مفتي القدس يشيد بدعم المغرب تحت قيادة جلالة الملك لدعم صمود الشعب الفلسطيني    "إسرائيليون" حضروا مؤتمر الأممية الاشتراكية في الرباط.. هل حلت بالمغرب عائلات أسرى الحرب أيضا؟        إنقاذ مواطن فرنسي علق بحافة مقلع مهجور نواحي أكادير    ترامب يهدد بمحاولة استعادة قناة بنما    هيئة المعلومات المالية تحقق في شبهات تبييض أموال بعقارات شمال المغرب    المغرب يخطط لإطلاق منتجات غذائية مبتكرة تحتوي على مستخلصات القنب الهندي: الشوكولاتة والدقيق والقهوة قريبًا في الأسواق    تشييع جثمان الفنان محمد الخلفي بمقبرة الشهداء بالدار البيضاء    فريق الجيش يفوز على حسنية أكادير    شرطة بني مكادة توقف مروج مخدرات بحوزته 308 أقراص مهلوسة وكوكايين    المغرب يوجه رسالة حاسمة لأطرف ليبية موالية للعالم الآخر.. موقفنا صارم ضد المشاريع الإقليمية المشبوهة    المغرب يحقق قفزة نوعية في تصنيف جودة الطرق.. ويرتقي للمرتبة 16 عالميًا    حفيظ عبد الصادق: لاعبو الرجاء غاضبين بسبب سوء النتائج – فيديو-    دياز يساهم في تخطي الريال لإشبيلية    فرنسا تسحب التمور الجزائرية من أسواقها بسبب احتوائها على مواد كيميائية مسرطنة    وزارة الثقافة والتواصل والشباب تكشف عن حصيلة المعرض الدولي لكتاب الطفل    فاس.. تتويج الفيلم القصير "الأيام الرمادية" بالجائزة الكبرى لمهرجان أيام فاس للتواصل السينمائي    التقدم والاشتراكية يطالب الحكومة بالكشف عن مَبالغُ الدعم المباشر لتفادي انتظاراتٍ تنتهي بخيْباتِ الأمل    بلينكن يشيد أمام مجلس الأمن بالشراكة مع المغرب في مجال الذكاء الاصطناعي    مسلمون ومسيحيون ويهود يلتئمون بالدر البيضاء للاحتفاء بقيم السلام والتعايش المشترك    جلالة الملك يستقبل الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني    الجزائر تسعى إلى عرقلة المصالحة الليبية بعد نجاح مشاورات بوزنيقة    الرجاء يطوي صفحة سابينتو والعامري يقفز من سفينة المغرب التطواني    العداء سفيان ‬البقالي ينافس في إسبانيا    انخفاض طفيف في أسعار الغازوال واستقرار البنزين بالمغرب    رسالة تهنئة من الملك محمد السادس إلى رئيس المجلس الرئاسي الليبي بمناسبة يوم الاستقلال: تأكيد على عمق العلاقات الأخوية بين المغرب وليبيا    مباراة نهضة الزمامرة والوداد بدون حضور جماهيري    رحيل الفنان محمد الخلفي بعد حياة فنية حافلة بالعطاء والغبن    لقاء مع القاص محمد اكويندي بكلية الآداب بن مسيك    لقاء بطنجة يستضيف الكاتب والناقد المسرحي رضوان احدادو    بسبب فيروسات خطيرة.. السلطات الروسية تمنع دخول شحنة طماطم مغربية    الرباط.. مؤتمر الأممية الاشتراكية يناقش موضوع التغيرات المناخية وخطورتها على البشرية    مقاييس الأمطار المسجلة بالمغرب خلال ال24 ساعة الماضية    غزة تباد: استشهاد 45259 فلسطينيا في حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة منذ 7 أكتوبر 2023    ندوة علمية بالرباط تناقش حلولا مبتكرة للتكيف مع التغيرات المناخية بمشاركة خبراء دوليين    تفاصيل المؤتمر الوطني السادس للعصبة المغربية للتربية الأساسية ومحاربة الأمية    البنك الدولي يولي اهتماما بالغا للقطاع الفلاحي بالمغرب    ألمانيا: دوافع منفذ عملية الدهس بمدينة ماجدبورغ لازالت ضبابية.    استمرار الاجواء الباردة بمنطقة الريف    بنعبد الله: نرفض أي مساومة أو تهاون في الدفاع عن وحدة المغرب الترابية    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    حملة توقف 40 شخصا بجهة الشرق    ندوة تسائل تطورات واتجاهات الرواية والنقد الأدبي المعاصر    استيراد اللحوم الحمراء سبب زيارة وفد الاتحاد العام للمقاولات والمهن لإسبانيا    ارتفاع حصيلة ضحايا الحرب في قطاع غزة إلى 45259 قتيلا    القافلة الوطنية رياضة بدون منشطات تحط الرحال بسيدي قاسم    سمية زيوزيو جميلة عارضات الأزياء تشارك ببلجيكا في تنظيم أكبر الحفلات وفي حفل كعارضة أزياء    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    وفاة الممثل محمد الخلفي عن 87 عاما    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قصة احتلال وتحرير الإذاعة الوطنية في انقلاب الصخيرات
نشر في هسبريس يوم 11 - 06 - 2010


في أفق الذكرى 39 لانقلاب الصخيرات
1971---2010
من أبرز محاولات اغتيال الراحل الحسن الثاني يقع التأشير علي عمليتي الصخيرات والطائرة ، وقد قيل أنه كان يتمتع ( ببركة ) تقيه من المخاطر التي كان يتعرض لها ، ومنها ست محاولات اغتيال خلال سنوات حكمه التي امتدت إلى 38 سنة . وقد عشت جزء من واحدة منها التي كانت بدرجة انقلاب عسكري والمعروفة بعملية الصخيرات .
