كنا في السجن المركزي بالقنيطرة نتابع هذه التطورات، كل بحسب طبيعة علاقاته بالمحامين أو العلاقة مع باقي المتهمين الذين يزورهم المحامون. كنا طائفتين من المعتقلين. طائفة من كانوا يعتبرونهم متهمين رئيسيين. وطائفة »الصغار« وهم الأغلبية ممن تم وضعهم في حي الأشغال الشاقة وكان كاتب هذه السطور من ضمنهم. المتهمون الرئيسيون هم. - محمد البصري - عبد الرحمان اليوسفي - عمر بن جلون - عبد المومن الديوري - المهدي العلوي - نائب برلماني- - أحمد بن قليلو - أحمد بوزيد - عبد الرحمان المتوكل - محمد المكناسي (نائب برلماني) وفي سجن النساء السيدة خديجة بنت بنعاشر زهير المذكوري ورقمها (68) وكان معنا في حي الأشغال الشاقة زوجها السابق محمد بناصر مرغيش ورقمه (69). وثلاثة ممن انتخبوا في مجلس النواب وهم: - عباس القباج - محمد الحبيب الغيغائي الفرقاني - بوشعيب بن علي بن الطاهر الحريري الدكالي كان تعداد المعتقلين في حي الأشغال الشاقة بالسجن المركزي يقارب المائة و لما أطلق سراح البعض منهم بقرار عدم المتابعة، لم يبق إلا خمس وثمانون ومنهم أحد أبطال المقاومة وهو حسن صفي الدين الذي قال عنه وزير العدل أحمد باحنيني في الندوة الصحفية ليوم 15 غشت بأنه يعتبر الدعامة الأساسية لحركة »المؤامر{« وعندما ستصدر المحكمة حكمها ستقول عن حسن صفي الدين «لا يوجد شيء يثبت في حقه المشاركة في المؤامرة المدبرة ضد سلامة الدولة«« و» »لم تقم ضده حجة كافية لإذانته». في التاسع من أكتوبر حل موعد الاستنطاق التفصيلي من طرف قاضي التحقيق وخرجنا نحن جماعة من المتهمين وأخذونا من السجن المركزي بالقنيطرة إلى المحكمة الواقعة بطريق دار المخزن بالرباط أي البناية الحالية للبرلمان في شارع محمد الخامس بالعاصمة. ما أحلى الرجوع إلى الرباط... انتظرت الدخول إلى مكتب عبد السلام الدبي طيلة الصباح واستقبلني في ا لسماء وكان يؤازرني كل من الأستاذين الصديقين محمد بوزبع ومحمد برادة. ولا أخفي أن حضورهما بجانبي رفع من معنوياتي وجعلني أواجه القاضي وأنا أشعر بثقة في النفس. أما القاضي فقد حاول من جهته أن يجعلني في وضع مريح إذ ابتدأ بتوجيه هذا السؤال: كيف كان غذاؤك اليوم؟ استغربت لهذا السؤال وقلت مع نفسي ما دخله في هذا الشأن؟ وسرعان ما أحاطني عبد السلام الدبي علما بأنه هو الذي أشعر العائلة بوجودي في المحكمة ذلك النهار وسمح لهم بإعداد وجبة غذاء، وكان لإحدى أخواتي سكن غير بعيد عن المحكمة ولأنها تعرف حبي لطاجين اللحم بالدنجال، فقد أحضرت وجبة تكفي لكل الإخوة الذن حضروا ذلك اليوم عند قاضي التحقيق. قلت لعبد السلام الدبي: شكرا على كل حال. وقبل أن يشرع في الاستنطاق التفصيلي طلب منه الأستاذ برادة أن يسجل ملاحظة تتعلق لا فقط بأنني مكثت عند الشرطة بصدد الاعتقال الاحتياطي مدة طويلة تتجاوز الحدود القانونية، من 16 يوليوز إلى 5 شتنبر أي أكثر من خمسين يوما، بل أن ا لأستاذ برادة وجد في الملف كون النيابة أعطت عشر مرات موافقتها على طلبات تمديد مدة الاعتقال الاحتياطي، بينما لم تتقدم الشرطة القضائىة إلى النيابة إلا سبع مرات بهذه الطلبات فما السر في ذلك؟ قال عبد السلام الدبي: هذا ليس مهما وعلينا أن نخوض في جوهر التهم. طلبت من الأستاذ محمد بوزبع فيما بعد أن أتعرف على هذه الوثائق وعن أسباب طلبات الشرطة تمديد »ضيافتي« عندهم فعلت أنههم في الشرطة كانوا يجددون طلبات تمديد »الضيافة« على أساس ما كتبوه عني: »نظرا لما للمتهم من مشاعر عدوانية إزاد المقدسا«ت. وتساءلت مع نفسي: من هو صاحب هذه »الحسنة« في الكوميسارية؟ ومن الذي قال لهم بأن لي هذه »المشاعر العدوانية«. وتذكرت إدريس البصري الكوميسر المكلف بالاستعلامات العامة في الأمن الإٍقليمي، لاشك أنه لم ينس ما سمعه مني خلال العشاء الذي جمعنا في مطعم شاطئ الأمم وما قلته له تلك الليلة. هو قام بعمله، والمسؤولية أتحملها أنا لأنني في تلك الليلة قلت له كلاما لا علاقة له بروح المسؤولية السياسية ووجوب التزام الرزانة كلما تعلق الأمر بالتحدث مع إنسان غريب، إذن كنت في تلك الأيام أدفع الثمن... ثمن الاندفاع والتهور. وأتذكر أن ادريس البصري لم يثر أثناء جلسات الإستنطاق أي شيء عما راج بيننا في عشاء مطعم شاطئ الأمم. وهذا لم يمنعه من أن يكون عني فكرة بشأن ما كان لي كغيري من شباب الستينيات من مشاعر، لم يكن أحد منا يخفيها، بل كنا نعتز بها وهذه من حقائق تلك المرحلة السياسية التي عرفت قطيعة مطلقة بين الحكومة والمعارضة، بل كان قادتنا لا يقبلون أن ينعتنا أحد بالمعارضة.. وكانوا يقولون رسميا بأننا نشكل مقاومة سياسية لحكم لا يقبل شروط اللعبة الديمقراطية. إذن، فأنا أحاكم أساسا على اعتبار »المشاعر العدوانية« أما الأفعال والوقائع فهم يضعونها في درجة ثانية. وحيث أنهم لم يعثروا على حجة أو ذريعة تثبت انتقالي من »المشاعر العدوانية« إلى »نوايا عدوانية« أو »أفعال عدوانية« فلهذا قرروا أن أبقي عندهم لأكون تحت تصرفهم وكم عدد ا لمواطنين ممن بقوا عندهم هنا وهناك في العمالات والأقاليم إلى أن ماتوا تحت التعذيب؟ بعد البحث التفصيلي أصبحنا نحن مجموعة من المتهمين لا نختلف عن غيرنا من حيث الاستمتاع بالفسحة الصباحية ومدتها ساعتان وأخرى بعد الظهر وبنفس المدة، وأصبح من حقنا أن نتوصل بالكتب وفي إمكان الأسرة أن تضع في الحساب الذي يفتحوه لنا في إدارة السجن، ما تيسر من النقود. ولكي يدفع لك الأهل هذه الدراهم في حسابك، يجب أن تقول لهم بأن هذا شيء ممكن وأن تبعث لهم رسالة يقرأها حراس السجن والمتنكرون في بذلة حراس السجن، وأن يكون عندك من الفلوس ما يساعدك على شراء الورق والقلم والغلاف وطابع البريد... ويكتشف المرء أنه في حلقة مفرغة لا يعرف هل سيتوصل بالنقود أولا لشراء حاجياته أم يجب أولا أن يتوفر على بعض الحاجيات ومنها وسائل المراسلة لإخبار الأسرة بضرورة و ضع النقود في الحساب. وجاءت الأسرة وسألوني عن حاجياتي المالية فقلت لهم أن الأخوان مكلفون بذلك ولما سألني الأخوان الذين بعثهم المرحوم محمد الحيحي: ما هي حاجياتك؟ قلت لهم: أنا أعزب، ليست لي زوجة و لا أولاد والأسبقية لغيري من الضحايا الذين أعرف أن أحوالهم كانت مؤلمة نظرا لمسؤولياتهم كآباء. وفجأة أخبرت بوجود بعض الدراهم في حسابي بإدارة السجن وسأعلم فيما بعد أن الصديق سيدي أحمد الشرقاوي هو الذي وضع ذات يوم في حسابي كل ما كان في جيبه لما رآني في »البارلوار« وكان في زيارة لصديقه مولاي المهدي العلوي. سيقول لي الرجل الذي سيصبح فيما بعد كاتبا للدولة في ا لخارجية، بأنه حزن للحالة التي شاهدني عليها في «البارالوار«« وسأعلم من الحراس بأن أحمد الشرقاوي تصرف هكذا لما عرف أنني كنت في الحاجة إلى ما تيسر من النقود ولهذا قام بمبادرته. وفي ظروف المحنة فإن التفاتة بهذا الشكل تساعد الإنسان على الصمود والمواجهة مع مواقف لا يكون مستعدا لها. عدت الى الساحة التي كنا فيها نستمتع بالفسحة فوجدت المرحوم عباس القباج، أحد النواب الاتحاديين بالبرلمان عن منطقة سوس، وفي حالة تأثر، لأنه كان قد عاد هو كذلك من »البارلوار« حيث زاره ابنه طارق. لاحظ عباس القباج رحمه أن ولده أخذ يكبر ويتصرف بمسؤولية ويخاطبه هكذا: يا أبي لا تحمل هما وستخرج وتعود إلينا لترى أن الأمور عادية. في الحقيقة عرف طارق القباج ذلك اليوم كيف يخفي على الده ما كانت تقوم به السلطات المحلية من مضايقات لأفراد الأسرة على ا عتبار أن السي عباس سينال أقسى العقوبات في قضية »المؤامرة«. وكان لابد من انتظار السبت 14 مارس 1964 ليطلق سراح القباج وسيعود إلى مقر عمله ليكتشف ما فعلته السلطات المحلية في غيابه. وكان وجود عباس القباج وحسن صفي الدين وغيرهما من معتقلي حي الأشغال الشاقة من العوامل التي تجعلك تتحمل معاناة تلك الحقبة بما يكفي من الصبر والصمود. نفس الكلام يحق في الصديق الأستاذ محمد المهدي الورزازي وجماعة الوجديين. الوجديون هم أولا الشهيد عمر بن جلون وعبدا لرحمن المتوكل وكانا بعيدين عنا في الجهة التي يوجد فيها من يعتبرونهم المتهمين الرئيسيين في »المؤامرة«. وعلى ذكر المناضل الكبير عبد الرحمن المتوكل، الذي سيغادر السجن بعدما يكمل سنة ونصف أي المدة التي سيحكم عليه بها.. فلأنه سيعود الي حيويته ونشاطه في وجدة فذلك ما لن يقبله العامل الكولونيل الشلواطي الصديق الحميم لأوفقير ولهذا فبعد عودته عام 1967 من اجتماع بالدار البيضاء بشأن أوضاع الوطن العربي على إثر هزيمة حزيران، القي عليه القبض ووضع في سجن غريب بقرية تندرارة، سجن ما هو في الحقيقة إلا زريبة شيخ المنطقة الذي أودعه لديه خليفة الناحية ابن عم أوفقير: فلا مرحاض، ولا ماء، ولا هواء، ولا تواصل مع أحد و لا تسأل عن الطعام. الزريبة كانت مخصصة للماشية كمجال ضيق وتصورا كيف يمكن أن يخرج الإنسان من هذه الوضعية. من الوجديين الذين كانوا في حي »الاشغال الشاقة محمد بوعلي، محمد بن الشواط ومحمد الحرفي والثلاثة من أسرة التعليم ومعهم المرحوم معمر بوعزة، أحد قدماء المقاومة ممن ساعدوا الثورة الجزائرية. المنحدرون من المغرب