بنفس القدر الذي خذلتنا فيه الأفلام المصرية في سوق مهرجان كان، فاجأتنا السينما الفلسطينية بفيلم مدهش، يدعو إلى التفكير والتأمل فيما وراء الصورة، حيث يتعرض للقضية الفلسطينية ويخدمها أكثر مما يفعل الساسة: إنه فيلم «الزمن الباقي « للمخرج إيليا سليمان المعروض ضمن المسابقة الرسمية لمهرجان كان السينمائي، والذي يقدم لنا «بورتريه» ساخرا ومؤلما عن القضية الفلسطينية. بنفس القدر الذي خذلتنا فيه الأفلام المصرية في سوق مهرجان كان، فاجأتنا السينما الفلسطينية بفيلم مدهش، يدعو إلى التفكير والتأمل فيما وراء الصورة، حيث يتعرض للقضية الفلسطينية ويخدمها أكثر مما يفعل الساسة: إنه فيلم «الزمن الباقي « للمخرج إيليا سليمان المعروض ضمن المسابقة الرسمية لمهرجان كان السينمائي، والذي يقدم لنا «بورتريه» ساخرا ومؤلما عن القضية الفلسطينية. ينتمي الفيلم إلى نوعية أفلام السيرة الذاتية، ويحمل الكثير من الفانتازيا بداخله، وهو أسلوب إيليا سليمان الذي تعودنا عليه من قبل. في هذا العمل يكرم المخرج والده فؤاد سليمان ووالدته أيضا. الوالد كان مقاوما وله تاريخ حافل مع الاحتلال الإسرائيلي، وبكثير من السخرية تبدأ أحداث الفيلم، من خلال جندي عراقي تبدو عليه علامات الجدية قادما لتحرير الأراضي العربية في فلسطين، ويلتقي مجموعة من الشباب في المقهى، يسخرون منه بشكل مؤلم، مؤكدين له أن الحرب انتهت بهزيمة ساحقة للعرب عام 1948، هي الهزيمة التي جعلت جريدة «كل العرب « توزع مجانا داخل أزقة مدينة الناصرة، وفي المقابل انتهت نسخ جريدة «الوطن» لأنه لم يعد هناك وطن. نرى هنا آلات عسكرية إسرائيلية تقتحم شوارع الناصرة بعنف شديد، وأسرا فلسطينية تفضل الهروب، وأخرى تقرر البقاء للمقاومة، ومن بينها أسرة فؤاد سليمان الذي يضحي بحبه لثريا من أجل الوطن. ثريا تهاجر إلى الأردن، وفؤاد يقاوم ويبقى، حتى منزله الذي عاد إليه وجد أمامه الجنود الإسرائيليين يفرغون ما فيه من تراث وثقافة، حتى «الجرامفون» الذي يمتعنا بصوت ليلى مراد، وتلك الصورة التي ترى فيها رب العائلة شامخا. ويتحول فؤاد من مالك للأرض إلى متطفل يعيش على هامش هذه المدينة، يعاني من لعنة الجار اليهودي الذي يفرض نفسه عليه دون رغبته. طوال النصف الأول من الفيلم بدت لغة الحكي عادية لفيلم تقليدي يحمل صورة مبهرة تتناول سيرة ذاتية لعائلة ولوطن بشكل ساخر. المشهد الوحيد الذي خلا من هذه السخرية هو مشهد إعلان وفاة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، حيث جلس فؤاد مكتئبا حزينا يسمع الخبر مثله مثل كل العرب؛ لكن مع أول ظهور لشخص إيليا سليمان ممثلا في الفيلم، تحول الخط الدرامي إلى شكل أقرب إلى الفنتازيا: الأم المريضة وضابط الشرطة الإسرائيلي أو الجار الذي يقحم نفسه في المنزل دون رغبة مالكيه، حيث يقوم بتنظيف المنزل تعويضا عن غياب الأم، وهو جار ثقيل الظل مثله مثل الجارة التي ترسل لهم الطعام يوميا ليلقوه في صندوق القمامة؛ وفي مشهد رائع نرى دبابة إسرائيلية تطارد بدانتها شابا يخرج من منزله متحدثا في الهاتف. الفارق بين دانة الدبابة وبين الشاب لا يتجاوز الثلاثة أمتار، إلا أن قائدها يسير مع الشاب أعلى وأسفل الرصيف بهذه الدانة، وفي المقابل لا يعير الشاب انتباها لهذا التهديد بالقتل، لقد تعود عليه ولم يعد يخشى شيئا. الغريب أن الدبابة نفسها تبدو