دخل حواص محمد إلى المستشفى لإجراء عملية جراحية بسيطة تتعلق باستئصال المرارة، ولكن لا أحد من أصدقائه أو عائلته كان يتوقع أن يخرج من المستشفى مباشرة إلى المقبرة جثة هامدة. رفضت العائلة أن تستلم جثته، وطلبت إجراء خبرة طبية لتحديد الأسباب التي أدت إلى وفاته المفاجئة. تقدم النقيب عبد الرحمان بنعمرو والمحاميان سعيد بنحماني ومصطفي كرين بطلب إلى الوكيل العام للملك من أجل القيام بتشريح الجثة. وأثبتت خبرة الطب الشرعي أن الوفاة لم تكن ناتجة عن العملية الجراحية أو مضاعفاتها بقدر ما كانت ناتجة عن خطأ طبي بسبب عدم توفر سيارة الإسعاف التي نقلته من مصحة إلى أخرى بالبيضاء على أجهزة التنفس الاصطناعي. هذه الحكاية التي رواها المحامي سعيد بنحماني هي حالة من بين الحالات التي تحدث كل يوم، والتي يتدخل فيها الطب الشرعي من أجل كشف خباياها. وبالرغم من أهمية هذا النوع من الطب في المغرب في كشف طلاسم عدد من القضايا الشائكة التي تعرض على القضاء والعدالة، إلا أن المغاربة يكادون لا يعلمون عنه شيئا وكذلك الشأن بالنسبة إلى علاقته بباقي التخصصات الطبية الأخرى، والسبب أو الأسباب التي حالت دون تطور هذا النوع من التخصصات. خادم العدالة «الطب الشرعي هو خادم العدالة» هذا هو الشعار الذي يرفعه مركز الطب الشرعي المتواجد بالمستشفى الجامعي ابن رشد بالدار البيضاء والذي يشرف عليه الدكتور هشام بنيعيش. بالنسبة إلى هذا الأخير، فإن ممارسة الطب الشرعي هي ممارسة قديمة قدم البشر أنفسهم. لا أحد يعرف على سبيل التحديد متى بدأ البشر في ممارسة هذا النوع من الطب، غير أن المؤكد أن الإنسان كان بحاجة إلى أداة أو علم أو فن أو تخصص يحاول إيجاد أجوبة عن العديد من الألغاز التي كانت ترتبط ببعض الوفيات الغامضة، ومن هنا نشأ علم التشريح. كان الطب الشرعي بالمغرب يمارس منذ سنوات، ولكنه لم يتطور ولم يصبح تخصصا أكاديميا قائما بذاته إلا منذ 1994. كانت الغاية التي رسمها مهندسو هذا التخصص ومحدثوه هي تجاوز الفراغ والتخلف الذي عاشته هذه المهنة منذ سنوات. يقول هشام بنيعيش، طبيب شرعي وأستاذ مساعد بكلية الطب والصيدلة بالدار البيضاء والطبيب المسؤول عن معهد الطب الشرعي، ليس كل شيء يقال، هناك حدود لا يمكنه أن يتجاوزها، المهم بالنسبة إليه هو البناء، البناء على أسس صلبة. يحاول أن يكمل ما بدأه أستاذه سعيد الواهلية بالنسبة إلى بنيعيش، فإن سعيد الواهلية ساهم بشكل كبير في تطور الطب الشرعي بالمغرب حتى أصبحت له مكانته كتخصص طبي بكلية الطب بالدار البيضاء. في أحد اللقاءات الصحفية التي أجرتها معه أسبوعية «ماروك إيبدو» عام 2004، بعد تخرج أول فوج يضم أطباء شرعيين تابعين للجماعات المحلية، قال الدكتور الواهلية «تاريخيا لم يكن هناك طب شرعي بالمغرب بالمعنى الحقيقي للكلمة. إن الخطوة التي قمنا بها الآن، ربما، غير كافية. لأننا لا يمكن أن نتحدث عن طب شرعي حقيقي. غير أن هذا التكوين السريع له أهميته لأنه يسد على الأقل فراغا دام لعدة عقود من الزمن». يقوم بنيعيش من كرسيه ويتجه إلى كرسي آخر يوجد بالقرب منه دولاب صغير يضع فيه أوراقه وملفاته وبه أيضا جمجمة، فوق الكرسي توجد محفظة سوداء اللون، يخرج منها ورقة مطبوعة تتضمن رسالة إلكترونية تلقاها مؤخرا من سعيد الواهلية، وبدأ يتلو مضامينها باعتزاز كبير وكأنه تلقى شهادة تقديرية. في تلك الرسالة يشجعه سعيد الواهلية على الاستمرار في الطريق الذي شقه لنفسه. «كان الطب الشرعي في السابق يقوم به أي طبيب كيفما كان اختصاصه، إذ كان بإمكان المحكمة أن تلجأ إلى أي طبيب من أجل إجراء تشريح أو خبرة بالنسبة لشخص تعرض لاغتصاب أو اعتداء، يحكي هشام بنيعيش بمكتبه المتواجد بمصلحة الطب الشرعي بالمستشفى الجامعي ابن رشد. غير أن المجهودات، التي