك أن هذا عمل جليل ومجهود يستحق التنويه، لو اقتصر على هذا الهدف، لأن من شأن نجاحه إحياء مكون أساس للهوية المغربية كان له دور بارز في تشكيل الشخصية والمجتمع المغربيين، ونقصد، بطبيعة الحال، التصوف الحقيقي الخالي من مظاهر البدع والسلبية والطرقية، خاصة وأن هذا المكون لحقه حيف كبير منذ تولى المدغري وزارة الأوقاف وشجع التيارات الوهابية لضرب الحركات الإسلامية، فأثر ذلك، بشكل غير مباشر، على انتشار التصوف مقابل انتشار طرقية طقوسية تقتصر على المواسم والهدايا والذبائح وغيرها من الطقوس المنفرة والبعيدة عن جوهر التصوف. لكن الأهداف الخفية لهذا الملتقى وغيره من الأنشطة الصوفية التي يتزايد عددها ويكثر الاحتفاء بها تجعلنا ندق ناقوس الخطر على ما يراد بالتصوف وما ينتظر الصوفية. ليس بريئا هذا الاهتمام الزائد بالتصوف والصوفية، وليس عاديا هذا الاكتشاف الحديث لمكون ثالث من مكونات الهوية الدينية للمغرب والمغاربة بعدما كان التركيز فقط على المذهب المالكي والعقيدة الأشعرية، وإن كان الوزير السابق المدغري يتحدث عن التصوف فإنه يطبعه بنفحة سلفية تحاول تحقيق تزاوج بين الوهابية والتصوف بينما الوزير الحالي نحا به نحو الطرقية. إن هذا الارتجال مرده بالأساس إلى افتقار الدولة إلى استراتيجية واضحة لتدبير «الحقل الديني» وهيكلته، وحرصها على توظيفه لما يخدم سياساتها ويقوي دعائم شرعيتها ومشروعيتها، ولذلك فهي تركز على مجال دون آخر وتؤول مضامينه وتقرب الفاعلين فيه حسب الظروف والمرحلة والمخاطَََب، ولنتذكر أن وزارة الأوقاف في زمن المدغري كانت تنظم ملتقيات شبيهة بملتقى سيدي شيكر، مثل مؤتمرات الصحوة الإسلامية التي كانت وسيلة لاحتواء وتسخير العديد من الفاعلين الدينيين لخدمة الأطروحة الرسمية للدولة بصفتها المحتكرة لتأويل النص الديني وتوظيفه. بدأت إرهاصات اهتمام الدولة الزائد بالتصوف بعد أحداث 11 شتنبر 2001 إثر تزايد اهتمام الدوائر الأمريكية به باعتباره وسيلة لمحاربة القاعدة وغيرها من التيارات الوهابية، فصدرت توصيات وتقارير ودراسات، من بينها ما قاله ستيفن شوارتز: «على الأمريكيين أن يتعلموا المزيد عن الصوفية، وأن يتعاملوا مع شيوخها ومريديها، وأن يتعرفوا على ميولها الأساسية، ويجب على أعضاء السلك الدبلوماسي الأمريكي في المدن الإسلامية أن يضعوا الصوفيين المحليين على قائمة زياراتهم الدورية»، ولذلك فليس مصادفة الاهتمام المبالغ فيه للسفير الأمريكي السابق بالبودشيشية وحضوره أنشطتها وزيارته لشيخ طريقتها. وفي نفس السياق، نشرت مجلة «يو إس نيوز آند وورلد ريبورت» الأمريكية تقريرا بعنوان «عقول وقلوب ودولارات»، جاء فيه: «يعتقد الاستراتيجيون الأمريكيون بشكل متزايد أن الحركة الصوفية قد تكون واحدًة من أفضل الأسلحة، ومن بين البنود المقترحة استخدام المعونة الأمريكية لترميم المزارات الصوفية في الخارج والحفاظ على مخطوطاتها الكلاسيكية التي تعود إلى القرون الوسطى وترجمتها، ودفع الحكومات إلى لتشجيع نهضة صوفية في بلادها». وتعبيرا عن حسن انخراطه في الحرب على الإرهاب ولوضع حد للخطر الوهابي المتنامي في المغرب، وخاصة بعد اكتشاف الخلية النائمة للقاعدة، تم تعيين أحمد التوفيق في نونبر 2002، وهو المعروف بانتمائه إلى البودشيشية، خلفا للمدغري المعروف بميوله السلفية. ثم وقعت تفجيرات 16 ماي 2003، فتداخلت الضغوط الخارجية مع الدوافع الداخلية لتسرع من وتيرة الاهتمام بالتصوف