سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
كريستين دور السرفاتي: كنت في طريقي إلى جبهة التحرير في الجزائر فإذا بي أجد نفسي بالمغرب قالت إن معرفتها بالمغرب بدأت مبكرا وعشقها له بدأ مع حلولها بطنجة
عُرفت بنضالها من أجل حقوق الإنسان، وارتبط اسمها في المغرب بنضالها من أجل الكشف عن مصير معتقلي تازمامارت الرهيب. عاندت السلطات المغربية في عز بطشها، ووهبت جزءا كبيرا من حياتها للنضال من أجل حرية التعبير بعد أن ارتبط مصيرها بمصير أبراهام السرفاتي والرفاق، وتوجت مجهوداتها بنشر كتاب «صديقنا الملك»، لجيل بيرو، الذي هيأت مادته الخام والذي أحرج نظام الحسن الثاني، فكانت بداية العد العكسي للإفراج عن سجناء تازمامارت. هي كريستين دور السرفاتي، التي وإن كانت بلغت اليوم عقدها الثامن، فهي ما تزال تحافظ على بديهة وذكاء كبيرين، وما يزال حبها للمغرب وشعورها بالانتماء إلى هموم الناس ومعاناتهم لم ينضبا. عاشت حياة صاخبة، لم ترتكن فيها أبدا، للجمود. ناضلت، شاكست، تضامنت وكتبت. سنوات العمر تقدمت بها، إلا أنها تأبى الخضوع لجبروت العمر كما رفضت دائما جبروت البشر. كريستين، التي تعيش اليوم بمراكش مع زوجها أبراهام السرفاتي، تتحدث ل«المساء» بقلب مفتوح. - من هي كريستين دور؟ < دور هو اسم أبي، أنا أتحدر من أسرة بروتستانتية. وغالبا ما تنتمي الأسر البروتستانتية إلى شرق فرنسا أو إلى الجبال الوسطى. اسم دور يعود إلى وادي دور في جبال البيريني. والدي كان أستاذا جامعيا، شعبة الفيزياء. إلا أنه، خلال الحرب العالمية الثانية، راجع نفسه ليجد أن الاهتمام بالفيزياء المجردة لا يعكس شخصيته العميقة، ولاسيما أنه كان يدرك جيدا خطورة البروز القوي للفاشية. لذلك ترك التدريس ليقبل منصب قيدوم جامعي ويصبح، حينها، أصغر قيدوم في فرنسا، بعد تعيينه بالنورماندي، في مدينة كان (Caen) التي لم يكن يعرفها. أبي كان مقاوما متعلقا كثيرا بالمقاومة ضد النازيين، وأذكر أنه كان يختفي مدة طويلة قبل أن يظهر ثانية ويعود إلى الاختفاء من جديد. أما نحن، أبناؤه، فقد كبرنا على اعتبار أن حياة الاختفاء والسرية جزء منا، وأن مساعدة المختفين والمقاومين أمر مشرف، وإلا فإن مصيرهم كان سيكون التعذيب أو الموت على يد الغيستابو. والمفاجأة هي أننا وجدنا أنفسنا قريبين من مكان الإنزال، الذي حدث في يونيو 1944، وربما كان أبي يعلم بهذا. ومازلت حتى الآن أتذكر مشاهد حرب حقيقية، تتخللها مشاهد الطائرات الحربية ودوي القنابل... هنا، أذكر أن أبي ترك زوجته وأطفاله الصغار في ساحة الحرب، لماذا؟ لأنه تلقى الأمر من قادة المقاومة بالالتحاق بالإنجليز بمدينة «بايول»، على الجانب الآخر من جبهة القتال بين الحلفاء والألمان. وأتذكر أن ضابطا ألمانيا جاء إلينا وسألني، وأنا بعد طفلة، عن مكان وجود أبي، فقلت له إنه ذهب... ثم سألني: إلى أين ذهب؟ قلت: ذهب عند أصدقائه. فقال: إنها فكرة غريبة هذه أن يذهب والدك لزيارة أصدقاء في عز الحرب! حدجني بنظرة قاسية، وأخلى سبيلي. أذكر هنا أن فرقة ال«إس إس» الألمانية التي سألتني عن والدي كانت هي الفرقة التي ارتكبت مجزرة بلدة «أورادور سور كَلان» (قُتل فيها حوالي 642 شخصا). وبعد نهاية الحرب وتحرير فرنسا، التقينا بوالدنا. أذكر هنا طرفة غريبة. كان لي خال يشتغل في السلك الدبلوماسي بموسكو، وعندما سمع نداء 18 يوليوز للجنرال دوغول، التحق بالمقاومة في لندن، ليعمل مساعدا لهذا الأخير. وأثناء فترة إنزال النورماندي، عُين كمفوض للجمهورية في الأراضي المحررة، وعين معه ثلاثة ولاة مقاومين يأتمرون بأوامره لمباشرة العمل الإداري بعد التحرير، والعمل على مقاومة أي انسلال إلى أجهزة الدولة من قبل المتعاونين مع الاحتلال، والسهر على تكوين حكومة فرنسية بدل أن يقرر الأمريكيون والإنجليز اعتبار فرنسا إقليما ملحقا بهم. وفي يوم من الأيام، قيل للمفوض إنه سيلتقي الشخص الذي سيشتغل معه، وقيل للوالي إنه سيستقبل من قبل مفوض الجمهورية. وعند اللقاء، اكتشف أبي أن المفوض لم يكن سوى شقيق زوجته! لكن، لما كان أبي لا يستحمل السلطة ودهاليزها، انسحب من السياسة وعاد إلى منصبه كقيدوم جامعي. - كم كان سنك حين حللت بالمغرب سنة 1962؟ < أعتقد أنني كنت في عقدي الثالث. فقد رزقت بابنتي لوسيل في طنجة. حكاية هذه الابنة غريبة مع مسقط رأسها طنجة. فمسقط الرأس، كما يقال، يترك أثرا عميقا في الشخص مهما غاب عنه. ابنتي هذه، التي ولدت من أبوين فرنسيين، ترتبط بالمغرب ارتباطا كبيرا يفوق نظيره عند بقية أبنائي، إذ إنها لا تتحمل، أبدا، الابتعاد عنه؛ ورغم أنها صحافية بجريدة «لوموند» ووضعها المادي مريح، فقد فكرت ذات لحظة في ترك وضعيتها المريحة هذه للالتحاق بوظيفة بالمغرب. إلا أنها عدلت عن الفكرة في النهاية. - بين سنتي 1962 و2009 مسافة زمن قدرها 47 سنة. ما هي حصيلة أفكارك عن المغرب والمسار الذي عبره بين ذلك الزمن والزمن الحالي؟ < أولا، المغرب لم يكن غريبا عني. بل لقد كنت دائما أسمع عنه في صغري على لسان أفراد من عائلتي، ثم إن أحد أبناء عمومتي من جدي كان يشتغل لحساب نظام الحماية في المغرب؛ وكنت، إذن، أسمع منه الكثير عن المغرب بعينين شاخصتين. لكن، لماذا جئت إلى المغرب؟ جئت إلى المغرب لأن جبهة التحرير الجزائرية كانت تتعرض لقمع شديد في فرنسا. فقلت في نفسي.. سأذهب إلى الجزائر، وهناك سيمكنني أن أصلح ما يمكن إصلاحه من الذنوب التي تسبب فيها الاستعمار. حينها، كنت متزوجة من مواطن فرنسي (متوفى) أنجبت منه ولديّ البكرين. وعندما تعرفت عليه ونحن طلبة كان واحدا من الفوضويين في الجامعة، وتصادف أن كنت أحب الفوضويين كتيار جامعي، إلا أنه حاد عن طريقه الأول وصار فوضويا يمينيا، قبل أن يشغل منصب الوكيل العام لأمن الدولة. إذن، في الوقت الذي كنت أساعد فيه جبهة التحرير الجزائرية كان هو، بحكم وظيفته، يحاكم من يمثل أمامه. فلم يعد استمرار علاقتنا ممكنا في ظل هذا التناقض الحاصل بيننا. بعدها، قررت مغادرة فرنسا نحو الجزائر. الأمر الذي لم يقبل به زوجي، طبعا. إلا أنني خشيت أن أفقد الحق في حضانة أطفالي. لكنني، في آخر لحظة، حولت وجهتي، فوجدتني في المغرب، حيث عينت بمدينة طنجة لتبدأ حكاية عشقي للمغرب الذي أغرمت به بتلقائية. - هل من تفاصيل لأسباب هذا العشق؟ < أُعجبت أولا، بجمال الطبيعة وبسحر المدينة. حينئذ، لم تكن فرنسا كما هي عليه اليوم من حيث السلوك الحضاري؛ فقد كانت الأوساخ ما تزال تلوث شوارعها، وكان الريف ما يزال في حاجة إلى كثير من الجهد. من جهة أخرى، كان المغرب، وطنجة بالخصوص، ما يزال نقيا، صافيا، على طبيعته الأولى الجميلة. بدأت العمل في ثانوية ابن الخطيب بطنجة بعد أن رفضت التدريس بمؤسسات البعثة الفرنسية بالمغرب. وهناك، اكتشفت كم كان حرص الأسر المغربية على تعليم أبنائها كبيرا، خاصة إذا علمنا بأن الفرنسيين مارسوا كثيرا من الحيف على أبناء المغرب عندما حرموهم من التعلم. يكفي أن نعرف أنه خلال 40 سنة من الحماية تمكن 500 تلميذ مغربي فقط من الحصول على الباكلوريا. في طنجة، جعلني تلامذتي المغاربة أعمل بجد من خلال حماسهم الشديد. خلال ذلك تعرفت على زوجي الثاني، وعشنا معا بعض الوقت قبل أن نعقد قراننا في المدينة، وهناك أنجبت ابنتي الصغرى، لوسيل. بعد ذلك، انتقلنا إلى الدارالبيضاء، حيث عينت في ثانوية محمد الخامس، التي قضيت بها سنوات رائعة. كنت دائما أطلب أن يمنحوني تلامذة المستوى الأول الإعدادي لأنني كنت أجد معهم متعة وحماسا زائدين على العادة. لكنني مُنحت، في بداية تدريسي بالدارالبيضاء، أقسام السادسة إعدادي والباكلوريا. وإلى اليوم، مازلت أفاجأ بأشخاص يتعرفون علي وأنا في هذه السن. هؤلاء كانوا يدرسون عندي في الثانوية التي أمضيت فيها سنوات مهمة تميزت، على الخصوص، بسلسلة الإضرابات الشهيرة التي سبقت السنة الدراسية البيضاء. - يتبع -