الجزء الأول من الكتاب الذي أصدره، قبل أيام، الإعلامي محمد الصديق معنينو، الكاتب العام السابق لوزارة الإعلام، على عهد ادريس البصري، تحت عنوان: «أيام زمان.. موكب السلطان»، والذي خص «المساء» بنشر مقتطفات منه، يتطرق إلى مرحلة طفولته التي قضاها في كنف والده الحاج احمد معنينو، أحد أبرز الوجوه الوطنية في المغرب، وأحد مؤسسي حزب الشورى والاستقلال، ويمتد الكتاب إلى غاية المحاولة الانقلابية الثانية التي تعرض لها الحسن الثاني في غشت 1972، حيث كان معنينو، بصفته صحافيا بالتلفزيون المغربي، من أول من شاهدوا الملك بعيد مغادرته الطائرة التي قصفت منفوش الشعر، قبل أن يتوجه إلى معنينو والطاقم التقني المرافق له قائلا: «سيرو صورو الطيارة». الإعلامي محمد العربي المساري، الذي سيصبح مع مجيء حكومة التناوب وزيرا للاتصال، وإلى جانبه «نجم» تلفزيون السبعينيات، محمد الصديق معنينو، كاتبا عاما للوزارة، يقول في تقديمه للكتاب: « أهم ما حدث في حياة محمد الصديق هو أنه وجد نفسه منخرطا في الحركية التي سميناها فيما بعد بالنشاط الإعلامي»، مضيفا: «ذات يوم تغيبت المذيعة، فدعي (معنينو) إلى الأستوديو ووجد نفسه أمام الكاميرا مفروضا عليه أن يتصرف». ولكي ينقل المساري ظروف اشتغال معنينو آنذاك، اختار من الكتاب حكاية «الشاوش» الكهل، الذي كان يأتي بأوراق النشرة الإخبارية من زنقة البريهي إلى مبنى مسرح محمد الخامس، وبما أنه كان يصعب عليه الصعود إلى الطابق الرابع، لانعدام مصعد، فقد فكر أن يتزود بقفة وحبل، فكان يصيح من أسفل داعيا المذيع إلى أن يتناول النشرة وينقلها من القفة إلى الاستوديو. «مجلس الثورة يضمن حقوقك» في هذا الفصل من الكتاب، يحكي محمد الصديق معنينو تجربته مع الانقلابيين في يوليوز 1971، يقول: أحسست بفوهة رشاشة تلامس ظهري. تحول فزعي إلى خوف وتبللت جبهتي. لاحظت وجود عدد من الجنود يصيحون وآخرون يجْرون وعند باب الإذاعة كانت هناك جثتان الواحدة فوق الأخرى. كان الدم ينزفُ من إحداهما. صاح مرافقي: إصعد... أدخل... لاحظت أن درج الإذاعة ملطخ بالدم وأغلفة نحاسية لطلقات نارية مبعثرة على الأرض ورددت في نفسي: هنا جرت معركة عنيفة، ها هي الجثث وها هي الطلقات وها هم الجنود. ويضيف معنينو: وأنا أدخل الإذاعة، إذ بكوكبة من الجنود تنزل من الدُّرج، تحيط بشخص ربط يده بواسطة قماش أبيض ملفوفٍ على عنقه... كان واضحا أنه جُرح وتلقى الإسعافات الأولية. كان شاباً طليق المحيى، لا تبدو عليه آثار التوتر. تقدمت منه وقلت: سيدي، اليوم، يوم عطلتي. قاطعني أحد رفاقه وأمرني أن أخاطبه ب«مُون كولونيل» رددت ذلك وأضفت بأن سيارتي توجد وسط الطريق ومحركها شغَّال وبها ملابسي وأوراقي. ابتسم الكولونيل وقال لي: «ألسِّي معنينو مجلس الثورة يضمن حقوقك»، وانصرف. شعرت بأني فشلت في إقناعه بالسماح لي بمغادرة الإذاعة، ولكني انتزعت منه التصريح الوحيد الذي أدلى به والذي يؤكد وجود «مجلس للثورة» وهو المجلس الذي لا نعلم بدقة اختصاصاته ولائحة أعضائه، يعلق معنينو، ويضيف: ما أن غادر الكولونيل بهو الإذاعة حتى أمرني أحد الجنود بخلع خيوط حذائي وحزامي الجلدي وربطة عنقي. جلست وشرعت في تنفيذ ما طُلب منّي، وأنا منهمك، إذ بجندي آخر، تبدو عليه الحيرة، يسألني وهو يحرك رشاشته: ماذا تفعل هنا؟ أجبت: أنت ترى ماذا أفعل. أمرني بالوقوف والصعود إلى الطابق الأول، فاستجبت بهدوء وبدون تسرع. لاحظت في الدُّرج وجود صناديق خشبية بعضها مفتوح وبها مئات الطلقات النارية. لم يكن في الطابق الأول أي شخص وكان مكتب المدير العام مقفل الأبواب. فجأة ظهرت جماعة من الجنود، كان أفرادها يتكلمون في نفس الوقت وبصوت عال. سألني أحدهم عمّا أفعله في هذا المكان، قلت له: الكولونيل قال لي إصعد إلى الطابق الأول. ويستطرد معنينو في حكاية مشهد احتلال الجنود الانقلابيين لمبنى الإذاعة والتلفزية، قائلا: تبادل الجنود النظرات، وبدا أنهم مضطربون. أمرني أحدهم: إطلع إلى الطابق الثاني. امتثلت بهدوء، وهناك وجدت نفسي ولبضع ثوان وحيدا، فلم أكن قد استوعبت بعد ما يجري في الإذاعة، ولكن كلمات الكولونيل كانت تطن في أذني: «مجلس الثورة يضمن حقوقك». باغتتني جندي آخر وأمرني برفع يدي وإدارة وجهي نحو الحائط. تذكرت المدرسة الابتدائية، وهذا النوع من العقاب في حق الكُسالى والمشاغبين من التلاميذ. ابتسمت ونفذت بدون أي نقاش. هكذا، وعلى مدى عدة دقائق، مكثت وحيدا في وضعية مثيرة للاستهزاء. تأكدت وأنا في هذه الوضعية أن جنوداً احتلوا الإذاعة وأنهم تحت إمرة الكولونيل وأنهم لا محالة انقلابيون. كانت ملاحظتي الأساسية وسط تسلسل الأحداث، هو صِغر سن كافة الجنود والاضطراب البادي على حركاتهم وتصرفاتهم. وأنا ملتصق بالجدار، يتابع معنينو، كنت أعيد جملة الكولونيل: «مجلس الثورة يضمن حقوقك» ومعنى ذلك أن الثورة جاءت لضمان حقوق الناس. كان كلام الكولونيل تصريحا مقتضبا لخص فيه الوضعية؛ فهناك «ثورة» ولهذه الثورة «مجلس» وهذا المجلس يضمن حقوق الناس. هكذا تبدأ الثورات قبل أن تزيغ وتتحول إلى آلة لهضم الحقوق وكبت الحريات. عسكري بالتلفزة يؤكد محمد الصديق معنينو أن الحسن الثاني لم يكن يشاهد التلفزة باستمرار، ولكنه كان يتابع نشاطها ويغتنم كل مناسبة للإلحاح على ضرورة الإسراع في تغطية كافة الأقاليم وإيصال التلفزة إلى كل البيوت. ويضيف أن المحيطين بالملك كانوا شديدي الحساسية لما تقدمه التلفزة سواء في نشرات الأخبار أو في نطاق البرامج... كان الجميع ينتقد التلفزة، وكانت لكل واحد منهم دوافعه وأهدافه، وعندما كثر القيل والقال، وأشيع بأن التلفزة في حاجة إلى رجل حازم وصارم عيّن الحسن الثاني ضابطاً عسكريا مديرا للتلفزة المغربية هو الكومندار الزموري. كان الزموري، يقول معنينو، رجلا طيبا ووديعا، اشتغل طويلا في التشريفات الملكية في جو من الهدوء والسكينة، وإذا به يُقذف فجأة وسط معركة لا خبرة له فيها. حار الرجل من أمره ولم يستطع التأقلم مع عمل بعيد عن الضبط العسكري، بعد أن