لقد حاولت جاهدا نسيان أحداث تلك التجربة المرعبة في حياتي ، حيث أني وبرغم كتاباتي في شتي المواضيع ومنها بالخصوص الوطنية والمحلية فاني تحاشيت التطرق إلى انقلاب الصخيرات الذي وجدت نفسي محشورا في فصل من فصوله الدموية . والحالة أنه منذ وقوع تلك المحاولة الفاشلة قيل وكتب الكثير عنها. ومن خلال متابعتي لما نشر حول الموضوع كانت هناك عدة أخطاء في وقائعها ،وأكثرها نسب إلى أشخاص لم يعيشوها ، بل تناهت إليهم شفاهيا بكثير من النقائص .
الآن قررت أن أحكي عن الفصل الذي عشته ، وكباقي الفصول فقد كان دمويا بامتياز . وقد سنحت الفرصة والصدفة في عزمي علي اتخاد القرار ، حيث أن الزميل والصديق أحمد بومقاصر استغل لحظة بوح قصيرة وغير مقصودة لينقض علي الحاحا واصرارا علي أنه ليس من حقي الاحتفاض بصفحة مبهرة علي حد قوله من صفحات حياتي الشخصية والمهنية ، وأن الأمر ليس شخصيا وعلي نشر الصفحة كما كتبت من أرض الواقع .
هكذا لاح العزم فتوكلت علي الله .
صباح يوم السبت العاشر من يوليوز 1971 وهو اليوم الموإلى لما كان معروفا بعيد الشباب الذي كان يرمز لميلاد الراحل الحسن الثاني لم يكن عاديا ، حتي أنه لم يكن يوما من أيام الصيف القائضة ، وقد بدأ إلىوم بجو كئيب أحسست به وأنا أهم بمغادرة مقر سكناي بحي المحيط بالرباط في التاسعة صباحا متوجها عند صديق كنا معا نشتغل في نفس المصلحة بالتلفزة المغربية يقطن بحي حسان ، وهي مسافة طويلة نسبيا أقطعها عادة في 45 دقيقة مارا بالسويقة وحديقة حسان ، وعلي طول تلك المسافة لم ألحظ أية حالة مثيرة للانتباه ، فحركة السير بطيئة وقليلة والشوارع والأزقة شبه خإلية وهي حالة عامة في يومي السبت والأحد بالرباط .
وصلت عند صديقي حوإلي العاشرة صباحا لأجده لا زال يغط في نومه كعادته ، بالمناسبة هذا الصديق من مدينة تطوان وبعد المسيرة الخضراء انتقل إلى العيون وبقي بها إلى إليوم بعد تقاعده .
أثناء فترة الاستعداد ليصحو من نومه قمت باعداد الفطور وانخرطنا في مناقشة أحوالنا المهنية والإدارية والمالية إلى أن وصلنا إلى مرحلة إعداد وجبة الغذاء التي أنهينا إعدادها والتهامها في الثانية بعد الزوال ولم نستطع معرفة ما يجري في الخارج لأنه بكل بساطة لم يكن لديه مذياع ولا جهاز تلفزيون ، وأصلا لم يكن يخطر ببالنا أن تقع أحداث في ذلك الصباح .
في الثانية بعد الظهر خرجنا معا متجهين إلى مقرالتلفزة المغربية حيث كنت في يوم عطلة وصديقي في دوام عمل ، وكان مقررا أن يبدأ الاعداد للعمل في الثانية والنصف حيث توقيت انطلاق الارسال التلفزيوني في الثالثة مساء كل سبت وأحد بدل السادسة في الأيام العادية.
من مقر سكناه في حي حسان إلى الكنيسة في ساحة العلويين لم نلحظ مايثير الانتباه وبعدها وبالضبط في ساحة (بيتري )التي كانت تضم سوقا للورود بدأنا بالفعل نلحظ حركة غير عادية لم ندري كنهها حتى وصلنا إلى مقر لإحدى بعثات الأمم المتحدة ، هناك لاحت لنا دبابة مصوبة مدفعها اتجاهنا ، وبسذاجة مفرطة اعتقدنا أن الملك في زيارة إلى مقر الاذاعة والتلفزة المغربية في زنقة البريهي ، واستولت علينا هواجس غريبة من هذه الصدفة لزيارة الملك في يوم سبت والاستعدادات قائمة للاحتفال بعيد مولده في قصر الصخيرات .
