موسم العبور بدأ منذ أزيد من أسبوعين، وميناء طنجة لا تزال الحركة داخله مترنحة، فلا هي بالحركة الضعيفة التي يعيشها الميناء طوال العام، ولا هي بالحركة النشيطة التي يعرفها الميناء في كل عملية عبور. لكن المهم هو أن عبور هذا العام عبور مختلف، والناس خلاله ينتظرون عبور المهاجرين، وأيضا عبور ذلك المرض الغريب الأطوار الذي اسمه «أنفلونزا الخنازير». في الوقت الذي تم فيه ضبط حالات إصابة في كل موانئ ومطارات العالم تقريبا، فإن ميناء طنجة لم تظهر فيه إلى حد الآن أية حالة من حالات الحمى الخنزيرية، تماما مثلما هو الحال في مطار طنجة. والحالة المشتبهة الوحيدة التي ظهرت في طنجة كانت لامرأة تطوعت من تلقاء نفسها لكي تجري اختبارا على حالتها الصحية، وتم إيداعها قبل عدة أيام مستشفى دوق دو طوفار، حيث أجريت لها التحاليل اللازمة، لكنها غادرت المستشفى بعد ذلك بعد أن أثبتت التحاليل أنها غير مصابة. هذه المرأة كانت دخلت المغرب قبل أزيد من أسبوعين عبر مطار محمد الخامس بالدار البيضاء، وبعد ذلك زارت عددا من أقربائها يقيمون في طنجة، وأحست بعد ذلك بأعراض حمى غير طبيعية فسلمت نفسها للمصالح الطبية، خصوصا وأنها تقيم في كندا، حيث مات العديد من المصابين وأصيب المئات. الأنفلونزا لا تخيفنا خلال الأسابيع المقبلة، ستكون طنجة على موعد مع تحد كبير، لأنها ستستقبل أزيد من مليوني مهاجر مغربي بالخارج، وأغلبهم سيأتون عبر الميناء، انطلاقا من الأراضي الإسبانية، وآخرون سيدخلون عبر مطار ابن بطوطة، فيما سيأتي آخرون عبر ميناء سبتة المجاور. في ميناء طنجة لا يبدو الناس منشغلين كثيرا بعبور أنفلونزا الخنازير، الناس هناك يريدون فقط أن تنتعش عملية العبور سواء كانت مرفوقة بالخنزير أم لا، أصحاب محالات الساندويتشات وحراس مستودعات السيارات والشباب الذين يملؤون أوراق السفر والمرشدون السياحيون وسائقو سيارات الأجرة والهائمون على وجوههم والمحتالون والمتسولون يتفقون على شيء واحد، وهو أن لا أحد يلقي بالا لهذه «الأنفلونزا» التي شغلت الناس كثيرا قبل بضعة أشهر، لكنها لم تعد تخيفهم حاليا. في مستودع للسيارات بالميناء يعبّر أحد الحراس عن استيائه بطريقته الخاصة لأنه منشغل كثيرا بلقمة العيش وليس بمخاطر الأنفلونزا. «أنا أحرس السيارات في هذا المستودع، لكن آخرين يزاحمونني هنا، ما شأن رجل الأمن أو أحد أفراد السيكوريتي بمستودع السيارات؟. إن رجل الأمن عنده أجرته الشهرية، والعامل في شركة «السيكوريتي» له أجرته أيضا، وأنا لا أجرة لي إلا هذا العمل، لماذا إذن يزاحمونني في عملي»، يقول الرجل غاضبا وهو يتمنى أن يأتي المزيد من المسافرين من أوربا خلال الأيام المقبلة». والأنفلونزا؟ آش من أنفلونزا؟