عندما يغيب الحق والقانون يصبح النفوذ هو كل شيء، لذلك يبحث المغاربة عن أية رائحة نفوذ لكي يتعلقوا بها. إنهم يعرفون أن الكلام عن دولة الحق والقانون مجرد معزوفة قديمة، وأن القانون الحقيقي هو عدد الأرقام النافعة في هاتفك المحمول، وحجم رصيدك البنكي، وأيضا الشارة المعلقة على الزجاج الأمامي لسيارتك. في الماضي كان الناس يخيفون بعضهم البعض بعبارة «واش عرفتيني شكون أنا؟»، وبما أن هذه العبارة التهديدية أصبحت مستهلكة فإن الناس صاروا يجيبون عليها بجواب تهديدي آخر يقول «شكون كاعْ غادي تكون فملكوت الله»، ثم تنتهي الحكاية بلا غالب ولا مغلوب. في كل الأحوال فإن الناس يستمرون في البحث عن رائحة النفوذ في كل شيء، وكثيرون يلصقون رائحة نفوذهم على الزجاج الأمامي لسياراتهم حتى يعرفهم الناس ويخاف منهم أفراد شرطة المرور. المحامي يعلق على زجاج سيارته شارة المحامين، والطبيب يلصق شارة هيئة الأطباء، والقاضي يلصق شارة القضاة، والمهندس يلصق شارة المهندسين، والصحافي يضع عبارة «صحافة» عملاقة كأنه يخاف ألا يراها الناس. والمضحك أن سيارات كثيرة يعلق عليها أصحابها شارة «الجامعة الملكية المغربية للتيكواندو»، أو جامعة الكاراتي وباقي فنون الحرب، وهذا يعني طبعا، أن الأمور إذا لم تتم بخير، فإن الخاسر سيكون هو الشرطي. وهناك موضة جديدة بدأت قبل سنوات تتمثل في وجود شارة جديدة تسمى «هيآت الشرفاء». هذا يعني أنه يوجد سواق شرفاء وآخرون غير شرفاء، لذلك على شرطي المرور أن يسهل عملية السائق الشريف وأن لا يسجل له مخالفة إن مر في الضوء الأحمر، وأن لا يفتش صندوق سيارته حتى لو كان يحمل حشيشا، والمثير أنه، إضافة إلى الشارة الموضوعة على زجاج السيارة، هناك بطائق «شرف» تباع بألف درهم، ومكتوب عليها «المرجو تسهيل مهمة حامل هذه البطاقة». وطبعا يمكن لشريف من شرْفا آخر الزمان أن يضع في سيارته طنا من المخدرات بقيمة مليار سنتيم ثم يشتري بطاقة شرف بألف درهم لكي يمر من دون مشاكل. في الماضي كان الشرطي «يخلع» السائق، والآن يحاول السائق أن «يخلع» الشرطي. المغاربة الذين تهجّوْا حروفهم الأولى في سلسلة «إقرأ»، للراحل أحمد بوكماخ، أكيد أنهم قرؤوا فيها قصصا ممتعة كثيرة، أولها «سعاد في المكتبة» وآخرها «زوزو يصطاد السمك»، مرورا بأناشيد «أحمد والعفريت». لكن من بين القصص الممتعة التي طالعها الكثير من المغاربة هي قصة شرطي المرور في فجر الاستقلال، الذي أوقف في أحد شوارع الرباط سيارة خالفت قانون السير من دون أن يعرف صاحبها، وفي النهاية اكتشف أن سائقها هو محمد بن يوسف، أي سلطان المغرب، وفي النهاية سجل له مخالفة. وسواء كانت تلك الحكاية حقيقية أم من «السيونس فيكسيون»، أي من الخيال العلمي، فهي في النهاية رائعة ومربية بالفعل، لكن المشكلة أن مسؤولين كثيرين في مغرب ما بعد الاستقلال لم يقرؤوا سلسلة «إقرأ»، بل تعلموا في مدارس وكتب ومناهج مختلفة علمتهم العجرفة والغرور، ولذلك أصبحوا يتصرفون في الطرقات هم وأبناؤهم مثل التتار، وامتلأت الطرق المغربية بالفوضى، لدرجة أنه عندما تم افتتاح الطريق السيار لأول مرة بين الرباط والدار البيضاء سنوات الثمانينيات، رفض مسؤول كبير في الدولة أداء ثمن المرور لأنه رجل مهم، وهذا شيء لا يمكن أن يحدث سوى في المغرب، مغرب العجائب. أكيد أننا في حاجة ملحة جدا لكي نعيد حكاية شرطي المرور والسلطان إلى مناهجنا الدراسية حتى تقرأها الأجيال الجديدة، لأنه درس على قدر كبير من الأهمية، ولو استوعب المغاربة ذلك الدرس في واقعهم لكانت ديمقراطيتنا الآن أفضل من بريطانيا، ولكانت سلوكاتنا وتصرفاتنا أحسن بكثير من اليابانيين.