فيليبي غونزاليث ماركيث، اسم صنع الانتقال الديمقراطي في إسبانيا وأخرجها من النفق الذي عاشت فيه طيلة عقود طويلة، فقصته لا تعدو كونها قصة ابن بائع الحليب الذي ولد في مدينة إشبيلية وبها تربى، مقسما وقته بين الدراسة التي لم يكن لامعا فيها وقيادة شاحنة العائلة لجمع الحليب من صغار المزارعين، بل كان يأتي إلى الجامعة وسترته التي تحمل بقع الحليب تدل على عمله، لكن ذكاءه وقوة شخصيته سيجعلانه يلمع مثل نجم صغير سيكبر مع الوقت ليتحول إلى رمز للديموقراطية في العالم بأسره. إنها تفاصيل حياة تبدو عادية لرجل غير عادي. كان لذهاب أرياس نبارو من رئاسة الحكومة و مجيء أدولفو سواريث مكانه في صيف عام 1976 وقعه الإيجابي، الذي سيدفع بعجلة التغيير بسرعة أكبر، وهو ما تم التعبير عنه في أول اجتماع وزاري عقب تعيين الحكومة، حيث تم التعهد بتنظيم انتخابات حرة في عام 1977 وتم الإعلان عن عفو شامل في الأيام القليلة الموالية، وبعد ذلك أعلنت التنسيقية الديمقراطية عن انتقادها لمحدودية العفو، بيد أنها أشارت إلى أن ذلك يشكل خطوة تاريخية على درب الانفراج السياسي في البلاد، وفي اليوم الموالي جرى أول لقاء بين غونزاليث وأدلفو سواريث، وهو اللقاء الذي عبر خلاله رئيس الحكومة الجديد عن رغبة الملك خوان كارلوس ورغبته الشخصية في دمقرطة البلاد، وكان التفاهم بين الطرفين خلال اللقاء الأول مطلقا، وبدأ غونزاليث في الاقتناع تماما بأن الحديث السابق عن قطيعة ديمقراطية أمر غير ممكن التحقق، وهو الأمر الذي لم تكن جميع القطاعات لتقبل به. فأولئك الذين كانوا مقتنعين أنه من الضروري التوصل إلى اتفاق مع القطاعات الإصلاحية للنظام بهدف تحقيق الديمقراطية في نهاية المطاف، لم يكن في صالحهم الدخول في مواجهة مع المعارضين لأي مفاوضات مع سواريث. وتدريجيا، فإن كل ألوان الطيف في المعارضة باستثناء أقصى اليسار، استوعبت أنه يجب إجراء مفاوضات، لكن دون أن يعني ذلك التوقيع على شيك أبيض لسواريث، لذلك كان ضروريا قبل رسم معالم الانتقال الديمقراطي بشكل نهائي أن يتم إظهار الدور الذي يمكن أن تقوم به المعارضة في هذا المسلسل، وتماشيا مع هذا المطلب دعت تنسيقية التنظيمات النقابية إلى إضراب عام يوم 12 نونبر 1976 احتجاجا على تدهور مستوى المعيشة و معاكسة الإجراءات التي تم اتخاذها من طرف الحكومة، فالمؤكد أن حياة العمال تدهورت بسبب الأزمة الاقتصادية الناتجة عن الأزمة البترولية الخانقة التي عاش على إيقاعها العالم عام 1973، وكان الأكثر تعرضا للبطالة هم مناضلو اللجان العمالية والذين تحركوا تحت تأثير من الحزب الشيوعي، وشحذ ادلفو سواريث عزائمه من أجل إفشال الإضراب، لأن النقاش حول قانون الإصلاح السياسي كان سيبدأ على بعد أربعة أيام، و لم يكن ممكنا إعطاء الانطباع بأن الحكومة توجد في موقف ضعف، وكان الإضراب فشلا ذريعا بالنسبة للشيوعيين وانتهى باعتقال عدد من المضربين تم الإفراج عنهم بعد أيام قليلة. وبعد التأكد من ضبطها للتطورات، قامت حكومة سواريث بمنح الترخيص للحزب الاشتراكي الإسباني من أجل عقد مؤتمره خلال الأسبوع الأول من دجنبر 1976 بحضور أبرز القادة الاشتراكيين الأوروبيين، وكانت المقررات التي خرج بها المؤتمر لا تخلو من نفحات يسارية تذكر بأن الحزب يدافع عن الطبقات والجماهير وأنه ماركسي وديموقراطي... ويدافع عن الديمقراطيين الاجتماعيين باعتبار لبديمقراطيةتصحيحا للمظاهر المتوحشة للرأسمالية، ويقدم البديل في إرساء أسس مجتمع بدون طبقات عبر التأميم وتغيير بنيات المقاولات و سيادة العمال. وساهم هذا في تقوية حضور الصورة العمومية لفيليبي غونزاليث ودوره كرجل دولة تعامل معه الزعماء الأوربيون على أساس أنه واحد منهم، وهذا ما دعمه باعتباره ناطقا باسم المعارضة أمام سواريث. وخلال تلك الفترة، استطاع سواريث بدوره أن يتجاوز مشكلة المصداقية بعد الاستفتاء الذي حصل فيه على 77 في المائة من الأصوات الموافقة على قانون الإصلاح السياسي، الذي عرضه للتصويت الشعبي، فيما امتنع عن المشاركة حوالي 22 في المائة وصوت ب «لا» واحد في المائة من الناخبين، وصار وجود رئيس الحكومة في منصبه شرعيا بشكل مطلق، مما اضطر المعارضة إلى تشكيل تجمع حزبي عرف باللجنة التاسعة مكلفة بالتفاوض حول سبل وتوقيت مسلسل دمقرطة البلاد، ولكي تكون فعالة كان في واجهة اللجنة غونزاليث وكانياس وخواريغي. وستفي الحكومة بوعودها الديمقراطية عبر منح الشرعية تقريبا لجميع الاحزاب السياسية في البلاد في شهر فبراير 1977، وبعدها بحوالي شهر تم الإعلان عن عفو شبه شامل، وكلمتا «تقريبا» و«شبه» كانت تترك المجال هنا للمراقبة الحكومية. وفي ماي 1977، استقبل الملك خوان كارلوس فيليبي غونزاليث لأول مرة وانتقل النقاش بينهما من البروتوكولات إلى المسائل الجوهرية، بعدما وجه الملك السؤال إلى غونزاليث: لماذا الحزب الاشتراكي جمهوري؟ فأجابه غونزاليث مهدئا أن حزبه لا يفكر في وضع الملكية موضع نقاش، وأنه منذ الثلاثينيات من القرن العشرين كان الحزب الاشتراكي في إسكندينافيا والملكية يعيشان في توافق. وكان هذا اللقاء مهما لأنه مهد الطريق أمام إجراء الانتخابات التشريعية في يونيو 1977 دون عوائق كثيرة.