اكتشف عالما له مساطيره وقواعده، ووجد نفسه في سلة مليئة «بالعقارب والضفادع والحيَّات»، فانهارت أعصابه واضطربت معنوياته وفشلت تجربته فانسحب في هدوء وسط لا مبالاة. ويستطرد معنينو قائلا: كانت الإمكانات المادية للتلفزة ضعيفة جدا، فكان الناس يتقاضون تعويضات مالية بسيطة هي أشبه بالصدقة منها بالتعويض، ورغم ذلك اشتغل العاملون كالمجانين في محاولة لإنتاج ما هو ممكن لملء فراغ الشاشة الفضية. كانت وزارة المالية تعامل التلفزة كإدارة صغيرة في قرية نائية، تمنحها ميزانية لا تكفي لسد الحاجيات الأساسية والضرورية، إذ كانت ترى فيها مكانا للمهرِّجين و«الحلايقية» الذين لا يستحقون التقدير والاعتبار. عندما قتل الاستقلاليون الشوريين ومثلوا بجثثهم يتذكر الصديق معنينو حدثا دمويا مفصليا في تاريخ المغرب، وهو حدث اعتداء بعض المنتسبين إلى حزب الاستقلال على أعضاء من حزب الشورى والاستقلال، خصوصا «الكشافة» الصغار، وكيف نجا الصديق في آخر لحظة من هذه المجزرة. في الخامسة بعد الظهر، غادر الطفل محمد الصديق معنينو المدرسة وعاد إلى بيته كالمعتاد، لكنه اضطرب حين وجد والدته في استقباله تعانقه وتقبّله وهي تبكي... كانت تردد: «أنت اليوم هدية من الله سبحانه وتعالى.. لقد وُلِدْت من جديد.. الله حفظك». ويضيف معنينو أن الوالدة كانت في حالة من الأسى والأسف، حزينة ومضطربة وهي تخبره أن «الاستقلاليين» هجموا على «الشوريين» في سوق الأربعاء وقتلوا عددا منهم وذبحوا آخرين، وأن مصيبة كبرى حدثت هناك وأن من بين القتلى العربي السفياني. كانت «للا السعدية» والدة معنينو الطفل، وزوجة القيادي الشوري الحاج احمد معنينو، تعرف العربي السفياني وزوجتَه وكافة أفراد عائلته، وكانت تتذكر زيارات السفياني المتعددة لبيت الحاج أحمد معنينو عندما كان هذا الأخير في السجن. كان العربي السفياني يحمل في كل زيارة لُحوما وخضرا وفواكه. وكان يتحدث مع زوجة رفيقه المعتقل من خلف باب «الدّوِيرة» مجددا استعداده لتلبيه كل طلبات أطفالها وهو يردد: أبناء الحاج أحمد أبنائي. اضطرب الطفل محمد الصديق معنينو جرَّاء هذه الأخبار المفجعة ورأى بدوره أن تراجعه عن الالتحاق برحلة الكشافة الصغار كان هِدَاية إلاهية.. توجَّه الطفل بسرعة إلى نادي الكشافة وإذا به أمام مئات الأشخاص، شاحبي الوجه، متوتري الأعصاب، مذعورين لم يستوعبوا ماذا حصل فعلا. يقول معنينو: إلى جانب منزل آل عواد، وهو منزل القاضي الشهير الحاج علي عواد، يوجد منزل بوسلهام المنصوري الذي تحول إلى مستودع للأموات ومشفى للجرحى ومقصدا للعائلات المكلومة... كان الجرحى مكدسين في بهو الدار، على وجوههم آثار اللَّكم والضرب وعلى ملابسهم بقع من الدم، وفي عيونهم الشاردة خوف وترقب. ثم يضيف: كانت العائلات تصل تباعا، فتسمع من بعيد عويل النساء وصراخهن، حتى إذا اقتربت من الدار ارتفعت الأصوات وعم الأنين فتنضم إلى البكاء وسط مأتم حزين.. كان الناس يشعرون بالظلم والإهانة و«الحگرة» وكأن المغرب