برزت في المغرب ومنذ عقد الستينيات مجموعة من المجموعات الغنائية المتميزة التي أعطت للفن المغربي صفة العالمية، بل منها من أخرج الغناء المغربي من بقعة أو دائرة «نشاط» إلى «فن» ثم من فن يمارس في المناسبات العائلية والمواسم القبلية إلى فن تخطى الحدود واكتسب صفة العالمية لا لشيء إلا لأنه تراث شعبي ينطق بلسان مجموعات أو قبائل ويعبر عن أحوالها. من المجموعات الغنائية المغربية من اعتمدت على هذا التراث وأعادت صياغته في قوالب جديدة ليساير المرحلة التي هو بصددها، بل إن كل المجموعات الغنائية لم تكن لتبلغ ما بلغته من شهرة وانتشار وتقدير لولا هذا الاتكاء على التراث. الحديث هنا عن مجموعات «ناس الغيوان» و«جيل جيلالة» و«لمشاهب»، وهذا لن ينسينا أيضا مجموعات لها باع طويل مثل «السهام» وتكدة» و«مسناوة»... هذه المجموعات التي امتد إشعاعها إلى خارج الحدود ونشطت في مسارح عالمية كبرى كالألومبيا، بل هناك من حذا حذو هذه المجموعات وقلدها في دول مختلفة كالجزائر وتونس... لقد ظهرت هذه المجموعات في وقت كان الغناء فيه يعتمد على مطرب واحد يقف أمام طابور من العازفين يؤدي أغاني غالبا ما تكون حول الحب والغرام والهيام والهجر والبعاد...والآخرون الجالسون وراءه يرددون له اللازمة. لكن مع مجيء هذه المجموعات أحدثت ثورة فنية على كل المستويات فلم يعد هناك كاتب الأغاني والملحن والمطرب، بل أصبحت المجموعات تعتمد على المخزون الذاتي المعتمد بالأساس على التراث الشفوي الذي كان مهمشا في تلك الفترة، وأصبح أمامنا شباب لا يتجاوزون الخمسة أو الستة كلهم بزي موحد واقفين في صف واحد وراء آلاتهم ، هذه الآلات التي عرفت التجديد هي الأخرى فوجدنا «البانجو» و«المندولين» و«البوزق»... التف جمهور غفير ومن مختلف الحساسيات والأعمار حول هذه المجموعات، بل وجدوا فيها ملاذا لهم من بطش سنوات الجمر والرصاص واتخذوها مرآة عاكسة لكل آلامهم وأحزانهم حتى لا نكاد نجد شابا من ذاك الجيل إلا وشفتاه تدندنان بكلمات لهذه المجموعات...لكن هذا الوهج لم يعمر طويلا، إذ تسرب إلى معظم هذه المجموعات داء الانشقاق فبدأت تتخلى عن بعض أفرادها، وهو ما أثر كثيرا على أدائها، ولهذا السبب فقدت هذه المجموعات العديد من عشاقها ومحبيها ولم تستطع تعويض هذا الفراغ فنزلت من برجها العاجي الذي كانت تقدم منه أغاني مدوية وصرخات ممزوجة بآهات فاضحة. سيظهر ذلك جليا لدى مجموعة «جيل جيلالة» التي تخلت عن/تخلى عنها محمد الدرهم حيث سيترك هذا المصاب فراغا كبيرا داخل المجموعة، بل لم تستطع أن تقدم بعده أي عمل قد يردها إلى مستواها السابق ويرجع لها بريقها وهذا يدل على مكانة الدرهم وقيمته الفنية، فهو كان دينامو الفرقة وثقافته الموسيقية لا حصر لها . الدرهم سيبدأ رحلته بنمط غنائي جديد ألا وهو الغناء الفردي خوفا من أن ينعت بأنه انفصل عن جيل جيلالة فقط ليؤسس فرقته الخاصة وسيكون ألبومه الأول الذي تضمن أغاني جيدة «لمتلي» و«دانا دن» و«اهياهداك»... ثم أغنيته الأخيرة « الساكن ساكني» بمثابة القنبلة المدوية التي تؤكد للجمهور أن الرجل لا زال في جعبته الكثير... وبعد ذلك بسنوات ستصاب جيل جيلالة بمغادرة العازف مصطفى باقبو، الذي أسس مجموعة كناوية. مجموعة «ناس الغيوان» هي الأخرى ستتخلى عن أحد أفرادها، العازف عبد الرحمان باكو، وهو الأمر الذي فاجأ الكثيرين ولم يكن مقبولا لدى الجماهير، خصوصا أن الرجل أعطى للمجموعة نكهة خاصة وأصبح ركيزة أساسية بعد الرحيل المفاجئ لبوجميع، بل هناك من يصنفه في المرتبة الثالثة داخل المجموعة بعد كل من بوجميع وباطما . باكو كان ذا ثقافة موسيقية عالية هو الآخر وكان من أمهر العازفين على