مرتعشة أمامه، وهي قمة السخرية من نظرية الأمن الإسرائيلي. وفي نهاية المشهد تتحول دانة الدبابة الى وجه المشاهد ليرى كم هي مرعبة هذه الآلة العسكرية الغبية، وكيف أن الموضوع ليس مجرد ضحكة عابرة على مشهد سينمائي جيد الحبك. في مشهد آخر، أكثر روعة، نرى الشاب يمارس رياضة القفز بالزانة، ليس في الأوليمبيات الشهيرة أو داخل إحدى البطولات، لكنه بشكل فانتازي يقفز من فوق الجدار العازل، جدار الفصل العنصري، كأن إيليا سليمان يبحث عن هويته وراء هذا الجدار. صحيح أنه من عرب 48 ويحمل جنسية إسرائيلية رغما عنه، إلا أنه يعلم أن حدوده تمتد لما وراء هذا الجدار القمعي، حتى الأحجام التي اختارها في الكادر كانت ساخرة طريفة تبعث على الضحك والبكاء في نفس الوقت، أحجام توضح فرق القامة بين هؤلاء المتطفلين والمواطنين في نفس الوقت، تكشف الخداع الإسرائيلي حول فكرة العيش في سلام مع المحتل. في نهاية فيلم «الزمن الباقي» يصل بنا المخرج إلى أنه لا تسامح طالما هناك احتلال وعنصرية، وذلك رغم أنه أظهر تسامحا في بعض المشاهد، ولكن تظل دائما القاعدة هي القاعدة مهما كثرت الاستثناءات والعكس صحيح، والقاعدة هنا أننا أمام أرض مغتصبة، ومواطنين يحملون هوية غريبة رغما عنهم، مثل الجسد الغريب الذي يخترقك ويؤلمك وأنت لا تقوى على لفظه من داخلك. في الفيلم يكرم المخرج والده ووالدته اللذين فضلا البقاء والمقاومة داخل الأراضي المحتلة، ولم يستسلما؛ كما يوضح وجهة نظر عرب 48 التي تواجه الكثير من الاتهامات بالعمالة، وكأن المخرج يرد بهذا الفيلم على الاتهامات الظالمة لفيلمه بأنه إسرائيلي، رغم أنه يؤكد على أنه عمل فلسطيني (مكتوب في مطبوعات المهرجان أنه فيلم فلسطيني- فرنسي مشترك)، يحمل بصمة فلسطينية لا تخفى. من الناحية الفنية يتضمن الفيلم مزيجا مدهشا بين الحكي الدرامي العادي والفانتازيا والواقعية السحرية، ومجمله سخرية من الاحتلال الإسرائيلي والضعف العربي أمامه. السرد في النصف الأول منه ناعم، إلى أن حدثت نقلة في الدراما غير مبررة في النصف الثاني، النقلة كانت عنيفة لا تعطيك إحساسا بمرور الفيلم كاملا بنفس النعومة الأولى، لكن تغطي عليها ألعاب سينمائية شديدة الامتاع في إطار من الفانتازيا والواقعية السحرية، وكأننا أمام فيلمين مختلفين عن بعضهما البعض. أما جرأة الحكي والمكاشفة فيما يختص بالسيرة الذاتية فلم تكن بقوة جرأة يوسف شاهين في رباعيته «إسكندريه ليه « و»إسكندرية كمان وكمان « و»حدوتة مصرية « و»إسكندرية نيويورك «، ولا بمصارحة فلليني في «الثامنة والنصف» أو «أماركورد»، مثلا. لقد أراد إيليا سليمان في هذا الفيلم الخروج من الخاص الى العام، لكنه لم يتعمق أكثر في الخاص، ربما لأن الناصرة موطنه هي مدينة صغيرة ثقافتها أقرب إلى ثقافة الفلاحين؛ وفي المقابل ساهم المجتمع «الكوزمو بوليتاني»(المفتوح) الذي نشا فيه شاهين (الإسكندرية) في ظهور هذه القدرة لديه على محاكمة نفسه وأمه ووالده دون أية خطوط حمراء، وإن كانت ذاتية شاهين هنا وصلت إلى قمة الغرور والثقة بالذات. لكن هذا، في النهاية، لا يمثل سلبيات داخل «الزمن الباقي «، حيث نبقى أمام فيلم جميل فلسطيني الإخراج والهوية أيضا، يستطيع أن ينجح فيما فشل فيه الساسة العرب بأن يجعل قاعة بها ما لايقل عن ألفي شخص من معظم دول العالم يصفقون للفيلم، ومعه القضية الفلسطينية .