عندما وصلنا إلى الدبابة أوقفنا جنديان بأسلحتهما الرشاشة للاستفهام عنا وعن مرادنا ،أطلعناه علي هويتنا التي أسرعت برد فعل قاس منهما حيث أشهرا السلاح في وجهينا وصرخا في وجه جندي آخر أمران له باقتيادنا إلى مقر الاذاعة ، حينذاك أحسسنا أن الأمر خطير ، ولم يكن من الحكمة الدخول في أي حوار أو مناقشة قد تكون عواقبهما غير محسوبة . تكفل الجندي باقتيادنا ، وعند المنعطف وقريبا من باب الدخول اتضحت لنا الأمور بجلاء تام وفهمنا ما يدور ويروج .
في هذه اللحظة وأمام باب المطعم القريب من الاذاعة لفت نظري قدوم السيد الطيب معنينو الذي كان مسؤولا عن مصلحة الأخبار في التلفزة المغربية حيث ترجل من سيارته ( سيمكا 1000 ) وقدم نفسه لواحد من الجنود الذين كانوا يحرسون المداخل المؤدية لمقر الاذاعة متأبطين أسلحتهم .
وقع حدث اقتيادنا أنا وزميلي ومعنينو في وقت متقارب ، وبالتالي فقد وضعنا أرجلنا في أول درج من المدخل في نفس اللحظة . هنا يبدأ فصل من ملحمة احتلال الاذاعة . كانت الساعة تشير إلى الثانية بعد الظهر وعشرون دقيقة ، ونحن نهم بالصعود لاح لنا واحد من أكبر رؤوس الانقلاب العسكري وهو الكولونيل اعبابو يتقدمه ضابطان وذراعه اليمنى ملطخة بالدم ، وكان واضحا أنها تعرضت لرصاصة ، قدم الجندي التحية العسكرية وقدمنا له ، امره واحد من الضباط المرافقين لعبابو بادخالنا إلى حيث الآخرون ، ولم نعرف حينها من هم ولا أين ، وبحركة عنيفة دفعنا الجندي إلى الداخل ، صعدنا الأدراج المؤدية إلى الطابق الأول حيث استوديو رقم 4 المشهور . هنا دخلنا مرحلة أخري من مراحل التيه والخوف ، ولم يكن يخطر ببالنا أن أري وجوها معروفة محجوزة كالوجوه التي وجدناها : عبدالحليم حافظ ، عبدالسلام عامر وزوجته ، كانا أبرز وجهين وغيرهما . في هذه اللحظة كانت الاذاعة تذيع الموسيقي العسكرية يتخللها صوت المرحوم عبدالسلام عامر وهو يعلن عن الانقلاب ويشيد بالانقلابيين ، في نفس الآن الذي يحاول فيه ضابط بلهجة هادئة اقناع عبد الحليم حافظ بالمساهمة في العملية ، وأعتقد أنها كانت آخرمحاولة حيث سمعت الفنان المصري الراحل يستعطف الضابط ليفهمه أنه فنان ولا دخل له في السياسة ويعتذر بأدب عن عدم قدرته علي الانخراط بالصوت دعما للانقلابيين ، فتنحي الضابط بأدب وأشاح بوجهه عن عبدالحليم حافظ حيث كان جالسا بالقرب من عبد السلام عامر الذي كان يستمع لصوته مبثوثا علي أمواج الاذاعة ، وقد رأيت في ملامحه رحمه الله مسحة من الألم الممزوج بالخوف وكذلك الشأن بالنسبة إلى زوجته .
إذا كنت قد وصفت هذه الذكريات بفصل من فصول المحاولة الانقلابية ، وإذا كنت أستعمل كلمة مرحلة من مراحل هذا الفصل ، هنا أيضا واحدة منها ، حيث التحق بنا المذيع المشهور محمد بنددوش الذي كان مسؤولا عن مصلحة التحرير في الإذاعة ، فقد وصل للتو ولا أدري صدقا هل كان مجيئه مبادرة شخصية أم بحث عنه وأحضر ،علي أية حال فقد انخرط مباشرة في العمل وحرر بلاغا عسكريا آخر بالتشاور مع الضباط وسجله ليذاع بدلا من التسجيل الذي كان يذاع بصوت عبدالسلام عامر .
كل هذه الأحداث مرت في حوالي ثلاث ساعات ولم نكن نعلم ما كان يجري خارج الأستوديو سواء في الإذاعة أو في الجهة الأخرى من البناية حيث استوديوهات التلفزيون ، وهي بناية واحدة من ثلاثة طوابق ، الطابقين الأرضي و الأول يضمان المصالح الإدارية والمإلىة والإذاعة والتلفزيون ويربط بينهما ممر في كل طابق . هذه ( الجيولوجيا ) الهندسية البسيطة لم تسعف الانقلابيين من اكتشاف ما هو هنا وما هو هناك ، بمعني إما أنهم كانوا يراهنون علي الإذاعة فقط أو كانوا يجهلون موقع استوديوهات التلفزيون ، وقد احترت في فهم الأمر بعد اقتيادنا ( بالصدفة ) وعن طريق الوشاية إلى تلك الأستوديوهات . فحوالي الخامسة مساء وبعد أن اكتظ استوديو رقم 4 بالإذاعة بالمحتجزين أمر ضابط بالإبقاء علي معنينو وبنددوش وعبدالحليم حافظ وعبدالسلام عامر وزوجته واخراج الباقين إلى ردهة مؤدية إلى مدخل الممر الموصل إلى التلفزيون ، وكنا حوالي 15 شخصا ، وهناك سمعت أن ( باالعربي ) المكلف بمقسم الهاتف قد قتل برصاصة في فخده من طرف أحد الجنود لأنه لم يمتثل لأمر التوقف عن تشغيل المقسم ، وكان ( باالعربي ) رجلا لطيفا ومتواضعا وخدوما وصبورا ووضعيته الإدارية مزرية بدرجة متدنية كعون عمومي . رحمه الله .