، يرد الرجل مستغربا. سياح وأناس بلا معنى ينزل من حافلة تتوقف في الميناء سياح يتحدثون لغات غريبة. يقول مرشد سياحي إنهم يتحدثون بلغات أوربا الشرقية، وإنهم سياح بلا معنى ولا فائدة لأنهم يأكلون كاسكروط بخمسة دراهم في وسط المدينة ويجلسون على الأرصفة عوض كراسي المقاهي ويدخلون البازارات للتنزه فقط. إنها الأجيال الجديدة من السياح الذين أصبحوا يزورون المغرب. بعد ذلك أتى فوج آخر من السياح الإسبان، عدد منهم يرتدون طرابيش حمراء تثير الضحك، إنها بالنسبة إليهم الدليل الوحيد على أنهم زاروا المغرب. الإسبان يتكلمون بصوت مرتفع ويتناقشون وكأنهم سيدخلون في عراك قريب. أحد باعة التحف السياحية قرب محطة السفر يستهلك الكثير من طاقته وهو يحاول إقناع السياح المغادرين بشراء بضاعته. بالكاد ينتبهون إليه. في محطة المسافرين بالميناء هناك خليط من الناس. أشخاص كثيرون دخلوا الميناء بشكل من الأشكال رغم إجراءات الدخول المشددة، ورغم أنه توجد ثلاثة حواجز أمنية تجعل دخول قط أمرا صعبا، لكن في النهاية تجد أن أناسا دخلوا فقط لكي يتملوا بمنظر وصول البواخر إلى الأرصفة، وهؤلاء كلهم في الغالب من قرى ومدن بعيدة عن طنجة، وبعيدة عن البحر أيضا، لذلك فإن وصول أول باخرة يجعلهم ينظرون إليها وكأنهم ينظرون إلى صحن عملاق قادم من الفضاء. هناك مسافرون يخرجون من البواخر مباشرة إلى الجمارك عبر سياراتهم، وهؤلاء يتم التأكد من خلوهم من أنفلونزا الخنازير عبر أجهزة رصد الحرارة الموجودة في الباخرة. في الواقع فإن أجهزة رصد حرارة الجسم لا تهم هؤلاء، بل ما يهمهم أكثر هو أجهزة رصد أمتعتهم، وأيضا طريقة تعامل الجمارك معهم. هناك سيارات صغيرة تأتي محملة بعدد معقول من الأمتعة، وهؤلاء يطمحون فقط إلى العبور في أقل وقت ممكن. ويقول رشيد، القادم من بلجيكا، إنه سمع قبل وصوله أن هناك كاميرات نصبت في الميناء من أجل رصد المضايقات التي يتعرض لها المهاجرون القادمون من الخارج، وأن هذه المضايقات غالبا ما يكون مصدرها أفراد من الأمن أو الجمارك، أو حتى موظفون بلا أية مهمة، وهؤلاء هم الذين يثيرون الكثير من الريبة. لا يبدو رشيد منشغلا بقضية الأنفلونزا، وكل ما يهمه هو عبور الميناء في أسرع وقت والوصول إلى منزل عائلته. «أكيد أن أسرتي لن تضع لي في باب المنزل جهازا لرصد حرارتي، وستحتضنني بالعناق والقبل حتى لو كنت مريضا». سيارات تحمل خردة أوربا الذين يتوجهون راجلين نحو محطة الخروج يجدون في استقبالهم ثلاثة أجهزة لرصد الحرارة. عشرات المسافرين يمرون من دون أن يشتعل المصباح الأحمر، وهو مصباح الخطر. قرب الأجهزة رجل طويل القامة بظهر منحن قليلا وهو يدخن بشراهة. إنه المسؤول الطبي في الميناء الذي لا يفارق هذه الأجهزة في محاولة للقبض على أول مصاب بالأنفلونزا. لا يعرف هذا الرجل أن تلك السجائر الكثيرة التي يدخنها وهو واقف قرب هذه الأجهزة تفوق في خطورتها كل خنازير العالم مجتمعة. قرب أجهزة رصد الحرارة توجد أجهزة رصد أمتعة المسافرين. «ديوانيتان» وقفتا للتو لاستقبال المسافرين، أو بالأحرى استقبال أمتعة المسافرين. المسافرون يمررون أمتعتهم عبر جهاز سكانير من دون حاجة إلى فتح الحقائب. أحيانا يسعدون بذلك ويرسمون على وجوههم ابتسامة عريضة وكأنهم لم يكونوا يتوقعون هذا الاستقبال المريح، وأحيانا يتم إيقاف مسافر أو أكثر حين تثير أمتعته بعض الشبهات. هناك سيارات تنزل من البواخر وكأنها أفرغت أوربا مما فيها. نزلت سيارة فارغونيط صفراء وعلى ظهرها أمتعة كافية لملء متاجر سوق متوسط. السيارة تسير مائلة وبصعوبة. يبدو أن صاحبها فكك جبلا في أوربا وحمله معه إلى المغرب. لو أراد أفراد الجمارك والأمن تفتيش هذه السيارة فسيحتاجون إلى ثلاثة أيام. لكن تكفي نظرة هنا ونظرة هناك.. فابتسامة.. فسلام.. فكلام..