إن التحدي يكمن في قدرة الأفكار الغريبة على التغلغل باعتمادها على حشد الرجال وقوة الإعلام وتكرار الخطاب ودغدغة المشاعر، في الوقت الذي يكاد يغيب فيه كل أثر للدفاع عن الخصوصية إصلاح الشأن الديني وتجديد الخطاب الديني وتحقيق الأمن الروحي، كلها – وما جاء على شاكلتها من شعارات- مسميات أعلن عنها الخطاب الرسمي فكشف من خلالها عن وعي عميق بأزمة الفكر الديني في المغرب وعن حاجة ملحة للتغيير وحفظ الخصوصية، وعن هذا الوعي تفتقت مبادرات إعادة الهيكلة والتأطير التي همّت جميع المؤسسات المعنية بالحقل الديني كالمجالس العلمية التي طلب منها الانفتاح على المحيط وتفعيل أدوارها تحت إشراف مجلس أعلى موكول إليه أيضا البت في قضايا الإفتاء الكبرى ومراقبة وحفظ الخصوصية الدينية للمغاربة وغير ذلك من المهام، وإلى جانب هذه المجالس - وانسجاما مع التوجه العام للإصلاح- تم إحياء وظائف رابطة علماء المغرب تحت مسمى جديد لتنخرط من جهتها في مشروع التحديث عن طريق تشجيع الإنتاج الفكري والبحث العلمي والمساهمة في حل إشكالات العصر، هذا إضافة إلى تطوير مؤسسات أخرى كدار الحديث الحسنية وغيرها من المؤسسات التي عُقدت عليها الآمال لصيانة الثوابت الدينية المتوارثة، والتي حكمت التدين المغربي عهودا طويلة حافظ خلالها البلد على وحدة مذهبه وعقيدته وعاداته وأعرافه وطرائقه في تهذيب الروح والسلوك. لقد تم إخراج هذه المبادرات بسرعة غير معهودة وعزيمة معقودة، كان همُّها موجها إلى محاصرة التسيب الفكري والروحي والعقدي الذي خلق أزمة حقيقية لم يعهدها المغرب من قبل، واضطرابا واضحا في الوعي الديني عند فئة عريضة من المغاربة أعلنت العقوق والتمرد عن الانتماء، أو ترجمت اختياراتها الجديدة إلى واقع وممارسة إما عن طريق التفجيرات أو إصدار الفتاوى الشاذة أو عن طريق التشيع والتنصر وغير ذلك مما ينبىء عن عدم ثقة هؤلاء في انتمائهم، فما كان وقع الصدمة التي أحدثوها في نفوس ومشاعر المغاربة سوى نتائج لمقدمات وتحصيل حاصل. الأكيد أن الجدية مطلوبة في حالة كهذه شهد فيها المغرب خلال السنوات الأخيرة اضطرابا وشتاتا في الفكر والروح، كما أن السرعة في الأداء لابد منها لتحصين ما يمكن تحصينه قبل فوات الأوان، إلا أن ما لابد من إمعان النظر فيه في كل هذه المبادرات هو تركيزها على الهيئات والمؤسسات أكثر من تركيزها على الأفكار. فالمؤسسات مفتقرة إلى رجال واعين بزمنهم حقيقة، خبراء بغنى حجتهم، مدركين لعوامل السعة والمرونة التي أقرتها أصول الفقه المالكي المعتمد ووسائل إمضائها في الواقع، ومؤمنين بسلامة منهج العقيدة الأشعرية التي استطاعت حفظ عقول المغاربة من التيه في كلام الفرق، وقرّبتها من أهل التسليم قبل أن تخوض في الإشكالات المنطقية على يد الجويني. على المباشرين لعملية الإصلاح أن يعوا بأن الخطاب التقليدي المعتمِد على المتون الفقهية والأحكام المنقولة عن السابقين لن تقدم البديل الذي يمكنه أن يستوعب الشباب الباحث في الدين عن عزة مفقودة، فضلا عن إمكانية الانفتاح على الآخرين الذين استبعدوا- بجهل- أهمية التدين وقيم الإسلام. المالكية كما توارثها الخلف