أثناء تجميعنا في الردهة كنا بحراسة أربعة جنود مسلحين بالرشاشات ، هنا تبدأ مرحلة أخري ، وهي أقوي مرحلة حيث اتسمت بالانتهازية والخوف والرعب والإحساس بالضياع ، وقد تكررت هذه الصورة مرتين ، الأولي في لحظة تجميعنا تلك حين قام شخص معروف بالانتهازية والرياء والتناقض في المواقف والولاءات بمحاولة استغلال هذه الضائقة ليجعل منها فرصة العمر التي لن تتكرر ، واعتقد أن ما يجري يمكن استثماره للحصول علي منافع ومكانة تؤهله ليربط مصيره مع المؤسسة العسكرية عن طريق المحاولة الانقلابية . ففي غفلة من الجميع تسلل لحظة ظهور أحد الضباط ليؤدي له التحية العسكرية بطريقة مهينة ومذلة وأسر له بفرنسية ركيكة بما يوحي بأنه مسؤول في التلفزيون وعرض عليه خدماته ، وقد لاحظت أن الضابط اهتم بالتلفزيون وليس بالشخص الذي أمامه ، فقد أصدر أمرين ، واحد لهذا الانتهازي ليكون دليلا وآخر لجندي لإحضار تعزيزات لاقتيادنا .
ولأول مرة وبفضل ذلك الانتهازي يعرف الانقلابيون أن مقر التلفزة المغربية يوجد في نفس البناية مع الإذاعة والانتقال من واحدة إلى أخري عن طريق ممر مشترك يربط بينهما . وتحت تهديد السلاح تم اقتيادنا إلى استوديو الإرسال في الطابق الأول الذي يقع مباشرة فوق استوديو التلمساني الذي كان مخصصا لتسجيل السهرات والمسرحيات والندوات والبرامج الخاصة . وبما أن الجنود الذين يرافقوننا لم تكن لديهم أية فكرة عن جغرافية المكان فقد تطوع الانتهازي بإرشادهم ، وتصرف معنا بخسة مفرطة حيث بدأ يعطي الأوامر لتنفيذ أمور يعلمها ولكنه كان يجهل كيفية تطبيقها مهنيا وعمليا وبالخصوص من الناحية التقنية .
كان أول ما فعله الانتهازي هو إنزال صورة الملك من فوق كرسي كانت توضع فوقه لتلتقطها الكاميرا عند افتتاح الإرسال التلفزيوني حيث كانت تبث مصحوبة بموسيقي الشعار الوطني ، وكانت حركته تلك بادرة دنيئة قصد بها إرضاء الانقلابيين اعتقادا منه أن عهد الملك الراحل انتهي وبدأ عهد جديد مع المحاولة الانقلابية ، كما أشار إلى بعض الزملاء بتشغيل الأجهزة التقنية من كاميرا وصوت وغيرهما لقد كنت علي يقين بأن شيئا ما سيعيق كل الاستعدادات للبث التلفزيوني بحكم معرفتي بالخطوات التقنية والهندسية والفنية المطلوب توفرها لكل بث تلفزيوني ، أهمها أن تكون محطة البث الهيرتزية في ضواحي الرباط مشتغلة بكل طاقتها وإلا فانه لن يقع أي بث من الأستوديو ولو كان مستعدا من كافة النواحي ،وهذه هي اللحظة الحاسمة والخطيرة التي كنت أتخوف منها لأني لم أكن مستعدا للمشاركة فيها رغم عدم ارتياحي من الأحوال العامة التي كانت سائدة في المغرب حينذاك . فقد كنت في قرارة نفسي ضد الانقلابات العسكرية بحكم كثرتها في الستينيات وتجاربها الفاشلة التي أدت إلى بروز دكتاتوريات في الكثير من الدول الأفريقية والعربية والأمريكولاتينية .
إن الاستنتاجات التي وصلت إليها مع نفسي لم يتصورها أي واحد من زملائي لأننا من جهة كنا تحت ضغوط نفسية رهيبة من الخوف والارتباك والتوتر ، ومن جهة ثانية فقد اقتصرت تحركات زملائي علي القيام بمهامهم في لحظتها دون التوسع في آفاقها ، بمعني أننا تصرفنا بطريقة إلىة وتلقائية في الزمان والمكان المحددين اللذان كنا نتواجد فيهما دون أية اعتبارات أخري ، وأهمها جاهزية الأطراف الأخرى البعيدة والمكملة لعملنا . علي هذه الحالة اتخذت قرارا مع نفسي بإخضاع تصوراتي للتجربة والتأكد من صحة استنتاجاتي الشخصية المضمرة .وخططت لتنفيذ عملية تقنية دون أن أثير الانتباه لكي لا أتورط في مصيبة قد تودي بحياتي وفي أفضل الأحوال كانت ستكون ضد مبادئي التي عبرت عنها من قبل . تلك العملية يمكن اعتبارها جس نبض تقني لكي أستطيع معرفة هل محطة الإرسال الهيرتزي مشغلة أم معطلة . فإذا كانت مشغلة فقد يتم الإرسال التلفزيوني وإذا كان العكس فلن يتم وبالتالي سنتحرر جميعا من مسؤولية خطيرة وهي بث بلاغات الانقلابيين علي الشاشة الصغيرة .