الشرقي توبعوا بحسب الفصل 209 من القانون الجنائي وهو فصل لا تقل فيه العقوبة عن عامين سجنا في حالة الحصول على ظروف التخفيف. ويمكن أن ترتفع العقوبة الي خمس سنوات. ومن غرائب هذا القانون أن الإنسان يمكنه مثلا أن يكون علم بأشياء تحصل في البلاد، وإذا لم يقم بإخبار المخزن فهو يتعرض للمتابعة على أساس الفصل 209 الذي يؤاخذ المتهم بجريمة عدم التبليغ بعمل المس بسلامة الدولة، ويعاقب بالحبس من سنتين الى خمس سنوات ومن جهة أخرى يمكن تكييف التهمة بناء على الفقرة الثالثة من الفصل 201 من القانون الجنائي حيث تنزل العقوبة الي سنة فقط!٭ الإخوة الوجديون بدلا من الفقرة الثالثة من الفصل 201 اختاروا لهم الفصل 209 أي اتهامهم بعدم الأخبار، وكنا في السجن نمزح معهم ونقول عنهم بأنهم رفضوا أن يصبحوا من « الشكامة «، وقررت المحكمة رفض ظروف التخفيف للصديق محمد الحرفي، ولم يقولوا هل قبلوها أم رفضوها بالنسبة لمحمد بن الشواط، أما عبد الرحمن المتوكل، محمد بوعلي، والمرحوم معمر بوعزة، فقررت المحكمة أن يتمتع هؤلاء بظروف التخفيف. وحاول أن تجد مدلولا لكل هذا الكلام لأن النتيجة في النهاية ستكون هي هي إذ ستصدر الأحطام هكذا صباح السبت 14 مارس 64. عامان: محمد الحرفي ومحمد بن الشواط. عام ونصف لكل من محمد بوعلي و عبد الرحمن المتوكل والمرحوم معمر بوعزة. 16 قاعة المحكمة استديو للتلفزة المغربية حسني بنسليمان قائد قوات السيمي، وحارس المرمى السابق لفريق الجيش الملكي، أشرف على نقل المتهمين إلى المحكمة.. في قاعة المحكمة تعرفت على »أوزين« الذي كان يقود سيارة البوجو 403 المطاردة لسيارة الفولسفاكن التي كان يركبها المهدي بن بركة ودفعتها في محاولة لاغتياله ظهر الجمعة 16 نونبر 1962. وأخيرا حل يوم السبت 23 نونبر 1963 الذي حدد كموعد لبداية المحاكمة... في الصباح الباكر وقبل طلوع الفجر كان السجن المركزي يعيش حالة استنفار استعدادا للموكب الذي سيتشكل ليأخذ الطريق من القنيطرة إلى الرباط. جاء الحراس ليفتحوا الزنزانات حتى يخرج منها المعتقلون ويشكلوا مجموعات في اتجاه سيارات الشرطة التي كانت تنتظر في الساحة الكبرى للسجن المركزي. وفي مخرج حي الاشغال الشاقة تعرفت على المشرف على العمليات أنه حسني بن سليمان قائد قوات السيمي بالادارة العامة للأمن الوطني وكان من السهل التعرف عليه بعد بعيد: قامته الطويلة واللياقة البدنية التي ظل يحتفظ بها بعد عامين من تخليه عن حراسة مرمى الجيش الملكي. تولى منصب المندوب السامي في الشبيبة والرياضة وهو الآن على رأس السيمي وبهذه الصفة حل في هذا الصباح الباكر بالسجن المركزي للإشراف على نقل المتهمين في »المؤامرة« إلى المحكمة. لست أدري إلى أي حد يكون هذا الضابط مقتنعا بوجود »مؤامرة« وإلى أحد حد يسمح له الانضباط العسكري باستيعاب الملابسات والخلفيات السياسية لحملة القمع التي انطلقت في يوليوز 1963 وهاهي الحملة تعرف مرحلة جديدة، مرحلة المواجهة القضائية؟ على كل حال كانت ملامح الضابط حسني بن سليمان توحي بأنه انسان يقوم بأداء مهمة أنيطت به والابتسامة لا تغادر محياه والكل يوحي بأنه ضابط ليس على شاكلة أوفقير على غرار عناصر فوج »محمد الخامس«. هكذا بدأت »مراسيم« الانتقال من القنيطرة إلى الرباط في صباح لم تكن شمسه قد بدأت تبعث اشعتها.. وعندما سنصل إلى قرية بوقنادل ستطل علينا الشمس. التحضيرات الأمنية تطلبت من هؤلاء الناس بعض الوقت. أليس هذا موكب مجموع من الناس كانوا قاب قوسين أو أدنى من القيام بمؤامرة لقلب نظام الحكم ليلة 20 يوليوز ... أي قبل أربعة أشهر؟ ومن هنا تأتي أهمية الاخراج السينمائي الذي قرروا ان تخضع له عملية نقل المتهمين من السجن المركزي إلى المحكمة ذهابا وإيابا. كان الموكب عبارة عن سيارات لنقل المتهمين وأخرى للكلاب البوليسية وسيارات عسكرية بأحد وسائل الاتصالات علاوة على عدد من أفراد الشرطة والجيش والقوات الاحتياطية. كل هذه عناصر كان لابد منها للاثارة ولإقناع من لم يكن قد اقتنع آنذاك.. بأن الذين يمرون في الشارع ماهم إلا متآمرون على سلامة الدولة وان مؤامرتهم قد فشلت وعلى القضاء أن يقول الآن كلمته في الموضوع. وأخذت السيارات تنتظر كل واحدة دورها للدخول إلى ساحة المحكمة... الساحة المجاورة للباب الخلفي المواجه لقصر التازي. ينزل ركاب الفوركونيت فيأتي دور الفوركونيت الأخرى لتفرغ ما فيها من متهمين. كل هذا كان يجري تحت نظرات رجال مسلحين يوجهون أفواه الرشاشات إلى أي واحد يحاول القيام بحركة غير عادية. ومن السيارة إلى دهليز طويل في قبو المحكمة إلى القاعة التي هي الآن القاعة المغربية الخاصة باجتماعات اللجان البرلمانية. هذه القاعة تقاطر عليها المحامون فتحولت المحكمة إلى أجواء أخرى بعيدة عن الأهوال التي عاشها ضحايا القمع خلال الشهور الأربعة. خلف المكان المخصص للمتهمين هناك مقاعد تخصص عادة للعائلات والجمهور ولكن أصحاب الحال وصلوا مبكرا إلى هذه القاعة وأصبحوا هم الجمهور، وهم أفراد العائلات وأصحاب الحال نوعان: من جاء لاحتلال هذا الفضاء ومنع الجمهور من تتبع المحاكمة وآخرون جاؤوا لتتبع المحاكمة وكتابة التقارير لجهات مختلفة كاستعلامات العامة للبوليس »والجندرمة« أو المكتب الثاني للجيش أو »الديوان« رقم 1 أي الجماعة التي تستقر في دار المقري والتي كان يشرف عليها آنذاك القبطان احمد الدليمي... كديوان خاص بالكولونيل أوفقير. وذات يوم من أيام المحاكمة سأتعرف على واحد من أصحاب »دار المقري« وهو »أوزين« الذي كان يقود سيارة البوجو 403 المطاردة لسيارة الفولسفاكن التي كان يركبها المهدي بن بركة ودفعتها في محاولة لاغتياله بعد ظهر الجمعة 16 نونبر 1962 ولما لمحته من بعيد.. اتجهت إلى المتهم رقم 53 أي مولاي المهدي العلوي وسألته: هل يمكنك أن تتذكر وجه السائق الذي كان يقود البوجو 403 التي اصطدمت بالفولسفاكن التي كنت تركبها مع المهدي بن بركة؟ فأجاب: طبعا! بعد ذلك اتجهنا إلى المكان المخصص للجمهور فطرح مولاي المهدي السؤال على السائق: آش خبارك؟ لا باس! أين هي سيارة البوجو؟ فرد »أوزين« على مولاي المهدي: ماشي انا والله العظيم ماشي أنا وسرعان ما اختفى السائق عن الأنظار ولم يعد يجلس في المكان المخصص للجمهور او بالاحرى للبوليس السري. ولاشك ان اصحاب الحال طلبوا منه ان لا يقوم بهذه المهمة خوفا من الفضيحة. وبعد سنوات سيتقدم مني في شباك الصرف ببنك المغرب رغبة في الحصول على دراهم تمثل قيمة ورقة من فئة خمس مائة فرنك فرنسي. وتردد في تقديم بطاقة التعريف التي طلبها منه كإجراء ضروري لصرف الاوراق المالية الاجنبية. كانت له ولاشك حاجة ملحة للحصول على الدراهمk ولهذا ناولني في نهاية الامر، البطاقة فعرفت انه شرطي واسمه اوزين وتذكرت ماقاله اوفقير للمحكمة الاقليمية في شهادته يوم كانت جريدة التحرير تحاكم بالقذف في حق مدير الامن، اذ اتهمت الجريدة البوليس بكونه وراءعملية الاصطدام المفتعل بين السيارتين: السيارة التي كان يركبها المهدي بن بر بركة والمهدي العلوي والثانية سيارة بوجو 403 التابعة للبوليس. ففي الشهادة قال أوفقير ردا على سؤال للاستاذ المرحوم البوحميدي، بانه لا علم له بسيارة تابعة للامن كانت يوم الجمعة 16 نونبر 1962 في الطريق مابين الرباط والدار البيضاء. لنترك اوفقير وحكاية السائق اوزين ومحاولة اغتيال الشهيد المهدي بن بركة ولنعد الى قاعة المحكمة حيث لم يكن المجال يتسع لهذا العدد الكبير من جمهور البوليس ومن البوليس الرسمي والملاحظين الاجانب والمحامين وخمسة وثمانين من المتهمين. فبعد الهدوء الذي تعود عليه المعتقلون داخل الزنزانة او في ساحة حي الاشغال الشاقة، كان على كل و احد ان يواجه هذا العالم المشحون بالتساؤلات واللقاءات لا فقط بين المتهمين والمحامين، بل حتى المتهمين فيما بينهم، ذلك ان اصحاب الحال جعلونا طائفتين. طائفة المتهمين الرئيسيين وطائفة المتهمين العاديين اي الذين وضعوا في حي الاشغال الشاقة. وكان يوم السبت 23 نونبر 1963 هو أول مناسبة لربط الاتصال... او لتجديد الاتصال لكن حدثا اخر كان يطغى على أجواء بداية المحاكمة. رغم انه وقع في مكان بعيد عن مدينة الرباط وبالضبط في مدينة دالاس بولاية تكساس. انه حدث مصرع الرئيس الامريكي جون كيندي الذي وقع قبل اربع وعشرين ساعة اي يوم الجمعة 22 نونبر 1963 طبعا هذا حدث سياسي كبير على الصعيد الدولي، ولا علاقة له بالقضية المعروضة على أنظار محكمة الجنايات، قضية المؤامرة ضد سلامة الدولة بالمغرب، لكن من المحقق ان اغتيال جون كيندي قد سرق الاضواء التي كانوا يريدون تسليطها على حدث بداية محاكمة المتهمين في المؤامرة. وفعلا كانوا قد اعدوا العدة لتحويل قاعة المحكمة الي استوديو تابع للتلفزة المغربية التي لم تكن سنتان قد مرتا على تأسيسها واستقرارها بالطابق العلوي للبناية الخلفية لمسرح محمد الخامس. وقبل الدخول الى القاعة شاهد المتهمون حافلة التلفزة في الساحة الخلفية للمحكمة،وفي القاعة تم تنصيب عدد كبير من الميكرفونات والكاميرات: هكذا سيحتل المتهمون في المؤامرة حيزا كبيرا