وتشجيع الصوفية مع رسم معالم حركتهم وحدود تصرفهم، وهذا ما نص عليه الملك في رسالته إلى المشاركين في الدورة الوطنية الأولى للقاء سيدي شيكر في 19/9/2008 التي رسمت حدود الفعل الصوفي في «التربية والتزكية وتهذيب النفوس والدفع بها إلى طلب السمو والاكتمال، وإشاعة العلم الشرعي، وبناء الشخصية المسِؤولة الفاضلة»، هذا على المستوى الفردي. أما على المستوى المجتمعي فدور التصوف ينحصر في «أعمال التضامن والتكافل، وحب الخير للغير، والحلم والتسامح ومخاطبة الوجدان والقلوب، بما ينفعها ويقومها»، والهدف واحد هو خدمة الدين والوطن.. وخدمة الوطن «تتمثل أساسا في القيام بالواجب نحو الإمامة العظمى، التي تمثلها إمارة المؤمنين، والحرص على خصوصيات المغرب الثقافية، حتى لا تضمحل تحت تأثير كل المشوشات الدخيلة». وهذا ما ظل الوزير التوفيق يردده باستمرار، مؤكدا على الأركان الأربعة للإسلام في المغرب: «إمارة المؤمنين، والمذهب المالكي، والعقيدة الأشعرية، والتصوف». ولا يخفى على قارئ لتاريخ المغرب، فأحرى دارسه ولا نظن الوزير التوفيق إلا كذلك، أن وظائف الصوفية كانت متعددة ومتنوعة ومتداخلة لا يمكن فصل بعضها عن بعض، وهي وظائف تربوية وسياسية واجتماعية وتعليمية، بل إنهم كانوا القاعدة الخلفية لكل حركة تغييرية، ولا نحتاج إلى أن نذكر بالدولة المرابطية التي انطلقت من زاوية، والموحدية التي ارتبطت بابن تومرت ذي المنزع الصوفي، والدولة السعدية التي انطلقت دعوتها من زاوية جزولية بالسوس الأقصى حتى قال عنهم المؤرخ الناصري إنهم لم يدخلوا دار الملك إلا من باب شيوخهم الجزوليين، وحتى العلويون أورد الإفراني أن ظهور دولتهم بشر به الإمام الصوفي ابن طاهر الحسني، وبقيت علاقتهم وطيدة بالزاوية التيجانية، وما دعاء ختم الدروس الحسنية بصلاة الفاتح إلا مثال على ذلك. وكذلك، فالصوفية ليسوا دائما محافظين كما يصور ذلك التوفيق، بل كانوا وراء أحداث سياسية سواء ضد المستعمر أو ضد كل حاكم مستبد. وهنا، يتضح أن التوفيق لا يختلف عن سلفه الذي راهن على سلفية مهادنة سرعان ما تحولت إلى جهادية، فكان أن عضت اليد التي رعتها واحتضنتها، وليست هناك ضمانة لعدم تكرار نفس السيناريو. وربما ضمانة السيد التوفيق أنه يراهن على زاويته البودشيشية التي تعرف انتشارا ودعما، وهذا ما يفسر خروج الزاوية، بين الفينة والأخرى، بمواقف سياسية غريبة عن المألوف عنها. إن سياسة الوزير التوفيق ليست جديدة وغير مضمونة النتائج وتثير فرقة وسط الزوايا وتبعد التصوف عن حقيقته وتورط الصوفية في قضايا لا قبل لهم بها؛ وطيلة مساره راكم التوفيق العديد من الأخطاء في هذا المجال، منها انخراطه في الاستجابة للمخططات الأمريكية حين جلب خبيرا أمريكيا يعلم المغاربة دينهم، وانتصاره لطريقته على حساب الطرق الأخرى، ومساهمته في تهجين الطرق الصوفية وإفراغها من عمقها، والزج بها في حرب خاسرة ضد الحركات الإسلامية والسلفية. كل هذه أسباب موضوعية تنضاف إليها أمور ذاتية مرتبطة بشخصية الوزير غير المحايدة وغير التواصلية وهو المفروض فيه الورع واتقاء الشبهات لأنه أعرف من غيره بالمأثور عن الصوفية في هذا الباب. هذه كلها أخطاء وترقيعات تؤدي إلى نتيجة واحدة: إن البلاد بحاجة إلى استراتيجية واضحة لتدبير وهيكلة «الحقل الديني» تنطلق من إعادة الاعتبار لفهم صحيح للإسلام بعيدا عن الصراعات التاريخية التي فرقت الأمة إلى سنة ضد شيعة، وصوفية ضد سلفية.