عن السلف ليست مقررات مقدسة لا يجوز الخروج عنها، إنما هي إلى جانب الأحكام المنقولة أصول عامة تفيد في استنباط الأحكام، والواجب تقويتها لتقوم بوظائفها كما قواها الوليد الباجي- في حجاجه ومجابهته لظاهرية ابن حزم- وأن يُبدع المنتسبون لها بما يستوحوه منها مناهج يمكن الاستهداء بها لإظهار محاسن الشريعة وحكمتها كما فعل الشاطبي، بدل الاقتصار على تقليب ما في الأيدي وما ترسب في العقول. إن التحدي يكمن في قدرة الأفكار الغريبة على التغلغل باعتمادها على حشد الرجال وقوة الإعلام وتكرار الخطاب ودغدغة المشاعر، في الوقت الذي يكاد يغيب فيه كل أثر للدفاع عن الخصوصية، إما لضعف فيمن يتبناها أو لعدم قدرة أصحابها على التوليد منها بعد ضبطهم لأصولها العامة وقواعدها الشمولية، مما يختزل فعلهم في مجرد متون محفوظة وفتاوى منقولة عن أزمان سابقة تحمل هموم وقائع مغايرة لهموم الواقع المعيش، فلا هي أخرجت القوة الدفينة في أصول مالك ولا هي أشبعت المستفتي ووضعت حدا لإشكال مسألته، وهذا يمكن أن يقال على مستوى الخطاب الموجّه إلى العموم، وهو مرتبط بأهلية العنصر البشري وبفعاليته داخل المؤسسة الدينية، وأقصد تكوينه الأصولي ومَكًََنته المنهجية باختصار شديد. إن الفعالية العلمية مطلوبة في أهل النظر والفتوى، كما هو مطلوب في الوعاظ والخطباء والمحاضرين من الناحية التقنية أن يدركوا تمام الإدراك أن العمل الذي يباشرونه ليس من جنس الوظائف الأخرى، فلابد لمن يباشر التوجيه الديني من استحضار المكوِّن الروحي في المادة المقدمة، فالسامع يستحضر أحاسيسه لأنه في حالة المتعبد، وقد تميل النفوس لمن يتفاعل مع مضامين درسه ويحرك فيها هذا الإحساس وإن ضعفت حجته. وإذا كانت تنمية العنصر البشري ركن ركين في إنجاح عمل المؤسسات، حيث لا يتم تجديد خطابها وتفعيله إلا بالاهتمام به والاستفادة من طاقاته وتجديد قدراته العلمية والتقنية، فإن ما يجب الانتباه إليه أكثر مع تفعيل أدوات الاستنباط هو تجديد فهم الأصول الأولى غير المختلف فيها، وأقصد القرآن والسنة. هذان الأصلان يفهمان على مستويين: الأول يتعلق بظواهر النصوص والثاني يتعلق بفقهها، فالذي يتعامل مع النص القرآني بما تقتضيه الدلالات اللغوية الظاهرة للنص- وهو مجال خاض فيه المفسرون منذ الطبري لحل إشكال العُجمَة عند اتساع رقعة البلاد الإسلامية - يحتاج بعد تفسير الإشكال اللغوي إلى مستوى آخر أسمى هو مستوى متعلق بالاستنباط المقصود في قوله تعالى: «ولو ردوه إلى الله وإلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم « والحاجة اليوم ملحة أكثر من أي وقت مضى للتعجيل بالخوض والنظر في المستويات العليا لخطاب التنزيل، من أجل إخراج فهم لائق بالعصر منضبط بالأصول، فلقد أصبح فهم النصوص على المستوى الأول - وهو مقصود بالتبع وليس بالأصل- يؤدي غالبا بالنظر إلى تغير الظروف والأحوال إلى العشوائية والتطرف في توظيف تلك النصوص، وغالبا ما يؤدي التعصب في الفهم، بعد التحرر من ضوابطه من جهة والسطحية من جهة أخرى، إلى فتح جبهات صراع أعمى لم يبق حبيس الفكر والقلم، بل طفا عميه إلى واقع الأمة اليومي وصار