، ثم تغادر السيارة الثقيلة الميناء لتفرغ حمولتها العجيبة في أسواق الخردة. حمولات السيارات القادمة في موسم العبور تثير الضحك والحنق في آن. يقول شاب يعمل في ملء أوراق المسافرين بالميناء «لم يعد الكثير من عمالنا بالخارج يأتون بالهدايا إلى عائلاتهم كما كانوا في السابق. في الماضي كانوا يحملون الملابس والمواد الغذائية الغالية إلى أقاربهم، أما اليوم إذا قدموا لأهلهم قطعة شوكولاته فذلك إنجاز كبير». كلام هذا الشاب يجد صداه في هذه الأسواق الصيفية العشوائية التي تفتح في كل مدن وقرى المغرب. عشرات المهاجرين يتحولون في كل عطلة صيف إلى باعة يفترشون أرصفة الشوارع والأسواق ويبيعون «بضاعتهم الثمينة» التي جاؤوا بها من الخارج. أحذية مستعملة، مصابيح محترقة، ثلاجات ما بعد الحرب العالمية الثانية، الجيل الأول من الهواتف المحمولة، ملابس داخلية رثة، لعب للأطفال بما فيها دمى بلا أيدي ولا أرجل، قناني عطر زجاجية فارغة، أسلاك كهربائية بلا معنى.. وأشياء كثيرة أخرى. يحار المرء أحيانا في فهم لماذا يحمل هؤلاء كل هذه الخردة نحو المغرب، وكيف يحمل مهاجر معه ثلاجة عجوزا لبيعها في بلاده في الوقت الذي يمكن لأي مغربي أن يحصل على ثلاجة رائعة بتقسيط مريح. العيد.. والعقوبة يقول محمد، وهو عامل بإحدى وكالات الأسفار في ميناء طنجة، إن الأزمة المالية العالمية لا دخل لها إطلاقا في حمل مهاجرين مغاربة لأطنان السلع فوق سياراتهم، لأنهم يفعلون ذلك منذ سنوات طويلة، وخصوصا مع الأجيال الجديدة من المهاجرين، والذين أصبحوا يتنقلون باستمرار بين المغرب وأوربا لحمل قمامة الأوربيين إلى المغاربة. هناك تفسير آخر يقدمه مرشد سياحي قضى في هذا الميناء أزيد من 25 عاما، وهو يعتبر بمثابة «ترمومتر حقيقي» لمواسم عبور المهاجرين منذ أوائل الثمانينيات وإلى اليوم. «في الماضي كان موسم عودة المهاجرين المغاربة بالخارج يشبه عيدا لهم ولعائلاتهم، واليوم يشبه ذلك عقوبة لهم ولعائلاتهم. أوروبا اليوم ليست هي أوربا الأمس، وكثيرون في المغرب يحمدون الله لأنهم لم يهاجروا لكي «يتكرفسوا» هناك». ويضيف هذا الرجل، الذي ينقل بصره بين الفينة والأخرى بحثا عن سياح في حاجة لدليل سياحي، «سيأتي مهاجرون أقل هذا العام لأنهم لا يملكون المال لصرفه على أنفسهم وعلى عائلاتهم، وكثيرون من الذين سيأتون سيفعلون ذلك هربا من البطالة والمصاريف في أوروبا، ويفضلون الاختباء بين الأهل والعائلة». ولا ينسى الرجل أن يتنهد باعتدال ويقول «في سنوات الثمانينيات، كنت أرى علامات السعادة الطافحة على وجوه المهاجرين القادمين إلى المغرب، وأيضا علامات الرفاهية، وكثيرا ما كانوا