لطائفة دون غيرها. تدفق الناس في تلك الليلة الحزينة على دُور حي «باب احساين»، حيث وصل مُعزون من البيضاءوالرباط واتضح أن عدد القتلى وصل إلى أربعة شهداء، واحد منهم من سلا وأن عدد الجرحى والمفقودين يعدون بالعشرات. ويحكي الذين حضروا تلك المجزرة التي وقعت يوم الاثنين 23 يناير 1965، أن الاستقلاليين الذين كان عددهم كبيرا رفضوا حضور خصومهم السياسيين ونعتوهم بالخونة، بل تطور الأمر إلى أن شخصا قيل إن اسمه قريون استولى على الميكروفون وقال: «اقتلوا الشوريين اليهود»، فأخرج المهاجمون السكاكين وغيرها من الأسلحة البيضاء وانهالوا ضربا وتقتيلا في الشوريين. وشاءت الأقدار نجاة ركاب حافلة قادمة من الرباط، تحمل شبابا وكشافة، تم تطويقها وفُتِح خزان وقودها وشُرع في إيقاد النار لإحراق راكبيها، لكنهم استطاعوا النزول والدخول في عراك مع المهاجمين ثم الفرار من الساحة. ولم يقتصر المهاجمون على القتل والجرح بل إنهم نكَّلوا بجثامين القتلى فشوهوها وقطعوا أجزاء من عوراتها... ليلة القبض على «المجرم» عبد الرحمان اليوسفي رنَّ هاتفُ منزلي بعد منتصفِ الليل، كان صوتُ مدير عام الإذاعة والتلفزة (.....) مبحُوحاً، قال لي: أرجوك أن تلتحق بي فوراً في التلفزة، يقول معنينو ويضيف: قلت له «يَاكْ لاَبَاسْ؟» رد عليَّ مُتثاقلا... «شِي حَاجَة خَايْبَة دَازتْ في التلفزة». وأنا في طريقي كنت ألْعَن هذه المهنة ومشاكلها راجيا أن تتغير الأمور. عند وصولي بادَرني المدير العام بالقول: لقد كلَّمني الوزير السِّي أحمد (.....) غاضبا، وأخبرني أن شيئاً خطيراً مرَّ في شاشة التلفزة وأنه يطلبُ مني أن أراقب المواد التي تم بثُّها وأن أحيطه علما عندما أعثرُ على الخطأ!! وأضاف أن الوزير طلب منه أن يكلمه في أية ساعة عثَر فيها على «هذه المُصِيبة» وهدَّده بأن العقاب سيكون صاعقاً. قلت له لا شك أن الأمر يتعلق بالأخبار، لذلك سارعنا إلى مشاهدة اللَّقطات التي تم تقديمها، ضمن نشرات الأخبار ومراجعة النصوص التي تمَّت قراءتها وخَلُصْتُ فوراً إلى أنه ليست هناك «مُصيبة» في الأخبار. شاع الخبر وأخذ عدد من العاملين يتقَاطرون على التلفزة، لذلك قرَّرنا توزيع الأدوار، فالمدير العام سيشاهد الشريط المطول وآخرون سيراقبون المنوعات وأنا سأشاهدُ المواد الأخرى «من القرآن إلى القرآن»، أي من بداية الإرسال إلى نهايته. قضى معنينو عدَّة ساعات في مشاهدة المواد والبرامج محاولا العثور على «المُصيبة» لكنه لم يعثر عليها. وعن ذلك يقول: عندما انتهينا أبلغَ المدير العام الوزير بأننا لم نعثُر على أيِّ خطأ. رد الوزير بعُنف وبِلغةٍ تنقُصها أدنى قواعِد الاحترام، فقد كان ثائراً ومُنْفعلا لذلك جدَّد تعليماته للمدير العام بمراجعةِ كافة المواد ومشاهدتها شخصياً والاستعانة بكافة مُساعديه. غادر المديرُ العام (.....) مكتبه في حالة إِرْهاق، بعد ليلة كاملة من المشاهدة، يحكي معنينو، ومع ذلك، وجدَ الكلمات المناسبة لدعوتِنا لإعادة مراقبةِ كافة الموادِ مع الانتباه إلى أدْنى التَّفاصيل، وأضاف: «الوزير في حالة من التوتر والقلق وكأن الأمر يتعلق بخطإ جسيم». توكَّلنا على الله وشرعنا، من جديد، في مُرَاقبة المواد. وتطلَّب الأمر ما يناهز تسعَ ساعات، كنا نتوقفُ للتأكد من بعض الصور، كما كنَّا نعيد مشاهدة لقطات ونتيقَّن من بعض تفاصيلها ولم ننته إلا بعد الظهر. كنا في حالة متقدمة من العياء بعد أن قضينا الليل بكامله نشاهدُ ونعيدُ مشاهدة برامجَ عادية وتافهة، محاولين العثور على «المُصيبة» كما سمَّاها الوزير. اتَّفقنا في النِّهاية على أن البرامج سليمة وأنَّنا لم نكتشف أيَّ خطإ فبالأحرى «الخطأ الجسيم». تحلَّى المدير العام بكل شجاعتِه وأبلغ الوزير(.....) «هذا الخبر السعيد»...! لكن الوزير رفض هذه الخلاصة، وأخبر المدير العام أنه سيُرسل إليه مدير دِيوانه لمساعدتنا على العثور على «المُصيبة». وعندما حضر مدير الديوان، حمُّودة، وهو من أصل مكناسي، وكان سفيراً للمغرب في السنيغال، سأَلَنا بدوره عن أسباب هذا القلق، وهذا العياء البادي على وجوهنا، يضيف معنينو: كان الرجل طيباً ومؤدباً وبدا لنا أنَّه، مثلنا، لا علم له بمجرياتِ الأمور. حكينا له القصَّة من بدايتها إلى نهايتها وأكدنا له أننا بحْثنا وشاهَدنا وراقَبنا ولكننا لم نعثر على لقطةٍ أو كلمةٍ يمكنُ اعتبارُها خطأً، فبالأحرى «مُصيبة». اندهش الرجل ورجَانا أن تبقى الأمورُ سرية، واقترح علينا أن يقومَ بدورِه بمراقبة البرامج والأشرطة. وبعد عدة ساعات من المشاهدة أخبرَ بدوره الوزير(.....)، بأنه لم يُلاحظ وجودَ أدنى خطإٍ وأنه يرجو أن يحدِّد له ما المقصود بالخطإ، فأجاب الوزير: الخطأ جسيم. وجدنا أنفسنا، يقول محمد الصديق معنينو، في مأزق لا نَدْري كيفية التَّخلص منه، كان بعضنا متشنِّجا، وكنت واحداً منهم، وكان بعضُنا الآخر غيرَ عابِئ بما يجري، وكان من بينهم العربي الصقلي، وكانت هناك جماعة ثالثة تتابع الأحداث متوارية إلى الخلف تنتظرُ الانفجار وكان من بينهم الطاهر بلعربي. أبلغَنا الوزير أن الكاتب العام لوزارة الأنباء عبد السلام زنيند في طريقه إلينا. وصل الرجل، المتميز بهدوئه، وبدأ بلهجته «الوزَّانية» يستفسرنا عمَّا جرى وعن تطورات الأحداث والدافع إلى هذه التَّعبئة الجماعية لأطر الوزارة وأطر التلفزة، ودعانا عبد السلام زنيند إلى التحلي بالهدوء والتأكد من كل اللَّقطات وتولَّى بدوره مراقبةَ بعض المواد ولم يعثر على «المُصيبة». انصرف الكاتبُ العام ومديرُ الديوان وأصبحت لدينا قناعةٌ بأنهما ليسا على علم «بالخطأ المصيبة» وأن الوزيرَ لم يُطْلعهما على ما لديه من معلومات. لقد بذلا ما في استطاعتهما من جهد وانسحبَا تاركَيْن «أصحاب التلفزة» يُواجهون مصيرهم. ويتابع معنينو الحديث عن هذه المتاهة التي ستنتهي بالقبض على المعارض عبد الرحمان اليوسفي، قائلا: أنهيْنَا الليلة الثانية في الغرف الضيِّقة للتلفزة. لقد ارتفع عددُنا بعد أن تطوَّعت مجموعةٌ من الصحافيين والعاملين في الإنتاج