يشرح هذا المقال الدوافع لموجة اقتراحات القوانين التي تغرق جدول أعمال الكنيست. وجلها قوانين تقيِّد مظاهر الوطنية الفلسطينية وتضع قيودا بالقانون على النشاط السياسي للمواطنين العرب داخل الخط الأخضر. ويشرح المقال باختصار المعنى السياسي لهذه الموجة. إنها قوانين في فرض الأسرلة قسرا. لا أكثر ولا أقل. والحقيقة أن الكنيست في الدورات الثلاث الأخيرة (العقد الأخير) شهدت موجة سن قوانين تقيّد حرية الرأي والتعبير بشأن يهودية الدولة وحق مقاومة الاحتلال. ويجري العمل بها حاليا، أو محاولات سن قوانين فشلت في إحدى القراءات الثلاث، ويعاد طرحها على طاولة البرلمان مرة بعد أخرى لاستنزاف معارضيها. فهل تتجه إسرائيل فعلا نحو الفاشية؟ وهل تراجعت ديمقراطية إسرائيل، بمعنى هل كانت أكثر ديمقراطية من اليوم، أو هل تنقضّ حاليا على الحقوق الليبرالية المدنية بعد فترة من الازدهار؟ ما الموضوع بالضبط؟ «لقد نشأت إمكانية أن يؤدي وعي الحقوق عند العرب في الداخل إلى نزعة اندماجية قائمة على مطلب المساواة في الدولة اليهودية ذاتها كدولة يهودية». يجري في إسرائيل تطور بخطين متوازيين (طبعا في ما يتعلق بموضوعنا فقط): أ. تعميق وتوسيع مفهوم وممارسة الحقوق المدنية للمواطن ولبرلة سياسية واقتصادية (والمقصود بذلك هو المواطن اليهودي). ب. يجري هذا بموازاة ازدياد التطرف القومي والديني اليميني مصحوبا بانتشار مظاهر العنصرية السافرة ضد العرب. ومن هنا، فإن الفرد اليهودي حامل الحقوق المدنية (التي لم تكن متطورة في الماضي في المجتمع الصهيوني الذي كان شبه اشتراكي استيطاني مجيّش) هو في الوقت ذاته فرد أكثر تأثرا بالدعاية اليمينية العنصرية ضد العرب. ومن هنا، فالاعتقاد أن إسرائيل كانت أكثر ديمقراطية وأنها تتجه نحو الفاشية هو اعتقاد خاطئ. وهو يذكرني بهتاف كنا نهتفه بحماس وبحسن نية في مظاهراتنا في السبعينيات نقلا عن مظاهرات اليسار الإسباني قبل الحرب الأهلية هناك وفي إيطاليا الثلاثينيات: «الفاشية لن تمر». كم من الوقت تحتاج الفاشية لكي تمر؟ الهتاف كله آتٍ من سياق مختلف. إسرائيل هي استعمار استيطاني مر واستوطن. والفاشية نظام حكم عيني جدا، ليس ضروريا أن يقوم في مجتمع مستوطنين مجيّش قام على أنقاض شعب آخر، خاصة وأن هذا المجتمع قد نظم نفسه بشكل تعددي ديمقراطي، وهو موحد في الأساسيات التي ينعقد عليها الإجماع، ومنها القيم العسكرية، فهو إذن ليس بحاجة إلى انقلاب فاشي فيه. وحتى شارون الذي كان مرشحا لقيادة انقلاب فاشي في نظر اليسار الإسرائيلي، كان في فترة حكمه من أكثر المدافعين عن حقوق المرأة، وأكثر المنحازين إلى تنفيذ قرارات المحكمة العليا. وهي محكمة ليبرالية في داخل حدود الصهيونية وتحت سقف مسلماتها. لم تصبح إسرائيل أكثر أو أقل ديمقراطية بل توسعت فيها الحقوق المدنية في وقت ازدادت فيه النزعة اليمينية العنصرية ضد العرب. «يعني ازدياد عدد القوانين أن استراتيجية أخرى قد ضربت جذورها بين العرب في الداخل تراها المؤسسة الإسرائيلية كخطر ماحق». بموازاة ذلك، جرى في أوساط المواطنين العرب في الداخل تطوران متوازيان أيضا، تمثل الأول في