لقد كانت العملية بسيطة إذا تمت في سرية ، فقد كان لدينا في الأستوديو خط قادم من الإذاعة مدمج في التجهيزات الهندسية ، كنا في بعض الأحيان نستعمله لمصاحبة الشعار الذي يظهر علي الشاشة قبل بداية الإرسال وفي بعض الأحيان كنا نعوضه ببث الأغاني ،وهكذا استغفلت الجميع وأوصلت هذا الخط الإذاعي بالبث من الأستوديو عبر مكبر صوت صغير كمؤشر يدلنا علي أنه مبثوث علي الهواء ، إلا أن الإرسال الإذاعي لم يتم التقاطه في مكبر الصوت – المؤشر ، فانتابتني رعشة ارتياح كبير وانزاحت عن صدري ضائقتي النفسية لأني تأكدت أن الإرسال التلفزيوني لن يكون ممكنا أي مستحيلا ، وبالتالي تأكدت أن محطة الإرسال الهيرتزي كانت غير مشغلة ، وبتعبير آخر لم يصلها الانقلابيون ولم يطئوها . وقد علمت سنوات بعد ذلك – ولا حرج في قولها – بأن إدريس البصري الذي لم يكن وزيرا بعد هو الذي انتبه إلى هذه الجزئية الخطيرة فأفتي بحراسة المحطة وتعطيلها عندما احتل الانقلابيون الإذاعة لكي لا يشغلونها في الإرسال التلفزيوني ، وهذه واحدة من المميزات التي يمكن اعتبارها كمؤشر علي دهاء إدريس البصري .
إن الغريب فيما قمت به هو أن فكرة استغلال الخط الإذاعي في البث التلفزيوني قفزت فجأة إلى رأس الانتهازي بعد أن تمددت في ركن منزو من الأستوديو وأنا في حالة متدهورة من الخوف والتعب والجوع ممزوجة بتلك النوبة من الفرح الداخلي الذي نتج عن تجربتي التقنية السرية . وأنا علي تلك الحالة دخل الانتهازي برفقة ضابط يشرح له فكرته ( العبقرية ) ، إلا أنه توجه صوب زميلي الذي حاول الإعراب عن جهله بالعملية لأنه لم يستعملها من قبل ولكنه في الحقيقة كان يحاول التهرب من المسؤولية الخطيرة . وقد أحسست بمدي ارتباكه وتوتره ، فقررت حمايته وتطوعت بالقيام بالمهمة لأني كنت قد تأكدت من فشلها ، وفعلا قمت ببعض العمليات التقنية وفسرتها خطوة خطوة لأقدم النتيجة بيقين وهي أن الإرسال من المستحيل إتمامه .
كانت الساعة تشير حينذاك إلى حوالي العاشرة ليلا ونحن محجوزون تحت وطأة حراسة مشددة من طرف ستة جنود داخل الأستوديو وجنديين في مدخله ، ولم يكن مسموحا بمغادرته للشرب أو التبول إلا بالتناوب ، شخص واحد في كل مرة بحراسة جندي ، ولم يكن لنا زاد ولا طعام منذ الثانية زوالا ، وهكذا بقينا لمدة 24 ساعة بدون أكل ولا نوم إلى اليوم الموالي أي يوم الأحد 11 يوليوز وهذا فصل آخر سنصل إليه .
حوالي الحادية عشرة ليلا بدأت ملامح أحداث غريبة لم نستطع فهمها في حينها ، من جهة تناهي إلى سمعنا صوت الرصاص وكان واضحا أن هناك تراشقا به خارج بناية الإذاعة والتلفزة المغربية ، من جهة ثانية لاحظنا أن عدد الجنود بدأ يتناقص ، يذهب واحد للاستطلاع ولا يعود ، وبعدها يذهب آخر ولا نراه مجددا إلى أن بقي بيننا أربعة جنود .
