- ما حكاية شغفك بالمغرب باعتبارك مؤرخا وباحثا؟ < اكتشفت المغرب «من الأسفل» كسائح وطالب أواسط الثمانينيات، خلال سنوات الرصاص؛ ومنذ ذلك التاريخ واظبت على زيارة هذا البلد والاشتغال عليه. كما أنني لا أنسى ما عرفته عنه في تلك الفترة (خوف المغاربة، والأبنية الأرضية لعمارات مدينة مراكش، والقطار بين باريس والرباط الذي تستغرق الرحلة فيه 53 ساعة، وحافلات الأطلس المتوسط، وتفتيشات الجمارك، إلخ). وانطلاقا من سنة 1996، أعدت اكتشاف المغرب «من فوق» كأستاذ في ثانوية ديكارت. اكتشفت عالما آخر. وقد كان من «حسن حظي» أن عشت الفترة الانتقالية بين سنتي 1998 و2002. جميع هذه الأشياء تترك لدى المرء الكثير من مشاعر الصداقة والكثير من الانطباعات والذكريات. - تحدثت في كتابك «المغرب الانتقالي»، الذي نشر سنة 2001، عن التغييرات، بل التحولات التي وقعت على عهد محمد السادس. وفي كتابك الجديد تعطي الانطباع بأنك غير راض عما تحقق. ما هي الأشياء التي لم تكتمل في نظرك؟ < قبل ذلك كتبت في العام 2004 كتاب: «المغرب العربي: الديمقراطية المستحيلة؟»، الذي غالبا ما ظل متواريا في الخلف، لأنه يراد للمغرب أن يعيش أشياءه الخاصة به. الأمر صحيح وخاطئ في الوقت نفسه، لأن المجتمع المغربي، بالرغم من خصوصياته، يعيش ما تعيشه بقية مجتمعات شمال إفريقيا والعالم العربي. لقد أعاد المغرب اكتشاف نوع من حرية التعبير ببطء، ثم عاش نهاية عهد الخوف بداية من منتصف التسعينيات. بعد ذلك، جاءت سنتا الجنون، 1999 و2000 (التي تحدث خلالها عبد الرحمان اليوسفي عن «ماي 68 في الأسبوع»). كان شيئا خاصا به. لكن المغرب أعاد الاتصال بالحقيقة المعيشة وعاد إلى التساؤلات وثقل المشاكل التي يقتسمها مع مجتمعات أخرى. الملك نفسه قال في حديث له، حوالي سنة 2000، إنه لا يملك عصا سحرية لتغيير الأوضاع. - في خضم المسلسل الانتقالي، هل يمكن الحديث عن قطيعة مع الملكية الحسنية؟ < مما لا شك فيه أن هنالك قطيعة على مستوى الشكل؛ لكن الأمر ليس بنفس درجة اليقينية. لقد اشتغلت كثيرا على عدد من الشخصيات والشبكات وبنيات السلطة التي تحكم البلاد والمجتمع والاقتصاد، ووجدت أنه مقابل التقدم الملموس على مستوى الوجوه الجديدة في الأنتلجنسيا المغربية، هنالك تقدم بطيء لميكانيزمات السلطة. وهناك العديد من الأمثلة عن حالات الاستمرارية التي تعوق القطيعة. والقطيعة الحقيقية تتجلى في رؤية المجتمع، فالقصر ينظر، اليوم، بارتياح أكبر إلى حالات الانسداد الاجتماعية والقصور الحاصل على المستوى الاجتماعي؛ كما أنه بات أكثر وعيا بما هو ضروري للحفاظ على مكانة البلد ضمن حركية عولمة المعلومة والصورة. فقد أصبح من اللازم اليوم البرهنة على حسن الإرادة أمام العالم وإخفاء الأمور الخاصة البسيطة. - تتحدث في كتابك عن «مخزن تقنوقراطي»، أية حدود لمعنى هذا العبارة؟ < بعد استلامه الحكم، أعطى الحسن الثاني الأولوية للمخزن العسكري، ثم للمخزن السياسي. مستشاروه كانوا من كبار خبراء التكتيك السياسي (على المستوى الوطني والدولي معا) ومن أهم ركائز التاريخ المغربي. إلا أن الأمور بدأت تتغير خلال التسعينيات عندما أدرك الحسن الثاني أن سنة 1989 تفتح الطريق أمام المنافسة الاقتصادية العالمية (أو العولمة). وأحاط نفسه بمستشارين جدد (أندري أزولاي، مزيان بلفقيه...) الذين أسهموا في انبثاق شباب تقنوقراط. هذه الطبقة هي التي تتحكم في أوصال البلاد وفي اقتصاده. هؤلاء الأخصائيون، الذين يتمتعون بكفاءة عالية في مجالات اشتغالهم (الصناعة والتجارة والأبناك وعالم المال)، يعتبرون أن البنية التقنوقراطية ينبغي أن تحل محل الطبقة السياسة التي ثبت فشلها. فهم يرون أن النمو قادر على حل المشاكل السياسية والاجتماعية موازاة مع الحفاظ على أسبقية التحكم في الأمور. هذا هو «المخزن التقنوقراطي» المسنود من قبل الملك. - ماهي العوامل الذاتية للانسداد والجمود في مغرب اليوم؟ < النفق المسدود الذي وصلت إليه السياسة مقارنة بالاقتصاد يشكل واحدا من هذه العوامل (خلال الانتخابات الأخيرة لم يصوت إلا 7 ملايين ناخب من أصل 32 مليون نسمة). يمكن، كذلك، أن نتكلم عن القضية الاجتماعية بما أن النخب تستحوذ، بشكل غير متوازن، على السلطة الاقتصادية والسياسية. لكنني أعتبر أن العوامل الأساسية لهذا الانسداد ذات طبيعة ثقافية ودينية. فقضية اللغة قضية مهمة بما أنها، في الوضع الحالي، تمنع القيام بإصلاح فعال للتعليم في المدارس والجامعات. فمجتمع المعرفة يفترض وجود مدرسة فعالة، وهو ما لا يتوفر بالمغرب. والجميع يعرف ذلك. فضلا عن ذلك، فالطريقة التي استغل بها الدين في المغرب منذ السبعينيات (من قبل النظام أو من قبل دول أو جماعات أجنبية) أعطى أهمية كبيرة للقضية الدينية، التي أصبحت هي الأخرى، في نهاية المطاف، عاملا من العوامل الذاتية التي تسببت في ذلك الانسداد. الدولة مدركة لهذا الأمر بما أنها غيرت سياستها قبل سنوات قليلة، إلا أن العمل على تغيير الوضع يتطلب وقتا طويلا. - ماذا أضافت النخبة للمخزن؟ < يمكن أن نطرح سؤالا آخر كذلك: ماذا يعطي المخزن للنخبة...؟ لكن للجواب عن سؤالك أقول إن النخبة هي مفرخة المخزن التي يجد فيها أخلص مسانديه وأفضل أطره، إلخ. النخبة تشعر بنفسها متضامنة مع المخزن لأنه يضمن بقاءها وسيطرتها الاجتماعية وهيمنتها الفكرية والاقتصادية. لكن المخزن يعرف كذلك كيف يدعو إليه كفاءات أخرى عندما يشعر بالحاجة إليها. فلا يجب أبدا وضع البيض كله في سلة واحدة. كما أن النخبة توفر للمخزن واجهة داخلية وخارجية في الوقت نفسه. فالنخبة المغربية تحب نوعا من الرقي، من حيث إنها تحب أن تقيم في أرقى الأحياء السكنية، وأن تحافظ على استمرار التقاليد الاجتماعية؛ وفي الوقت نفسه تبقى متلهفة على كل ما استجد في عالم التكنولوجيا. وعلى المستوى الدولي، تمكّن النخبة الفرنكفونية أو الأنغلوفونية أو الإسبانوفونية المغربية المخزنَ من استمالة نخب الحكومات الأجنبية. وبفضلها يتمكن المخزن من جعل الأوربيين أو الأمريكيين يتغاضون عن بعض الأوجه غير الديمقراطية الممارسة في المغرب. - تعتبر وسائل الإعلام الغربية أن تحركات التيارات الإسلاموية تمثل خطرا محتملا على مستقبل المغرب. هل تتفق مع هذا النوع من التحليل؟ < سأكون متسرعا لو أعطيتك جوابا نهائيا عن هذا السؤال. فالعديد من الأحداث الأخيرة بينت أن النشاط الإسلاموي غير بعيد. لكن المسألة فيها جوانب إيجابية لقوات الأمن، التي تستغل الفرصة لتزيد من تحكمها في المجتمع وترفع من درجة ضغطها حسب هواها. لكن، إذا كان من غير الممكن استبعاد الخطر نهائيا، فإن الأمر يتجاوز الحالة المغربية. فالخطر المحتمل الذي تتحدث عنه يمثل إشكالية عربية عامة؛ والأحداث التي وقعت مؤخرا في إيران تبين أن هنالك انسدادا سياسيا خاصا بالبلدان العربية؛ في حين أن الانسداد، بمعنى أن بنيات النظام التقليدية تستمر إلى ما لا نهاية، يولد حراكا سياسيا كرد فعل. وهو الحراك الذي تمثله، اليوم، التيارات الإسلاموية. نحن، إذن، في دائرة مغلقة. فالحركات الإسلاموية تعطي للنظام فرصة تبرير إحكام قبضته على المجتمع، بينما يؤدي هذا الإحكام إلى تنامي النشاط السياسي في صيغة من الصيغ... - الجميع يقول إن الملك محمد السادس ليس هو المخزن. فمجال تدخله هو المجال الاجتماعي وليس المجال السياسي. < الملك ليس هو المخزن، هذا أمر واقع، بل هو رأس المخزن. أما فيما يخص مجال تدخله، فهنالك اختلاف مع العهد السابق. فالحسن الثاني لم يكن يحب كثيرا العمل على المستوى الاجتماعي. وبعيدا عن الشعارات، يبقى للملك الحالي اهتمام خاص بهذه القضية رغم الصعوبات الموجودة على هذا المستوى. لكن الاشتغال على المجال الاجتماعي هو كذلك اشتغال على السياسة. وعليه، فإن كل ما يقوم به الملك هو عمل سياسي قبل كل شيء. وبالنظر إلى وضعه الاعتباري كرئيس دولة إسلامية وأمير شريف، فإن عمله يرسم المجال السياسي الوطني. أما كون هذا المجال ليس هو المجال المعهود في الديمقراطيات الغربية (البرلمانية، ديمقراطية الرأي، الأحزاب السياسية التمثيلية، إلخ)، فذلك واقع آخر. ثم إن الملك نفسه يقول بهذا عندما يرفض النموذج الإسباني. - كتبت أن «نقل القيم الإسلامية والشريفة والوطنية غطى على فضائل الانتقال نحو الديمقراطية»؛ هل يمكن أن نستخلص من ذلك أنه وقع تراجع على هذا المستوى؟ < لا، لأنه وراء الشعارات الموجهة إلى الأوربيين والملاحظين الذين يستعجلون الإصلاح، لم يتغير البرنامج؛ بل زاد وضوحا. لست متأكدا من أن الملك يعارض التوجهات الديمقراطية. لكن بالنظر إلى الأخطار التي تحدثت عنها، وبالنظر إلى ما تخشاه القوى السياسية والاجتماعية التي تسند الملك، فإن «نقل القيم» يغطي على «الانتقال نحو الديمقراطية». ثم إن القول ب «التراجع» سيكون من باب الحكم الأخلاقي، والحال أن الأمر لا يتعلق هنا بالأخلاق، بل بالسياسة. بالنسبة لي، أرى أن علاقات القوة السياسية لا تناسب الديمقراطية في المغرب. - ما هو تأثير القنوات الخليجية، مثل «الجزيرة»، على الممارسة السياسية بالمغرب؟ < من الصعب الحديث عن هذا الموضوع؛ كما أنه، مرة أخرى، لا يمكن حصر هذا التأثير في الحالة المغربية. لأن الأمر يتعلق بإشكالية عربية. ما هو مؤكد هو أن التلفزيون (القنوات الأجنبية العربية أو الغربية) يخلق نوعا من ازدواج الشخصية عند المغاربة.