لمساعدتنا نظرا لوصولنا إلى الباب المسدود. كانت المرة الرابعة التي نشاهدُ فيها هذه البرامج ونحاول العثور على «الخطإ القاتل» الذي تسبب لنا في كلِّ هذه المتاعب. وفجأة أخبرنا الوزير أنه سيحضر شخصياً إلى التلفزة في الحادية عشرة صباحاً. دخل الوزير قاعة المُونطاج وسأل عن شريط الأخبار، أجابه العربي الصقلي مدير الأخبار، بأنه شاهَده شخصياً وتأكد من خلُوِّه من أي خطإ. لكن الوزير ألحَّ في طلبِه فقام عبد الحق عزيزي بتركِيبه على طاولة المونطاج المُتَهالكة. لكن الوزير أوقفه متسائلا: إذا أردتُ التَّوقُّف عندَ لقطة فعلى أي زرٍّ يجب أن أضغط؟ أجابه عبد الحق: هذا الزرُّ الأزرق. وبدأت اللقطات تمر تباعا وكنا نحن «أصحابَ الأخبار» في ضيْق شديد. فجأة، يضيف معنينو، ضغط الوزير على الزرِّ الأزرق، فتوقَّف الشريط وبقيت مبثوثةً صورةُ رجل. صاح الوزير: من هو هذا الشخص؟ كان العربي الصقلي أولَّ من انحنَى وعايَن الصورة، ثم تبِعه الطاهر بلعربي، ثم جاء دوري، ولم يستطع أحدُنا التعَّرف على ذلك الشخص. كان الشريط القصير الذي تم تمريره في نشرة الأخبار، يتعلق بمحاكمةٍ تجرى وقائعُها في جنيف، ويتعلق الأمر ببعض الفلسطينيِّين المتهمين بأعمالٍ إرهابية. كان الفصل شتوياً، لذلك ظهر صاحب الصورة وقد ارتدَى معطفاً طويلا وعلى رأسه قبعة روسية الصنع وهو يغادر المحكمة ويركب سيارة. كانت اللقطة قد أُخِذت ليلا وكان واضحاً أن الأمطار تتهاطلُ مما ضاعف من صعوبة التعرُّف على ذلك الشخص. كرَّر الوزير بصوتٍ مرتفع فيه لوم وعتاب، يقول معنينو: من هو هذا الشخص، ألم تتعرَّفوا عليه؟ إنه عبد الرحمان اليوسفي. ألم تعُد لكم عيون؟ ألم تتعرفوا على هذا المجرم. أنتم غيرُ جديرين بالمسؤولية. اتخذ الوزيرُ فور عودته إلى مكتبه مجموعةَ قرارات، أولُّها توقيف مؤقت لمدير الأخبار، العربي الصقلي، كما أوقف محمد الصديق معنينو بدوره لمدة شهر دون راتب، مع تدوين «توبيخ» في ملفه الإداري. وللحقيقة، يستطرد معنينو قائلا، أود الاعتراف، بعد مرور كل هذه السنين، بأن أيَّ واحدٍ منا لم يتعرَّف على الرجل، نظرا لسرعة مرور صورته وظروف التقاطها. كان اليُوسفي محامياً أمام محكمة سويسرية، للدفاع عن متَّهمين فلسطينيين، ولم نكن نعلم بذلك. حكيت هذه القصة بتفاصيلها لأحد الأصدقاء يوم تعيين اليوسفي وزيراً أولاً، حينما كنا نشاهدُ معاً نشرة الأخبار بالتلفزة المغربية وهي تبثُّ ربورتاجاً عن حفل تنصيب ما اصطُلح عليه بحكومة التناوب. كان الحسن الثاني مبتسماً وكان اليوسفي ضاحكاً وقلت لصديقي: سبحان مبدل الأحوال، فأجابني بملاحظة فلسفية: هناك شيء ما تغير، لكنَّني لا أستطيع القول بدقة من تغير ولماذا تغير؟! الحسن الثاني يسخر من الانقلاب عليه عن محاولة أوفقير إسقاط طائرة الحسن الثاني في غشت 1972، يحكي محمد الصديق معنينو، على لسان مؤرخ المملكة عبد الوهاب بنمنصور. يقول: خلال استجوابي لمؤرخ المملكة عبد الوهاب بنمنصور حول ذكرياته مع «محمد الخامس» أثناء