من المشهد الاعلامي خلال عدة شهور، مشهدا ينقل إلى الجمهور رواية واحدة هي الرواية التي اعدها الاتهام، ولاحق للمتهمين في ان يقولوا اي شيء من خلال تصريحات يدلي بها المحامون بالاذاعة والتلفزة. هكذا فالوكيل العام مجيد بن جلون، سيرتقي بعد المحاكمة الى درجة كاتب عام لوزارة العدل وبعدها سيتولي وزارة الانباء للاشراف على الاذاعة والتلفزة في سياق التوجه الذي جعل من قاعة المحاكمة مجرد استوديو التلفزة المغربية. كان كاتب هذه السطور يظن ان مجيد بن جلون رجلا له شخصية على غرار رجال الدولة في البلدان المحترمة الى أن شاهد الصحفيون حقيقة الوزير، وزير الانباء وكانت المناسبة هي استدعاء الصحفيين الى مقر وزارة الداخلية لحضور ندوة صحفية عقدها وزير الداخلية الجنرال اوفقير، وبمعيته مجيد بن جلون وزير الانباء والغاية من الندوة هي طلب ستقدمه الحكومة للصحافة المغربية بان تلتزم شروط اللياقة والرزانة بمناسبة استضافة المغرب للقمة العربية الثالثة في شتنبر 1965 تكلم اوفقير بلغته العادية اي انه لا يسمح للصحفيين بأن يقولوا اي شيء في حق ضيوف المغرب، فحاول وزير الانباء بعده، ان يتناول الكلمة لكن الصحفيين سيشاهدون من تحت المنصة التي جلس فيها الوزيران، كيف ان رجل اوفقير كانت تركل رجل مجيد بن جلون كإشارة للسكوت على اساس ان الندوة الصحفية قد انتهت بدون اعطاء الحق لوزير الانباء حتى يعبر عن رأيه في الموضوع.و بكل برودة استسلم وزير الانباء لوزير الداخلية، كدليل على طبيعة العلاقات التي كانت لأوفقير مع باقي الوزراء أو بالأحرى مع فئة معنية من الوزراء. هكذا شاهد الصحفيون في تلك المناسبة وزيراً مغربياً في حالة تثير الشفقة. عامان مازالا يفصلاننا عن هذه المرحلة السياسية... أما الآن، فنحن في القاعة الكبرى للمحكمة، حيث ينتظر أن يعلن الرئيس الطيب الشرفي عن بداية المحاكمة.. محاكمة يتابع »المغرق« مجيد بن جلون المتهمين فيها على أساس محاضر الشرطة التي أعدها جهاز القمع الذي يشرف عليه أوفقير. أوفقير ومجيد بن جلون ليسا وزيرين في الحكومة الجديدة التي تأسست قبل عشرة أيام. فقد تشكلت أول حكومة »دستورية« بالمغرب يوم الأربعاء 13 نونبر وتولي فيها الوزارة الأولى السيد أحمد باحنيني وزير العدل السابق الذي »زف« للمغاربة يوم 16 غشت »بشرى« فشل محاولة الانقلاب الذي كاد في ليلة 20 يوليوز 1963 أن يقلب نظام الحكم! والسيد أحمد باحنيني من زعماء جبهة »الفديك« وبما أن »الفديك« صاحب أغلبية نسبية في مجلس النواب وأغلبية مطلقة في مجلس المستشارين، فقد أسندت إلى أحد أقطابه مهمة الوزارة الأولى وبجانبه مجموعة من الوزراء وجلهم من الوجوه القديمة في الحكومات السابقة. والملاحظ أن أحمد رضى اكديرة تخلى عن الادارة العامة للديوان الملكي ووزارة الفلاحة، بعدما سحبت منه حقيبة الداخلية في أعقاب انتخابات مجلس النواب، وأصبح فقط وزيراً للخارجية، وحل محله ادريس المحمدي على رأس الديوان الملكي. ومعلوم أن ادريس المحمدي كان وزيراً للداخلية