وحوالي الحادية عشرة والربع اقتحم الأستوديو مجموعة من الجنود أكثر انضباطا وانتباها يتقدمهم ضابط برتبة قائد يتكلم لهجة شمال المغرب وبالضبط ذو لكنة تطوانية لا يميزها إلا أهل المنطقة . حيانا بأدب وطلب منا مرافقة جنوده حيث مررنا من الممر الذي يربط مصالح التلفزيون مع مكاتب الإدارة والمدير العام في الطابق الأول نزولا إلى الطابق الأرضي المؤدي إلى الباب الرئيسي للإذاعة ، وهناك التقينا في مجموعتين ، مجموعتنا التي كانت في الأستوديو والمجموعة التي كانت محتجزة في الإذاعة وضمنهم الأسماء الكبيرة التي سبق ذكرها باستثناء محمد بن ددوش ومعنينو ، وبمجرد وصولنا إلى الباب وجدنا الأدراج مملوءة ببعض الأحذية العسكرية وبعض الخراطيش الفارغة ، ومباشرة تعرضنا إلى وابل من الرصاص الطائش الذي كان يتبادله جنود الانقلاب والجنود الذين وصلوا لتحرير البناية من الاحتلال ، وقد أصابنا هذا التراشق بالرعب مما فرض علينا النزول إلى مستودع السيارات الواقع مباشرة تحت مدخل الإذاعة .
نظرا للهلع والخوف بدأنا نسرع الخطي مما تسبب في حالات من السقوط والتعثر ، وقد كنت في مؤخرة المجموعة التي كانت تضم أكثر من خمسين شخصا مما سمح لي برؤية واضحة لما يجري ، وهكذا تمكنت من رؤية جنديين يقودان عبدالحليم حافظ إلى سيارة عسكرية لحمايته والخروج به من الزحام ، كما تمكنت من معاينة سقوط عبدالسلام عامر وقد ارتمت عليه زوجته لحمايته ومساعدته للوقوف ، وقد تألمت كثيرا لهذا المشهد المؤثر الذي لم أستطيع فهمه ، لأن عبدالحليم حافظ كان مع عامر الذي سجل بيان الانقلابيين تحت تهديد السلاح ، وتسائلت لماذا غاب عن الذين أخرجونا من الإذاعة ضمهما لبعض وحمايتهما بنفس الاهتمام الذي عومل به عبدالحليم .ولا أتذكر ماذا حصل لعامر بعد ذلك لأن الجميع نزل بسرعة إلى داخل المستودع ، وهناك بدأنا نفهم الأحداث ونتعرف علي أسباب إخراجنا من الإذاعة بدون تخطيط وتعريضنا للرصاص ، وقد كانت العملية خطيرة جدا لأننا تعرضنا لخطر محقق للموت وقد قيل لنا فيما بعد أن العملية تمت علي هذا النحو لتتمكن المجموعة العسكرية القادمة من البحث في كافة أركان الإذاعة عن الانقلابيين والتعرف عليهم لكي لا يحتموا بنا كرهائن.
كما علمنا صباح الغد بعد مغادرتنا للمستودع أنه وجد به مجموعة من المتفجرات وضعت لنسف جزء من بناية الإذاعة كعنصر تهديد في حال فشل محاولة الانقلاب . ولسبب غامض لم يقع تفجيرها ، وهذا لطف من الله ، لأنه لو تمت عملية التفجير لكانت الخسائر جسيمة في الأرواح بشكل خاص ، خصوصا وقد مرت علينا أكثر من خمس ساعات مدة احتجازنا بالمستودع .
بما أن بناية الإذاعة توجد في شارع ضيق عبارة عن زقاق ومحاط بأبنية متراصة يقطنها سكان عاديون ومن ضمنها شقق تابعة لبعض المصالح التابعة لها وكل الأبنية لها أدراج وسطوح ، اعتبارا لكل ذلك فقد تمكن بعض الجنود من الاحتماء بها والاختباء فيها بعد أن وجدوا صعوبة في الخروج منها بقدوم الفرقة العسكرية المكلفة بتصفية الانقلابيين والقبض عليهم ،مما تسبب في حرب حقيقية بين الطرفين استعملت فيها الأسلحة الرشاشة والرصاص بكثافة وقع علي إثرها عدة قتلي من الجانبين ، كما أن الزقاق امتلأ بالخراطيش الفارغة والدماء ، وقد دام الحال هكذا طوال الليل وحتى الفجر حيث سمحوا لنا بالخروج من المستودع والدخول إلى البناية علي أساس أن كل موظف يلتحق بالمصلحة التي يعمل بها للاستفادة من مهام الجميع ،واعتبارا لكوننا التحقنا بالإذاعة يوم سبت فقد كان أغلبنا مختصون في مهام تقنية وفنية وقليل من الصحفيين والأعوان .
وهكذا ذهب أصحاب الإذاعة إلى مصالحها وأصحاب التلفزيون إلى استوديو الإرسال مرفوقين بعدد من الجنود ، وهذه المرة استطعنا التحدث معهم وخلق أجواء الألفة بين الجميع مما سمح لنا بالتعرف أكثر علي تفاصيل العملية الانقلابية سواء في قصر الصخيرات أو المدينة وخصوصا مجيئهم إلى الإذاعة والمهام التي كلفوا بها والعمليات التي قاموا بها ، وأكدوا لنا أن ما جري في باب الإذاعة كان بسبب الارتباك الذي ساد المجموعة العسكرية حيث ووجهوا بمقاومة سرشة من طرف جنود الانقلاب لم يكونوا ينتظرونها ، خصوصا فيما يتعلق بالمداخل المتعددة للعمارات وأماكن الاختباء فيها ، إلا أن القليل منهم سلم نفسه وسلاحه ،كما علمنا منهم أن المنطقة محاصرة بالعشرات من الجنود لمراقبة الانقلابيين وعدم السماح لهم بالهروب حيث أنهم لم يكن لديهم من اختيار إلا الاختباء والمقاومة أو تسليم أنفسهم ، فالاختيار الأول تسبب لهم في نقص الذخيرة والإنهاك والخوف والاختيار الثاني في القبض عليهم وسجنهم ومحاكمتهم .