احتفالات المغرب بالذكرى الخمسين لرجوعه من المنفى دار بيننا حديث، لا أدري كيف استغله مؤرخ المملكة، فحكى لي قصة مثيرة حول محاولة انقلاب الصخيرات. هذه القصة أكدت مرة أخرى أن إشارات ورسائل واضحة وصلت إلى الحسن الثاني من أفراد عائلته ومن أقرب مساعديه ومن ضباط في جيشه كلّها تتهم أوفقير بالاستعداد لتنظيم انقلاب عسكري، ولكن الحسن الثاني لم يتخذ أي قرار أو أية مبادرة وظل كالفراشة أمام الأضواء الكاشفة لا يقوى على الحركة مشلولاً ومستسلماً. قال لي عبد الوهاب بنمنصور، يضيف معنينو، إن شخصا زاره ليلا بمنزله وطلب مقابلته فوراً مدَّعيا أنه جاء بأمانة من القصر يودُّ تسليمها له. عند خروجه إلى الباب لاحظ بنمنصور أن الزائر يلبس جلباباً ويضع على رأسه طاقية وحول عنقه قطعة قماش تخفي جزءاً من وجهه... رحَّب بنمنصور بالزائر، دون أن يعرفه- معتقداً أن الملك بعث له شيئاً- وهو ما سماه الزائر ب«الأمانة»، وعندما ولجا الحديقة بعد أن رفض الزائر دخول المنزل قال له: «أنا ضابط في الجيش، عندي الثقة الكاملة فيك، جئتك مخاطراً بحياتي، أرجوك إخبار الملك أن أوفقير يقوم بإعداد انقلاب وأن عدداً من الضباط وافقوه وأيَّدوه، وأن الاستعدادات جارية والاجتماعات متواصلة. قل للملك أن يحتاط من أوفقير، فقد سمعته يقول كلاما بديئا في حقه. قل للملك بأن عدداً من المقرّبين منه على علم بهذه الاستعدادات وبأنهم اندمجوا في مشروع الانقلاب. وأضاف الزائر بأن موعد العملية لم يحدد ولكنه قريب وربما على الأبواب. اندهش عبد الوهاب بنمنصور لتلك المعلومات وأصابه الفزع وشكر زائره، الضابط في القوات المسلحة، على شجاعته ووفائه ووعده بأنه سيبلغ الملك كافة هذه المعلومات. توجه بنمنصور، يتابع معنينو، كعادته كل صباح إلى إقامة الحسن الثاني بالصخيرات وجلس وسط المُقربين من الملك وهم في حوارات هي ما بين المجاملة والنميمة، والتحق بهم الملك في تلك الجلسة، وفي نهايتها تسمَّر بنمنصور في مكانه وانحنى أمام الملك. فَهم الحسن الثاني أن بنمنصور يريد الحديث معه رأسا لرأس. على جانب مسبح الصخيرات، يقول محمد الصديق معنينو: تحدث بنمنصور بصوتٍ منخفض ومضطرب فحكى للملك ما نقله إليه الضابط وقال: لقد أوصاني أن أتحدث إلى جلالتكم بصوت منخفض خوفاً من الميكروفونات التي ادّعى أنها مبثوثة في عدد من الغرف. استمع الملك إلى حكاية بنمنصور حتى نهايتها، فكَّر قليلاً، أشعل سيجارة وبدا عليه بعض التردُّد وقال لبنمنصور: أُطْلب منه أن يحرر رسالة تتضمن بدقة كل هذه المعلومات. انحنى بنمنصور أمام الملك وقال له: الله يُطوِّل عمر سيدي، نعم آسيدي. ويضيف معنينو أن مؤرخ المملكة أخبره بأنه بعد محاولات عديدة، ومروراً عبر عدة مسالك تمكن من إبلاغ الضابط رغبة الملك في إعداد مذكرةٍ تتضمن كافة المعلومات والتفاصيل والأسماء حتى يتدبَّر «سيدنا» هذا الأمر. بعد يومين، عاد الضابط إلى طرق باب منزل بنمنصور بعد اتخاذ كافة الاحتياطات حتى لا ينكشف أمره، سلَّم