ازدياد الوعي بحقوق المواطنة والحريات المدنية بعد فترة سيطر فيها الخوف من الحكم العسكري والأجهزة الأمنية الإسرائيلية والعزلة عن الأمة العربية في الوقت ذاته. كما تميزت تلك الفترة بمحاولات إثبات الولاء للدولة في خدمة الصراع اليومي على الحياة المادية، وللتقدم في الحياة المدنية اليومية. وتمثل التطور الثاني في ازدياد الوعي الوطني مع ارتفاع نسبة التعليم وتطور الحركة الوطنية الفلسطينية في الخارج وتأثير وسائل الاتصال وتوسع الطبقة الوسطى، واتساع التواصل التنظيمي بين المواطنين العرب الداخل، والتبادل الثقافي والتجاري مع الضفة الغربية وقطاع غزة. لقد نشأت إمكانية أن يؤدي وعي الحقوق عند العرب في الداخل إلى نزعة اندماجية قائمة على مطلب المساواة في الدولة اليهودية ذاتها كدولة يهودية. وهو مطلب غير ممكن التحقيق ويؤدي إلى التخلي عن الهوية الوطنية دون الحصول على مساواة، أي يؤدي إلى التهميش لا إلى الاندماج. وما زال هذا الخطر على العرب قائما، فهنالك فئات سياسية عربية مقتنعة بهذا التوجه. من ناحية أخرى، على خط التطور الثاني نشأ خطر أن تفقد قوى وطنية فعلا علاقتها بالحياة المدنية الواقعية للناس في اتجاه يؤكد فقط على الهوية الوطنية دون إطار الحقوق المدنية والمواطنة وحياة الناس في الداخل، مما قد يؤدي إلى عزل الحركة الوطنية جماهيريا. وهذا خطر قائم أيضا وإن بدرجة أقل. يعني ازدياد عدد القوانين أن استراتيجية أخرى قد ضربت جذورها بين العرب في الداخل تراها المؤسسة الإسرائيلية كخطر ماحق. ويتلخص هذا الخطر بالنسبة إلى إسرائيل في أن يرى الناس في حقوق المواطنة فرصة للنضال من أجل المساواة وفي الوقت ذاته استغلال الحريات المدنية لممارسة الهوية الوطنية والتوعية الوطنية، بما في ذلك مظاهر مثل إحياء ذكرى النكبة، وللتواصل مع الأمة العربية. إحياء ذكرى النكبة، سياسيا وحزبيا وجماهيريا، ظاهرة جديدة عند العرب داخل الخط الأخضر تعود إلى أواسط التسعينيات فقط. المهم أنه حتى أواخر السبعينيات وقبل انتشار الوعي الوطني بقوة كان العديد من عرب الداخل يحيي يوم استقلال إسرائيل إما خوفا أو جهلا. وكان قادتهم، حتى نهاية السبعينيات وأكثر، من أحزاب صهيونية وغير صهيونية، يهنئون إسرائيل بيوم استقلالها. «كان الإظهار السافر لعدم الولاء للدولة كدولة صهيونية نادرا». ولم تكن هنالك قوانين ضد إحياء ذكرى النكبة، ليس لأن إسرائيل كانت أكثر ديمقراطية بل لأنه لم يكن من داع إليها في نظر المؤسسة، إذا لم يحيِ العرب ذكرى النكبة أصلا.. وكان الإظهار السافر لعدم الولاء للدولة كدولة صهيونية نادرا. لم تتغير إسرائيل وحدها، بل تغيرت أيضا الثقافة السياسية لأوساط واسعة من عرب الداخل باتجاه وطني يحيي ذكرى النكبة ولا يجد تناقضا بين هذا وبين حقوق المواطنة، بل يستغل الحريات التي تمنحها المواطنة لممارسة سياسية يراها هو حقه الطبيعي وتراها إسرائيل بمجملها كمتناقضة مع المواطنة.. ويزداد هذا الموقف حدة طبعا مع تطور وتعاظم قوة الخطاب الصهيوني اليميني الديني العنصري في تلك البلاد. ويكمن الفرق الذي حاولنا طيلة سنوات أن نبلوره في أن المواطنة