في منتصف اليوم الثاني أي يوم الأحد 11 يوليوز كنا لا نزال نسمع بعض الطلقات النارية القليلة والمتفرقة حينما أخبرونا بأن السيد بوبكر بنونة المدير العام للإذاعة والتلفزة المغربية بالنيابة يطلب من الجميع الالتحاق بمكتبه ، السيد بنونة كان ضمن المدعوين في حفل ميلاد الحسن الثاني بقصر الصخيرات ، وقد عاش الأحداث كلها منذ البداية وقضي الليل هناك إلى وقت الالتحاق بمكتبه بمجرد وصوله إلى الإذاعة . كان يقوم بمهمة المدير العام بالنيابة لفراغ المنصب ، وقد عين فيما بعد مديرا عاما وهو من مدينة تطوان ومن عائلة عريقة ومتجذرة في المدينة ، وكان يتميز بالمهنية في عمله الإعلامي كما كان يتصف بالرزانة والأخلاق الحسنة والتواضع الجم والعفة والنزاهة وهي أوصاف لم تتوفر في الذين خلفوه في منصبه ، ورغم أنه كان محاطا ببعض رؤساء المصالح الأميين والمتعجرفين فقد كان يعرف كيف يلجم الجميع ويفرض عليهم رأيه وسلطته .
وعند مغادرته لمنصبه عينه الحسن الثاني قنصلا عاما في جزر الخالدات كما عينه سفيرا في بعض الدول العربية .
حين التحاقنا بمكتبه أخبرنا ببعض تفاصيل الأحداث في قصر الصخيرات ومقتل سائقه هناك وأن الملك بخير والأمور بدأت تعود إلى حالتها الطبيعية ، كما أخبرنا بأنه علم بما حدث هنا في الإذاعة ، ولحسن ظنه أسر لنا بأنه سيرفع تقريرا إلى جلالة الملك الذي لن يبخل علينا بعطفه ورضاه ، وقد استعملت تعبير ( لحسن ظنه ) لأن ما وقع فيما بعد ولمدة شهر كامل لم يكن في ظنه ولا في ظننا وسأعود إلى هذه النقطة فيما بعد .
في نهاية لقائنا معه طلب منا المرور إلى الكتابة الخاصة للإدارة العامة لتسجيل أسمائنا ومهامنا ، وأذن لنا بمغادرة الإذاعة إلى بيوتنا دون التحدث عن الأحداث التي عشناها وشاهدناها . وهكذا انتهي فصل آخر من هذه الملحمة ليبدأ فصل آخر أكثر رعبا عن طريق مصالح الاستخبارات المدنية والعسكرية .
حين خروجنا من باب الإذاعة شاهدنا ما لم نكن نتوقعه ، حيث البنايات مشوهة المعالم بفعل العدد الهائل من الرصاص الذي اخترقها والأبواب المكسرة وغيرها من مظاهر العنف بسبب المواجهات التي وقعت بين المسلحين يشتي أنواع الأسلحة كما رأينا بعض دوريات الجنود في محيط الإذاعة يقومون بالبحث عن جنود الانقلابيين الذين رأينا بعضهم يستسلمون وهم في حالة مزرية بفعل الجوع وعدم النوم والخوف وملابسهم ممزقة وبعضهم ينزفون .
صباح الاثنين 12 يوليوز التحقنا بمقرات عملنا لنجد تعليمات صارمة بالمرور إلى أحد المكاتب الإدارية قبل الالتحاق بمهامنا ، وعلي بابه تجمع عدد من الزملاء الذين كانوا محتجزين ليلة محاولة الانقلاب في الإذاعة حيث يخرج بين الفينة والأخرى أحد الأشخاص ليطلب اسما معينا للدخول إلى المكتب ، وكانت لديه لائحة بالجميع وهي التي سجلنا فيها أسمائنا ومهامنا عند مغادرتنا للإذاعة .
لقد بلغت السذاجة ببعض الزملاء إلى مستوي مضحك بالفعل ، حيث كانوا يعتقدون أن لجنة من الديوان الملكي تتأكد من الأسماء في انتظار مكافئة أو هبة ملكية ، ولكنني في قرارة نفسي كنت أستشعر أمرا سيئا ، لأني لاحظت أن كل المغادرين للمكتب تعلو وجوههم مسحة من التوتر والقلق وكأنهم تعرضوا لصعقة كهربائية ، لأن لا أحد منهم يلتفت لزملائه أو يتكلم معهم ، يمشون بخطي سريعة ومرتبكة بمجرد خروجهم من المكتب ، ولم يكن لي ما أفعله خلال انتظار دوري إلا النظر في وجوههم ومحاولة قراءة ما يرتسم علي ملامحهم .