مذكِّرته مطبوعة وغير موقعة. احتاط الضابط عند تسليم الرسالة بحيث أخرجها من تحت جلبابه وقد وضع على يده اليُمنى قُفازاً حتى لا يترك بصمات. كان الضابط من المخابرات العسكرية المغربية، وكان خبيراً في تدبير مثل هذه العمليات التي تتطلب مهنية عالية. ويستطرد معنينو قائلا إن بنمنصور ذهب عند الملك إلى الصخيرات، وفي يده ملف سميك، به بعض الوثائق التاريخية، وقد وضع في وسطه المذكرة السرية التي تحكي عن الاستعدادات الجارية لقلب نظام الحكم وعن الاجتماعات التي يعقدها أوفقير وعن أقوال زوجته في المنتديات. اختار بنمنصور الوقت المناسب وقدم الرسالة إلى الملك، الذي تناولها وقرأها وعلق عليها قائلاً: تحرير هذه الرسالة ضعيف وبها أخطاء لغوية ونحوية. ويتابع معنينو نقلا عن مؤرخ المملكة الذي قال له: شعرت برعشة تهز جسدي، وكاد يغمى عليَّ، وخفت أن يعلم الجنرال أوفقير بمبادرتي وندمت على استقبالي للضابط ونقلي لأقواله ثم لرسالته. فعوض أن يشكرني الملك وينوِّه بعملي، ها هو يستهزئ مني ومن رسالتي. وتساءل بنمنصور: هل الملك كان على وعي بخطورة الأوضاع أو أنَّ ثقته في أوفقير كانت من الصلابة والقوة ممَّا حجب عنه الحقيقة؟ وأكد لي بنمنصور، يقول معنينو، أنه بعد أحداث الصخيرات لم يفتح معه الحسن الثاني موضوع الرسالة كما لم يجرؤ بنمنصور على تذكير الملك بها. الرئيس المهدي بن بركة في بداية نونبر 1965 افتتح «محمد الخامس» أشغال المجلس الوطني الاستشاري، وكان والد محمد الصديق معنينو، الحاج أحمد، عضوا بالمجلس... حينها كانت أغلبية أعضاء المجلس من حزب الاستقلال وكان المهدي بن بركة هو رئيس المجلس. يتذكر محمد الصديق معنينو أن والده أخذه معه لمتابعة إحدى جلسات هذا المجلس وعمره إذاك ثلاث عشرة سنة. جلس الطفل داخل قاعة المجلس، في المقاعد الخلفية المخصصة للمدعوين، كما يتذكر أن تدخل والده كان قويا وبصوت مرتفع احتجاجا على انعدام الحريات وانتهاكات حقوق الإنسان، وكيف أن رئيس المجلس المهدي بن بركة قاطع والده عدة مرات راجيا منه العودة إلى الموضوع، وكان الحاج أحمد يحتج على هذه المقاطعة ويطالب بالسماح للمعارضة بالتعبير عن رأيها. تابع الابن باهتمام بالغ أطوار هذه الجلسة، قبل أن يفاجأ بأحد أعوان المجلس يطلب منه مغادرة القاعة بأمر من الرئيس. سأل عون المجلس الابن معنينو من هو أبوك؟ فأجابه: والدي هو الحاج أحمد معنينو. صمت العون وانصرف ثم التحق بمنضدة الرئيس وتكلم في أذنه، فابتسم بن بركة. عند نهاية الجلسة، أخبر محمد الصديق والده بما حدث فقال له: لنذهب عند بن بركة. كانت هذه أول مرة سيرى الطفل معنينو المهدي بن بركة عن قرب. ومن ذلك اللقاء السريع، احتفظ في ذهنه بقصر قامة الرجل، وحركيته الدائمة وانفعاله السريع. قال الحاج أحمد معنينو ممازحا بن بركة: ابني سيكون رئيسا لهذا المجلس مستقبلا. فأجاب بن بركة مازحا هو الآخر: في ابنك التقى عيبان الأول أنه سلاوي والثاني أنه شوري.. فلا هذا ولا ذاك يؤهله لكي يصبح رئيسا.