آلة السنتير أو الهجهوج ، إنه من أكبر معلمي كناوة وقدومه إلى ناس الغيوان زاد المجموعة شهرة منقطعة النظير وانفتحت على أغاني ذات طابع كناوي أثارت اهتمام الجماهير.. بعد ذلك سيكون باكو فرقة غنائية من أبنائه وسينجح هو الآخر في كسب جماهير عريضة . أما مجموعة «لمشاهب» فمنذ بداياتها لم تعرف الاستقرار حيث غادرها الشريف لمراني مدة 12 سنة ثم عاد بعد ذلك ليغادرها السوسدي ثم يعود هو الآخر، ونفس الشيء بالنسبة لحمادي والمرحوم محمد باطما. الانشقاق لدى مجموعة «لمشاهب» سيكون أكثر قوة ودويا لما أسس كل من حمادي والشريف لمراني فرقة أخرى جلبوا لها فتيات وأبقوا على نفس الاسم «لمشاهب» للركوب على رصيد المجموعة المعنوي، فيما ظل السوسدي والشادلي على النمط القديم بعد أن أضافوا لمجموعتهم أفرادا آخرين، لكنهم لم يتخلوا عن نفس الاسم « لمشاهب» وأصبحنا أمام مجموعتين بنفس الاسم وكل واحدة تؤكد أنها الوريث الشرعي لمجموعة لمشاهب وهذا ما ترك بصمة في نفسية المتلقي ووضعه أمام خلط هو في غنى عنه .. أما مجموعة «السهام» التي ظلت سليمة من العدوى لعدة سنوات فيبدو أن الداء بدأ ينهك جسدها وسيبدو ذلك جليا في الشهور الأخيرة حين اختار الفنان إبراهيم لحليفي الاعتزال بعد تجربة فنية مع السهام تجاوزت 29 سنة ختمها بأداء فريضة الحج... إن أسباب هذا الانشقاق تختلف من مجموعة إلى أخرى ،فمنها ما يؤكد رغبته في تطوير أداء المجموعة وإدخال عنصر التجديد عليها (على مستوى الشكل،الآلات،الغناء...) وبالتالي يصطدم مع قوى داخلية ترفض هذا التجديد جملة وتفصيلا وهذا ما يقطع حبل الود بين عناصرها ويقف الجميع أمام الباب المسدود فيختار أحد الطرفين مغادرة المجموعة.غير أن مبرر الانفصال أو التخلي عن عبد الرحمان باكو مثلا بالنسبة لناس الغيوان غير مقبول وتبدو مبرراته تافهة ليس إلا. فباكو طلب من المجموعة التريث والوقوف وقفة تأمل لما ستؤول إليه حالة العربي باطما الذي كان آنذاك على فراش الموت، لكن الآخرين رفضوا اقتراحه ورأوا أنه فقط لا يريد «خدمة باطما» ليفاجأ الجميع باستمرار المجموعة بدون باكو... إن هذا الانشقاق ساهم إلى حد كبير في تراجع أغنية المجموعات ولم تبق لهذه الأغاني نفس النكهة والقيمة الفنية السابقة. من هذه المجموعات من استقدم أفرادا آخرين لسد الثغرات لكن القيمة الفنية لم تبلغ مستوياتها المعهودة وكان ذلك ملئا للفراغ فقط، فمثلا ناس الغيوان استقدمت الأخوين رشيد وحميد باطما لتعويض كل من العربي وباكو لكن شتان بين التبر والتراب فهذان لم يرثا سر العربي كله، بل إنهما زادا الطين بلة كما يقال، فرشيد أدخل على الأغاني الغيوانية كلمات مبتذلة تثير التقزز وتؤكد بشكل ضمني أن هذا المخزون الغيواني آيل للضياع بسبب هذا الابتذال المفجع بحيث أخرجا مجموعة من الكلمات عن سياقها التي وظفت من أجله في الأغاني، حيث صارت «دن دن وا دنا» في أغنية صبرا وشاتيلا إلى كلمة بدون معنى «واش درنا شي ما درنا» ثم كلمة أخرى لا يوظفها إلا(....) استقدمها رشيد إلى أغنية «الحصادة» إنها «...فرشاخ الكوامل سيدي..» والكلام كثير في هذا الباب، غير أن الذي يجب أن يعرفه أفراد ناس الغيوان أن الأغاني الغيوانية لم تعد ملكا لمجموعة ناس الغيوان فقط، فهي ملك للإنسانية لأن هؤلاء لم يغنوا لأنفسهم بل غنوا للإنسان في كل مكان، لذا لا يمكن تحريف كلام الغيوان عن مواضعه... إن ظاهرة الانشقاق لدى المجموعات الغنائية ولدت مع ظهور هذه المجموعات ومن الصعب جدا تدبير شأن مجانين الفن ،فهذا الأخير لا يلتقي مع النظام والانتظام وإلا لم يكن فنا، لذلك تسربت الخلافات وأعطتنا مجموعات تمشي على نحو أعرج والضحية هو الجمهور...