بعيدا عن بلده الأم إنجلترا، حل والتر هاريس ابن إحدى العائلات البريطانية الغنية بالمغرب في القرن التاسع عشر، وسافر في ربوعه وتعرف على عادات المغاربة وتقاليدهم. بعد سنوات من استقراره في طنجة، تعرض هاريس للاختطاف وسقط في أيدي رجال مولاي أحمد الريسوني، الرجل القوي في طنجة الشهير بكونه قاطع طريق وجبارا ومختطفا. نشر هاريس فصول قصة اختطافه، ولقائه بالسلطان مولاي الحسن وحياة القصور الفخمة بأسلوبه الساخر الممزوج بالطرافة في كتابه «المغرب المنقرض» الذي تنشره «المساء» هذا الصيف على مدى حلقات... فكر وزراء السلطان الشاب مولاي عبد العزيز في إيجاد صيغة توفر لهم هامشا من الحرية في تسيير شؤون الدولة وتقليص نفوذ الملك. لتحقيق هذا المسعى، كان من الضروري إيجاد شيء يشغل بال الملك عديم التجربة الذي ظل بعيدا عن تسيير المجلس الوزاري، مما يعني الخروج عن العادات المغربية، ولم يعش أي سلطان من قبل هذا الوضع الاستثنائي. أدرك الوزراء أن نفوذهم لا يتمثل فقط في حبس الملك داخل القصر لأنه قادر على الثورة على عزلته، وقد يلقي عليهم القبض ويعذبهم. سحبوا إذن هذا السيناريو من مخططهم، وأجمعوا على أن السلطان بحاجة إلى ترفيه بشكل يجعله يصرف الاهتمام عن تسيير البلاد. المغرب لوحده غير قادر على توفير كل مصادر الترفيه الضرورية، وكل ما يمكن أن يرفه عن السلطان موجود في البلاد، فلديه النساء والمجوهرات والأحصنة وكل ما يحصل عليه أي سلطان شرقي. وللحصول على أشياء أكثر أناقة، كان من الضروري التواصل مع الأوروبيين للحصول عليها، وكان الأمر مقصودا لأنها كانت بداية السقوط. خطوة كهذه تعني تراكم الديون الخارجية وجر المغرب شيئا فشيئا إلى فقدان استقلاله. كان وجود مستشار كفء كفيلا بتجنيب المغرب هذا السيناريو، لأن عبد العزيز يفتقر إلى ملكات حكم وتسيير البلاد ولم تكن لديه الرغبة في الحكم رغم أنه كان ذكيا وذا تفكير عميق ويحب أن يتقن كل ما يقوم به. لم يكن إذن من السهل أن يتم تمديد التسلية التي ظل يتمتع بها السلطان بمدينة مراكش، البعيدة عن طنجة بمائة ميل، وتواصلها مع أوروبا كان بطيئا مما يجعل البضائع والشحنات تصل متأخرة نظرا لطول المسافة. وفي بعض الأحيان تجبر العواصف الأطلسية السفن على تأخير رحلاتها لعدة أسابيع. حققت مصادر اللهو الهدف المرجو منها وبدأ التفكير في وسائل لهو جديدة، بعد أن استمتع السلطان بالألعاب النارية والدراجات وكاميرات التصوير. في تلك الأثناء، تواردت أنباء عن وصول سيرك إلى أحد الموانئ المغربية الصغيرة، وهو ما يعني أنه ليس سوى سيرك أوربي بئيس، لكنه حظي باستقبال شعبي كبير كما لو أنه السيرك الشهير «بارنوم». بعث خدام القصر رسائل ملكية إلى القياد والولاة لدعوة السيرك، وقطع «الرقاصون» من كافة الاتجاهات مئات الأميال، ليتم استقدام السيرك ببضائعه وممثليه الاثني عشر وخيوله قاطعين السهول والتلال استجابة للدعوة الملكية. وكثر الحديث في البلاد عن وصول هذا السيرك واستأثر باهتمام الناس. تركز الاهتمام على هؤلاء الضيوف وتحولت صراعات القبائل وتربص القوى الأوروبية بالمغرب إلى مسائل تحتل المستوى الثاني من اهتمام القصر. كانت صاحبة السيرك سيدة إسبانية شديدة البدانة وضخمة الجثة، ويبدو من الصعب التكهن بسنها، وتثاقلت خطوات البغلة التي كانت تحملها وتحملت عناء هذه الرحلة الطويلة المتعبة. لم يكن لهذه السيدة أي حضور في العروض التي قدمتها المجموعة، ولهذا السبب منعها الحراس من الدخول إلى القصر، واستشاطت غضبا فور سماعها بقرار منعها مرافقة الفرقة لتقديم العروض أمام السلطان. واقتضت أوامر صاحب الجلالة على أن الدخول مقتصر فقط على الممثلين دون سواهم. وتنفيذا لهذا الأمر، بقيت السيدة البدينة واثنان من عمال السيرك خارج الجهة المقابلة التي كان يجلس فيها السلطان في خيمته الواسعة ليشاهد العروض، ويفصل بينهما حائط ارتفاعه عشرون قدما. تناثرت الحجارة المستخدمة في إصلاح مرافق القصر وبقايا مواد البناء في المكان الذي كانت تجلس فيه السيدة الاسبانية، وناهز ارتفاعها وهي مكدسة الجدار الفاصل بين الساحتين. مع مرور الوقت وتزايد حنق السيدة، بدأ الملل يتسلل إليها رغم أنها لم تتوقف عن مشاهدة مجموعة من الغزلان وقطيعا من الماعز البري وهي تسير في الحديقة. لم تتحمل صاحبة السيرك أن تقطع كل هذه المسافة وتتحمل كل المشاق لكي يتم منعها في النهاية من مشاهدة العروض في حضور السلطان، لتخطر فجأة ببالها فكرة تكديس الحجارة ومواد البناء أمام الحائط. كان الأمر شاقا عليها لأنها لم تتعود على القيام بهذا الجهد، لكنها تلقت مساعدة لم تكن تتوقعها.. علا توترها بسبب بطء ما كانت تقوم به، ليقفز إلى جانبها أيل ذكر، استدرجته بهدوء نحوها ودفعته في مواجهة الجدار ليساعدها على تسلقه. في الجهة المقابلة من الجدار، ظل السلطان مستمتعا بالعروض المقدمة أمامه، وفجأة تغيرت ملامحه دون أن ينبس بأي كلمة وعيناه مصوبتان نحو الحائط الممتد أمامه..