في بداية الاستقلال وغادر هذه الوزارة على إثر إقالة حكومة عبد الله ابراهيم، حيث أصبح وزيراً للخارجية من 26 ماي 1960 إلى 5 دجنبر 1960، حيث تعرض لحادثة سير قرب باب شالة، أي مدخل مدارس محمد الخامس بالرباط، ومنذ ذلك التاريخ اختفى المحمدي عن الأنظار، وظل المقاومون يعتبرونه واحداً من أصدقائهم، وهناك من اعتبر دخوله في تلك الظروف الصعبة إلى الديوان الملكي، عودة إلى الحياة السياسية ومؤشراً على إمكانيات خروج البلاد من أزمتها السياسية، بالنظر لما للمدير العام للديوان الملكي من علاقات بالمقاومين، علاقات بدأ يربطها معهم لما كان وزيراً للداخلية، وكان يدرك مدى أهمية رجال المقاومة في المرحلة السياسية الدقيقة لفجر الاستقلال، ومدى الدور الذي يلعبه هؤلاء الرجال لضمان الاستقرار وإحلال الأمن والنظام محل الاضطرابات التي تهدد عادة كيان العديد من الأقطار الحديثة العهد بالحرية والاستقلال. لكن ادريس المحمدي الذي تولى منصب مدير عام للديوان الملكي لن يلعب الدور السياسي الذي انتظره منه أصدقاؤه المقاومون، وخاصة عندما ستندلع بالبلاد أزمة سياسية أخرى لن تقل خطورة عن التي يعاني منها المغرب منذ صيف 1963. فعلى إثر اختطاف الشهيد المهدي بن بركة، أنكر ادريس المحمدي المدير العام للديوان الملكي ما جاء في تصريح للمرحوم عبد الرحيم بوعبيد، مفاده أن جريمة الاختطاف جاءت لتنسف مجهودات كانت تهدف إلى مشاركة الاتحاد في تشكيل حكومة جديدة، وان اتصالات تمت لهذا الغرض بين المحمدي وبوعبيد. وفي تصريح غريب للمحمدي، سمعه المغاربة على أمواج الإذاعة وشاشة التلفزة، قال المدير العام للديوان الملكي بأن أي اتصال لم يتم بينه وبين الزعيم الاتحادي لهذا الغرض... والكل يعرف حكاية المساعي السياسية التي بدأت في المغرب والخارج بعد أحداث مارس 1965 في شكل اتصالات شارك فيها كل من عبد الرحيم بوعبيد، وعبد الرحمان اليوسفي في الداخل والمهدي بن بركة في الخارج، حيث سيزوره في مدينة فرانكفورت بألمانيا، الأمير مولاي علي سفير المغرب بالعاصمة الفرنسية، وأن الأمر كان يتعلق فعلا بمحاولة إنجاز انفتاح سياسي، محاولة فشلت لعدة أسباب أهمها عملية اختطاف واغتيال الشهيد المهدي بن بركة يوم الجمعة 29 أكتوبر 1965. ادريس المحمدي من الصعب أن لا يكون له دور في هذا النوع من الاتصالات، وهو يحتل موقعاً خطيراً كمدير عام للديوان الملكي... فما الذي جعله ينكر هذه الحقيقة ويكذب ما أدلى به عبد الرحيم بوعبيد؟ من المحقق أن اختطاف المهدي واغتياله خلق ظروفاً صعبة في مغرب نهاية 1965، وأن الموقف الذي سيختاره المرحوم ادريس المحمدي، وهو في ذلك المنصب الكبير، سيتطلب منه أن يقول ما قاله في »بيان الحقيقة«، تحسباً لحرب الموقع التي بدأت في تلك المرحلة السياسية، حيث بدأ الجنرال أوفقير يقبض على مقاليد السلطة بيد من حديد. انطلقت المحاكمة، والذين كانوا متفائلين بوجود ادريس المحمدي على رأس الديوان الملكي... سيدركون فيما بعد أن تفاؤلهم كان مجرد سراب.