قام بها الواهلية يضيف بنيعيش، هي التي جعلت الطب الشرعي تخصصا قائما بذاته، لينضاف إلى قائمة التخصصات الطبية سنة 1994 بكلية الطب والصيدلة كأي تخصص طبي آخر. فبعد إتمام سبع سنوات من الدراسة في كلية الطب، يختار الطلبة التخصصات التي يريدونها، ومن بينها تخصص الطب الشرعي الذي تصل مدة التكوين فيه إلى أربع سنوات. «مصلحة الطب الشرعي هي المصلحة الوحيدة في المغرب التي تكون أطباء في الطب الشرعي تابعة لكلية الطب والمستشفى الجامعي ابن رشد. أما المراكز الاستشفائية الجامعية الأخرى مثل مركز مراكشفاس، والرباط فلا توجد مصلحة للطب الشرعي، ولكن هذا الأمر يعد من التحديات المطروحة على وزارة الصحة». لا يوجد إلى حد الآن إلا ستة أطباء مختصين في الطب الشرعي حائزين على دبلوم الطب الشرعي ومسجلين بهذه الصفة في هيئة الأطباء. وهناك سبعة أطباء في طور التخصص. «هذا العدد قليل بالمقارنة مع الحاجيات. ولكن لا يمكن أن نلزم الناس بأن يلتحقوا بهذا التخصص. المسألة مادية بالأساس، لأن الأطباء يبحثون عن التخصصات التي تدر المال»، يؤكد أحد الأطباء الشرعيين الذي رفض الكشف عن هويته. «الرأي السائد عند المغاربة أن الطب الشرعي يهتم فقط بالموتى، وهذا رأي خاطئ، والحال أننا نتعامل أيضا مع الأحياء»، يؤكد بنيعيش، فهو يعتقد أن عملهم يتعلق بالأحياء أكثر مما يتعلق بالأموات، فالأشخاص الذين يتعرضون للعنف، مثلا، كيفما كانت طبيعته سواء كان عنفا جسديا أو جنسيا، فإن القضاء محتاج إلى طبيب شرعي لكي يُطْلعه على طبيعة الإصابات، التي تلحقهم جراءه، هل هي عمدية أم غير عمدية أم إصابات مفتعلة، وما هو تأثيرها ومدة العجز المؤقت إثرها عن العمل، هل يمكن أن تترتب عنها عاهة مستديمة. كل هذه الأمور مهمة بالنسبة للقاضي، لأنها ستمكنه من تكييف واقعة الاعتداء. يقول بنيعيش: «نحن دائما نقول إن القاضي هو خبير خبراء وإن تقرير الخبير الشرعي يؤخذ به على سبيل الاستئناس بصفة عامة، وإن حجية التقرير تبقى نسبية مع طريقة عمل الطبيب الشرعي، ودقته في الوصف ودقته في التحليل. عندما يكون التقرير متوفرا على معلومات كافية وفيها بسط وشرح الاحتمالات وترجيح أحدها على الآخر بناء على أسس علمية، فإن القاضي لا يمكن إلا أن يستأنس ويأخذ بما جاء في ذلك التقرير، وإذا كان التقرير مقتضبا أو يضم عدة جوانب غامضة ومظلمة، بطبيعة الحال، فإن القاضي لن يستأنس بذلك التقرير وقد يطلب إجراء خبرة أخرى أو تشريح مضادا» ومع ذلك، فإن الخدمات التي يقدمها الطب الشرعي التابع لوزارة الصحة لفائدة القضاء الذي يخضع لوصاية وزارة العدل، لا يتقاضى عنها مركز الطب الشرعي بابن رشد أي مقابل. «لم أر قط أن قطاعا وزاريا يقدم خدمات مجانا لفائدة قطاع وزاري آخر إلا في حالة الطب الشرعي»، يوضح هشام بنيعيش. التقارير التي تعدها مختبرات الطب الشرعي ليست كلها دقيقة وذات مصداقية، فأحيانا يقدم الأطباء الشرعيون تقارير مغلوطة إما عمدا أو عن غير عمد. هناك حكاية مثيرة أخرى يرويها أيضا بنحماني عن دعوى رفعها أحد الأشخاص حتى يتأكد من نسبة ابنته إليه، وكيف تضاربت تقارير الطب الشرعي في واقعة واحدة. فالتقرير الذي أعده أحد المختبرات العلمية بالاعتماد على تحليل الحمض النووي خلص إلى انتفاء أية علاقة نسب بين الأب والابنة. لكن تم الطعن في هذا التقرير وأمر قاضي المحكمة الشرعية بإجراء خبرة طبية مضادة، وانتدبت مصالح الطب الشرعي بالدارالبيضاء التابعة لوزارة الصحة لإجراء تلك الخبرة، وهذه المرة خلص تقريرها إلى كون المولود ينتسب إلى الأب. «تقع أخطاء في التحاليل، أقول أخطاء تقنية غير مقصودة. ما وقع أن التحليل الذي وقع في المختبر الأول تم بدون التحقق من هوية الشخص الذي أخذت منه عينة الحمض النووي» يعلق بنحماني على تلك الواقعة. وضعية