ينفحوننا هدايا حتى دون أن نطلب ذلك، لكن اليوم تغير الحال، وهذا هو السبب الذي يجعل أجهزة السكانير في الميناء تكتشف عددا قياسيا من محاولات تهريب الحشيش خلال عملية الرجوع إلى أوربا نهاية الصيف، لأن الكثير من الشباب يجدون في العشبة الخضراء وسيلتهم الوحيدة لمقاومة الأزمة المالية العالمية». الأزمة المالية وحلول رمضان في عز الصيف ستغير أجندة الكثير من المهاجرين عملية العبور لهذا العام تجري تحت شعار «بلادي.. عنواني»، وهو شعار ملتبس قليلا، لكن الذين وضعوه ربما يكونوا قد وجدوا فيه بعضا من لمسات الإبداع. عملية العبور بدأت رسميا في 15 يونيو، وعلى الرغم من أن عملية العبور لا تبدأ بشكل فعلي إلا في الأيام الأولى لشهر يوليوز، بالنظر إلى أنه في هذه الفترة تبدأ العطلات رسميا، إلا أن الاحتفاء بعملية العبور يبدأ في منتصف يونيو من أجل الاستعداد المبكر لاستقبال أزيد من مليوني مهاجر يعودون إلى المغرب كل صيف برا وبحرا وجوا، وهي واحدة من أكثر أنشطة السفر كثافة في العالم. لكن عملية العبور لهذا العام تتميز بطارئين أساسيين، الطارئ الأول هو الأزمة المالية العالمية، والتي ستؤثر كثيرا على عودة مئات الآلاف من المهاجرين المغاربة في الخارج، والذين يعاني الكثيرون منهم من البطالة وضيق ذات اليد لذلك يفضلون البقاء حيث هم تجنبا لمصاريف إضافية. والطارئ الثاني هو أن شهر رمضان سيحل هذا العام في قلب الصيف، حيث يرتقب أن يكون أول أيام رمضان المبارك في الثاني والعشرين من شهر غشت المقبل، وهو ما يطرح تغييرا جذريا على تحرك الكثير من المهاجرين المغاربة في أوربا. وصول رمضان في قلب الصيف سيجعل الكثيرين يفضلون تأجيل عودتهم إلى المغرب حتى بداية هذا الشهر، خصوصا وأن الكثير من مغاربة الخارج تعودوا منذ سنوات على العودة إلى المغرب كل رمضان من أجل الاستمتاع بطقوسه المتميزة في بلادهم، خصوصا المغاربة الموجودين في إسبانيا، والذين يسمح لهم القرب الجغرافي بالتوجه إلى المغرب لقضاء رمضان مختلف عن الذي يعيشونه في إسبانيا، التي لا تزال حديثة عهد بالهجرة المكثفة نحوها، عكس بلدان أوربية أخرى مثل فرنساوبلجيكا وهولندا، والتي تتشابه فيها أجواء رمضان مع الأجواء المغربية. وعموما، وحسب الأرقام التي كشف عنها المسؤولون عن عملية عبور «مرحبا 2009»، فإنه بالإضافة إلى المليوني مهاجر، فإن 500 ألف سيارة ستدخل المغرب في الأسابيع المقبلة، وهو ما جعل ميناء الجزيرة الخضراء الإسباني يخصص مساحات شاسعة لتوقف السيارات، من بينها 25 ألف متر مربع من المناطق المظللة، بالإضافة إلى مرافق أخرى كثيرة ومتنوعة. عملية العبور تتم عادة عبر عدة نقاط ما بين المغرب وأوربا، لكن الأغلبية المطلقة يفوز بها ميناء طنجة، والذي دخل خلال السنوات الأخيرة في منافسة شرسة مع ميناء سبتة فيما يخص أعداد المسافرين. وربما يربح ميناء سبتة النقاط سنة بعد أخرى بفضل التنظيم الكبير في مرافقه، عكس ميناء طنجة، الذي رغم كل المجهود الذي يبذل، فإن علامات العشوائية والفوضى تظل مهيمنة عليه في كل عملية عبور.