أخيرا جاء دوري ، دخلت بهدوء لأجد مكتبا طويلا يشغله خمسة أشخاص غرباء لم يسبق لي رؤيتهم في مقر الإذاعة والتلفزة وإلى جانبهم واحدا من ألأطر الإدارية وأمامهم كرسي علي بعد مترين . طلبوا مني الجلوس لتبدأ سلسلة من الأسئلة والاستفسارات ، وكان الإطار الإداري بين فينة وأخري يوضح بعض الأمور أو يوافق علي أخري حين تلقيه الإشارة من أحد أفراد التحقيق ، ومن خلال أسئلتهم استطعت التمييز بين مهام الأشخاص الخمسة ، وعرفت أنهم من الأمن والاستخبارات ضمنهم واحد عسكري بالتأكيد بسبب طبيعة الأسئلة التي كان يطرحها ، وكانت كثيرة ومتنوعة وغير متجانسة ، تتعلق بالمدينة والمنطقة التي أنتمي إليها والأسرة التي نشأت فيها ونوع تكويني والانتماء إلى الأحزاب والجمعيات ومكان قضاء أوقات فراغي وحالتي العائلية والشخصية ، وبعدها تبدأ الأسئلة المتعلقة بما جري خلال إلىومين التي قضيتها في الإذاعة وكيف دخلت وما شاهدت وما سمعت ومن هم الأشخاص الذين كانوا برفقتي وتصرفات جنود الانقلاب وحديثهم وتعليقاتهم ، وما هي ردود فعلي ورأيي فيما وقع ، وغيرها من الأسئلة المحرجة والمصطنعة والمفخخة، تحقيقا واستنطاقا استنتجت منهما أننا في ورطة كبيرة ومتهمون إلى أن يثبت العكس .
قبل مغادرة المقعد والمكتب تلقيت أمرا صارما بعدم مغادرة الرباط والحضور يوميا إلى هذا المكتب حتى إشعار آخر . وقد استمرت هذه الحالة أسبوعين تغيرت خلالها حياتنا وانقلبت إلى جحيم لا يطاق ، لأننا عشنا خلالها في ظل إرهاب فكري ونفسي اختلت معه جميع التفاصيل اليومية العادية من مأكل ومشرب ونوم وعلاقات ، لم نكن نعرف كيف نأكل ولا كيف ننام ولا كيف نمشي في الشوارع والجلوس مع أصدقائنا والتحدث في شؤوننا ، واستحالت حياتنا إلى شكوك رهيبة في كل شيئ .
بعد انتهاء تلك التحقيقات ، تم ترقية بعض الموظفين لم يقدموا أية خدمة تستحق، تلك الترقية التي كانت مرتبطة بفشل محاولة الانقلاب ، مع أن أولئك الموظفون لم يظهروا في أية صورة من صور المحاولة ، بمعني أنهم لم يحتجزوا معنا ولم يكونوا موجودين في قصر الصخيرات ، بعبارة أخري فانهم كانوا في بيوتهم طيلة أيام الأحداث وبعضهم هرب خلالها إلى خارج الرباط ولم تكن لهم أية مسؤولية أو تقديم خدمات لإفشال المحاولة .
تزامنت لائحة ترقية بعض الموظفين بهبة مإلية خاصة من طرف الملك الراحل لدار الإذاعة والتلفزة المغربية لإصلاحها وتجميلها من التخريب الذي تعرضت له ومكافأة الموظفين الذين تحملوا معاناة الحجز . وقد علمت أن المبلغ كان في حدود 30 مليون سنتيم ، وهو مبلغ كبير بحساب تلك الفترة ، إلا أن الذي حصل هو أن العملية كانت ترقيعية وبسيطة مما لم يصرف فيها إلا ثلث المبلغ المذكور ، والباقي وزع بين عدد محدود من المسؤولين رؤساء المصالح لم يكن بينهم أي واحد تعرض للحجز أوقاوموا ضغوط محاولة الانقلاب .
تداعيات محاولة الانقلاب
أدت المحاولة الانقلابية إلى مقتل عشرات الضحايا خصوصا في قصر الصخيرات ، من سفراء ووزراء ومدنيون وعسكريون ، وقد جاء الجنود من قاعدة أهرمومو مدفوعين من طرف ضباطهم علي أساس المشاركة في مناورة عسكرية بتنسيق بين الكولونيل عبابو والجنرال المذبوح الذي كان يقوم بمهمة كبير الضباط المرافقين للملك ، إلا أن خلافا وقع بينهما أدي إلى قتل المذبوح ، مما أدي إلى فشل المحاولة نتيجة للعشوائية والارتجال وانهيار الاتفاق المبدئي الذي تم علي أساسه التخطيط للمحاولة . وقد اعتقد عبابو أنه يسيطر علي الوضع بعد قتله للمذبوح مما دفعه للتوجه للإذاعة دون أن يكون لديه أي تصور للتعامل مع الوضع هناك ، وخصوصا فيما يتعلق بالبيان ومن سيقرؤه ، وقد تعرفنا علي خلفيات هذه الحالة مما سبقت الإشارة إليه .
في ظرف ثلاثة أيام تم التحقيق مع عدد من الضباط والجنرالات وإعدامهم تحت إشراف الجنرال أوفقير ، كما تم إصدار عدة أحكام عسكرية بالمؤبد .
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.