كارثية بالرغم من تطور الطب الشرعي في السنوات الأخيرة، فإن وضعية هذا الطب لم تتغير على مستوى البنيات التحتية. فتقرير المجلس الدولي لإعادة تأهيل ضحايا التعذيب وهي منظمة دولية مستقلة تأسست عام 1985، تعمل في مجال الصحة، وتشجع وتدعم تأهيل ضحايا التعذيب وتعمل على منع التعذيب عالميا، وتتعاون مع أكثر من 200 مركز لتأهيل ضحايا التعذيب من كل أقاليم العالم- يرصد واقع الطب الشرعي بالمغرب الذي وصفه ب «الكارثي». ففي ما يخص مستودعات الأموات يتحدث التقرير عن نوعين من المستودعات: المستودعات في المستشفيات التابعة لوزارة الصحة العمومية (المحمديةوفاس ومكناس وطنجة وتطوان وآكادير والعيون والداخلة والواليدية ووجدة وآسفي والصويرة وخريبكة وبني ملال)، تكون ميزانيتها هزيلة. في هذه المستودعات يجرى التشريح الذي غالبا ما يكون ناقصا، من طرف طبيب تكون كفاءته في الطب الشرعي محدودة. كما أن تسيير مستودع الأموات يتبع للمستشفى في الغالب، ويتعلق الأمر بغرفة باردة من 12 صندوقا حديديا تودع فيها الجثث، قاعة يمارس فيها التشريح صغيرة الحجم موبوءة وبدون تهوية. كل هذه المستودعات تستقبل سنويا ما بين 250 و300 جثة في المعدل، ويعد مستودع الأموات بطنجة الأهم بسبب استقباله لجثث ضحايا قوارب الموت. ويقوم المشرفون، الذين يترواح عددهم بين 2 و3 أشخاص يحصلون على أجرهم من المستشفى، بكل الأعمال (استقبال، غسل، تشريح، سكرتارية، التنسيق مع السلطات، عمليات الرتق). وهناك نوع ثان من مستودعات الأموات التابعة للجماعات المحلية (الدارالبيضاء، القنيطرة، الرباط، مراكش). يتم التشريح في هذه المستودعات من قبل طبيب يتبع للجماعة المحلية الخاضعة لوصاية العمالات والولايات (وزارة الداخلية). هؤلاء الأطباء يتوفرون على تكوين إضافي في الطب الشرعي على شكل شهادة جامعية بعد عامين من التكوين تنظم من طرف كلية الطب بالدارالبيضاء. تسيير المستودع الجماعي يعود إلى الجماعة المحلية، وتتوفر الغرفة الباردة في الغالب على 12 صندوقا حديديا، أغلبها في وضعية كارثية. خادم للسلطة «الطب الشرعي قد يحيي وقد يميت». التجربة التي عايشها الدكتور عبد الكريم المانوزي، رئيس الجمعية الطبية لإعادة تأهيل ضحايا التعذيب خلال سنوات الرصاص، علمته أن الطب الشرعي بالمغرب بالفعل قد يحيي وقد يميت، قد يبرئ ظالما ويعفيه من كل مساءلة ويجرم مظلوما ويزج به في غياهب السجون وأحيانا في غياهب الموت. يحكي عبد الكريم المانوزي كيف أنه عندما تم اختطاف قاسم المانوزي وتعذيبه وقتله بالمعتقل السري درب مولاي الشريف بالدار البيضاء، بحضور رفاقه، تسلمت العائلة شهادة طبية تقول إن قاسم المانوزي توفي متأثرا بمرض السل. «من أشر على المحضر حينها طبيب ستتم مجازاته وسيصبح وزيرا فيما بعد» يقول عبد الكريم المانوزي. يروي عبد الكريم المانوزي واقعة أخرى تبرز أن الطب الشرعي كان خلال سنوات الرصاص أداة لخدمة السلطة وتبرير تصرفاتها. الواقعة تتعلق بحالة أخيه الحسين المانوزي الذي اختطف من تونس عام 1972 ونقل إلى المغرب، ولكنه تمكن في 13 يوليوز 1975 من الهرب من معتقله السري، واعتقل مرة أخرى في 19 يوليوز 1975، غير أن المثير في الواقعة أن السلطات قدمت إلى العائلة شهادة طبية بدون توقيع طبيب، تؤكد أن الحسين المانوزي قضى بسبب رصاصة أصابته في 17 يوليوز 1975. ويخلص عبد الكريم المانوزي إلى أنه «خلال سنوات الرصاص وإلى حدود أواخر التسعينيات لم تكن هناك رغبة، الآن هناك رغبة ولكنها محتشمة إذا صح التعبير. الطب الشرعي مهم وأساسي لأنه يجسد ويقوي دولة الحق والقانون والعدالة، فهو يعطي الحق للضحية. أعتقد أن الطب الشرعي لم يتطور لأنه لم توجد إرادة لذلك في السابق. ولكن الأمور بدأت في التطور مع إحداث جناح خاص بمستشفى ابن رشد بالبيضاء».