العربية داخل الخط الأخضر ليست مواطنة إيديولوجية وطنية صهيونية ناجمة عن ممارسة قانون العودة الصهيوني، ولا هي هجرة أقليات وعمال إلى إسرائيل يوائمون أنفسهم مع الوضع القائم، إذ اختاروا الهجرة إليها، كما يفعل مهاجر إلى الولاياتالمتحدة أو فرنسا. إنها مواطنة اشتقت من بقائهم في الوطن بعد احتلاله. إنهم سكان البلاد الأصليون، وليس من واجبهم التكيف مع طابع إسرائيل الصهيوني، ومحاولة تحويلهم إلى وطنيين إسرائيليين هي تزوير للتاريخ وتجن على الحقيقة وتشويه للشخصية الحضارية وتفكيك للتماسك الأخلاقي. إن أي عربي فلسطيني يعتبر نفسه وطنيا إسرائيليا هو حثالة بشرية. هو الذي يقبل بأقل من مواطن وأقل من عربي فلسطيني ويتماهى في الوقت ذاته مع قمع شعبه، ومع من صادر البلاد وشرد العباد. «في مرحلة أوباما وبعد فشل سياسة بوش سوف توجه الحكومة الإسرائيلية طاقة اليمين الائتلافي العنصرية نحو القدس ونحو العرب في الداخل». ما هو تهريجي وما هو فعلي طبعا، لا يتسع المجال لدراسة كافة جوانب الظاهرة. ولكن، تلميحا فقط، نقول إن هنالك تطورا ثالثا هو تطور المشهدية الإعلامية والسياسة الحزبية كسوق عرض وطلب ودور التهريج الإعلامي الذي يقوم به النائب في البرلمان. هذا واقع في كافة الأنظمة البرلمانية في ظل دخول كاميرا التلفزيون إلى البرلمان. لقد أصبح البرلمان مسرحا، وبات الإغراء كبيرا لقسم كبير من النواب أن يتحولوا إلى مهرجين، أو ممثلي دراما حسب الحالة. ولكن عندما يكون موضوع التهريج المفضل هو التحريض على العرب، فهذا يعني أن العنصرية والآراء المسبقة منتشرة، وأن التحريض والتهويل والتخويف والافتراء على العرب ينتشر كالنار في الهشيم. وهذا عنصر خطير وغير مضحك قائم فعليا في ما نراه تهريجيا. وكما قلنا سابقا، فإنه في مرحلة أوباما وبعد فشل سياسة بوش سوف توجه الحكومة الإسرائيلية طاقة اليمين الائتلافي العنصرية نحو القدس ونحو العرب في الداخل، حيث يعتبر الشأن داخليا ويبدو التشديد على يهودية الدولة أقل صعوبة من التشديد على الاستيطان في المناطق المحتلة. قسم من القوانين أعلاه لن يمر بسهولة مثل اعتقال من لا يوافق على يهودية الدولة. ولكن باقتراحه للقانون يكون النائب العنصري قد حقق مرماه بالظهور الإعلامي والتحريض لعل الجمهور يتذكر اسمه. ولكن يكون أيضا قد صب الزيت على نار العنصرية المتأججة. وقسم آخر من القوانين مثل منع إحياء ذكرى النكبة قد يمر كما مر في السابق منع رفع العلم الفلسطيني، وقد لا يمر القانون لأنه حتى في اليمين هنالك من يعترض على منع الذاكرة. وربما لن تتمكن هذه الدولة من سن قانون يجبر المواطن على قسم ولاء خاص لأنه ليس مهاجرا، إنه مواطن بالولادة، ولا تمنح له المواطنة أصلا لكي يقسم قسم ولاء. وتغيير الوضع الدستوري ليصبح كذلك هو مهمة صعبة حتى شكليا. طبعا، يصعب على أية دولة مهما بلغت شموليتها أن تفرض الولاء والتعاطف بالقوة، فما بالك بدولة استعمارية ترغب في فرض الولاء على السكان الأصليين بعد أن حولتهم من أكثرية إلى أقلية في وطنهم؟ لا شك أن إسرائيل سوف تجد منع التظاهر بعدم الولاء أسهل تشريعيا من مظاهر فرض الولاء.