عاملا يورث الشتات بدل أن يُسهم في لم الشمل والإسعاد، ويؤدي إلى تكريس التخلف والآلام بدل تضمد جراحات المسلمين، وإلى التنافر بدل التآزر. والسنة أيضا والاقتداء بالنبي عليه السلام لا يجب أن يفهما بظواهر المنقول عنه صلى الله عليه وسلم فقط، فجانب الرواية في الحديث لا يعني فقهه، والاهتمام بالدراية فيه لا يجب أن يقتصر على العناية بالسند وظواهر المتون بعد تحريرها من العِلل، وإنما لا بد من اعتبارها مكمِّلا لما قرره القرآن، لا تعارضه في شيء ولا تخالف مقاصده العامة، فعند الاستدلال بالحديث غير المجتزَأ من منظومة الوحي إذاك فقط يمكن تقرير سلامة النظر وصفاء الرؤية. وأما النص القرآني فلا بد من إعادة النظر في مادة تفسيره لاستخراج قوّته والكشف عن مكنوزه وذخائره. أليست رسالة القرآن للناس كافة إلى يوم القيامة ؟ أليس صلاحها كشريعة للإنسان غير محدودة بزمان ولا بمكان؟ الإشكال حاصل في إبطال خاصية التجدد بعدم تقليب نصوصه لفهم رسائلها الخاصة بالزمن الحاضر. إن التفسير صاغه رجال أفذاذ لأزمانهم، ولم يَدَّع أحدهم أن ما استخرجه كان منتهى الفهم، بل أقروا أن القرآن حمال أوجه. واليوم إن بدا فيما خلده السابقون من قصور -على غنى إرثهم- فالحق أولى أن يتبع والتعارض مستحيل في شرع الله وحكمه. إننا اليوم لما نُنكر على من يسوق النصوص بغير سياقها ولا حقيقة مقصودها فذلك داع إلى إنجاز فهم مخالف في التفسير لما يمكن أن يُحدث اضطرابا في الفهم وتشويشا على سمو الشريعة وأحكامها، ومثال ذلك ما يتعلق بمفهوم الحاكمية أو مفهوم الجهاد. إن حديث: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة ومن تركها فقد كفر» إذا لم يُفقه وتم خلطه مع قوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب» فلا شك من توقّع الكارثة. المعرفة في الشريعة لا تكون مجزأة أبدا بل تفهم النصوص من مظانها وسياقاتها ومقاصدها العامة داخل نسق متكامل ومتسق، ومهمة الحفاظ على النسق موكولة إلى أهل العلم عن طريق التجديد في التفسير وحسن التعامل مع السنة، ولا يخفى أن بلاوى الفتاوى لم تكن إلا بسبب اعتماد أصحابها على النقول دون تمحيص، وهل كانت فتوى المغراوي إلا نقلا؟ لقد كانت نقلا لتفسير شائع نسبه إلى الشيخ المكي الناصري الذي أخذه أيضا عن غيره، وإذا لم نعجَب من تغييب العقل في نقله هل نعجب يوما إذا نُقِل عن الطبري–وهو شيخ المفسرين- قوله في تفسير آية الهجر وفي معنى «اهجروهن» أنها من هجر البعير أي ربطه، ثم نقول بعد ذلك إن الإسلام كرّم المرأة وحفظ إنسانيتها؟ إن الطبري عَلم من الأعلام الأماجد ولكنه بشر يخطئ بالجبلة، وله فضله على عصره لا ينكر. التجديد في فهم النصوص إذن وفِقه السنة وحسن التعامل معها وحسن تنزيلها، لا بد أن يؤخذ مأخذ الجد، وأن ينزَّل على رأس الأولويات في الإصلاح المنشود. والرسالة الملكية الأخيرة التي نبّهت إلى ضرورة استحضار الاجتهاد المقاصدي وحفظ المصالح في التعامل مع قضايا الناس كخطوة لابد منها من أجل إصلاح الخطاب الديني، وكذلك ضرورة التغلغل في كامل النسيج الاجتماعي، كل ذلك يدخل في إلزامية إعادة النظر في معنى الإصلاح.