منذ أن انتشرت "الأنترنيت" في المغرب، وأصبحت ضرورة يومية ملحة خاصة بعد توفر خدماتها في الهواتف النقالة، سواء كانت ذكية أو غير ذكية، والسمة الغالبة على استعمالها لا تخرج عن المعتاد في جميع بقاع العالم، مع ضرورة الإقرار ب"الخصوصية" المغربية هنا أيضا، حيث تم استغلال هذه الأداة التقنية أحيانا في التشويه وتصفية الحسابات والنصب وحتى الابتزاز والسرقة. فعلى مدى سنوات، انفجرت فضائح هنا وهناك، أبطالها في الغالب مراهقون نشروا صورا فاضحة لفتيات تحولن إلى عار على أسرهن، بل كثيرا ما تمت متابعة الفاعلين وإدانتهم بعقوبات حبسية متفاوتة. ومع ذلك لم يتوقف الإبداع "المغربي" عند هذا الحد، بل تطورت الأمور إلى ما هو أخطر، حيث تحولت الأنترنيت إلى شبكة عنكبوتية فعلا، تصطاد السذج في الشرق والغرب، وقد تناسلت مؤخرا أخبار عمليات ابتزاز جنسي منظمة ذهب ضحيتها مشارقة، وقعوا في شر أعمالهم، لأنهم لا يعرفون عن المغرب سوى الدعارة والفجور، قبل أن يضطر كثير منهم إلى الدفع بالعملة الصعبة تفاديا للتشهير به من المحيط إلى الخليج. الزجر هنا أيضا لم يجد نفعا رغم أخبار الاعتقالات والمتابعات والعقوبات والغرامات... بل طور المبتزون أساليبهم وأصبحوا يقتحمون غرف النوم دون استئذان، وفي قصة البرلماني الاستقلالي الشهير خير مثال. وأكثر من ذلك، انقلب السحر على الساحر فتحول بعض "أصحاب الحال" إلى ضحايا للابتزاز وبمبالغ كبيرة جدا بعد تصويرهم متلبسين بالارتشاء عند الحواجز أو بفرض "الجزية" على مستعملي الطريق العام. لكن بعيدا عن مطاردة المراهقين والمراهقات، وبعض الخليجيين الذين استقرت عقولهم في حجورهم، وحتى بعض من قذف بهم موج السياسة إلى الواجهة دون استحقاق، فإن كاميرات القناصة أصبحت، على ما يبدو، الأداة الأولى لمحاربة الفساد في هذه البلاد. ويكفي هنا أن نشير إلى بداية الحديث عن منع تسويق الكاميرات المتطورة، وإن كان المبرر المعلن هو استعمالها في التلصص على خصوصيات المواطنين، والحال أن الهدف الحقيقي ربما هو حماية المفسدين من "مفتشين" متخفين يصعب اكتشافهم أو التفاهم معهم، ولا تحتاج تقاريرهم إلى ديباجة قانونية ولا إلى سلم إداري... بل إن "صيدهم" يحال أحيانا مباشرة على المتابعة السريعة أمام الغرف الجنحية التلبسية.. إنها، إذن، "حسنة" وسط سيئات كثيرة جاءت بها "الأنترنيت"، تحسب لأجيال من المغاربة قرروا القيام بخطوة عملية في اتجاه محاربة الفساد الذي تجذر وأصبح دولة أكبر من الدولة، بل إن هذه الأخيرة أصبحت تفضل عدم الدخول في مواجهات مع قلاعه، ليس خوفا على السلم الاجتماعي أو الاستقرار الهش أصلا، بل لأن مؤسسات الدولة عاجزة عن الصمود في أية معركة يكون طرفها مفسد أو مفسدون أو لوبي فساد. ولهذا فإن رئيس الحكومة كان واضحا للغاية حين أعلن، خلال جلسة المساءلة الشهرية أمام مجلس النواب مؤخرا، أن الفساد هو الذي يحارب حكومته وليس العكس، وهذه عبارة تختصر كل شيء. فالفساد في المغرب لم يعد يكتفي بالأكل من الهوامش وتحت جنح الظلام وخلف الستائر ويتفادى ما أمكن الأضواء وعيون المتلصصين، بل أصبح له إعلامه وصحافته ومؤسساته والناطقون باسمه ومحاموه ووزراؤه وبرلمانيوه ومنتخبوه المحليون والجهويون... لقد انتهى زمن كان فيه مجرد الاتهام بوجود شبهة فساد يثير المخاوف بناء على مقولة "ويل لمن أشارت إليه الأصابع ولو بخير"، بل صرنا أمام "مؤسسة مهيكلة" قادرة على الدفاع عن نفسها ضد أي "معتدٍ"... والقصص هنا أكثر من أن يحصيها العد، ولا يخلو منها قطاع. فقد سمعنا عن لجان تفتيش عادت أدراجها بعد مكالمة هاتفية.. ولم يسمح لها بتجاوز البوابة الخارجية لمؤسسة أو إدارة أو حتى مقاولة خاصة. وسمعنا عن تقارير وافتحاصات وتحقيقات معمقة وغير معمقة ألقيت في الأدراج أو حتى في سلة المهملات، مع أنها تحمل في ثناياها معطيات خطيرة تهدد أمن البلاد واستقرارها. وسمعنا عن لوبيات دفعت ملايير فوق طاولات المقاهي للتحكم في طبيعة بعض النصوص التشريعية وسرعة إقرارها... كما سمعنا عن موظفين سامين ومسؤولين كبار جعلوا صفقات قطاعاتهم حكرا على مقاولات بعينها، وظلوا يتصرفون كما لو أنه لا وجود لقانون ولا لمراقبة مالية... ولهذا، ولأن سمعة المغرب صارت في الحضيض حيث الكل يتحدث عن الفساد ولكن لا أحد يحاربه، تم إنشاء مؤسسات وهيئات وأجهزة بعضها عمومي وبعضها الآخر مدني بهدف تدارك النقائص... فماذا كانت النتيجة؟ بالنسبة إلى الجمعيات، فإنها تصبح وتمسي على نشر بلاغات وبيانات وتقارير عما تجمع لديها من معطيات حول شبهات فساد هنا أو هناك، وتنتهي معاركها في الغالب كأرقام شكايات لا تلقى جوابا أو على صفحات الجرائد الورقية أو الإلكترونية، أو في ندوات صحفية أو وقفات احتجاجية ينتهي مفعولها بمجرد تفرق المشاركين فيها... وهنا، أيضا، قد ينجح الفساد في قلب المعادلة، بما أن هناك جمعيات تخصصت في ابتزاز المتهمين بالفساد، والفاسدون والمفسدون في كل الأحوال يتحدثون نفس اللغة. أما بالنسبة إلى الهيئات العمومية التي تم تأسيسها، خصيصا لمواجهة زحف الفساد، فلا يخفى أن دورها برتوكولي محض، حيث إنها تشارك في اللقاءات الدولية لمحاولة تجميل صورة المغرب، أو تنظم ندوات ومناظرات للإنشاء وإنتاج الكلام، أو تعقد مؤتمرات صحفية تكتفي فيها بتكرار ما هو معروف، بل حتى تقاريرها لا تخرج عن إطار التشخيص وتقديم التوصيات التي تذهب أدراج الرياح، بما أن محاربة الفساد تتطلب شحذ السيوف وليس تقديم المواعظ... وصدق سيدنا عثمان، رضي الله عنه، عندما قال: "إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن". ولهذا، على جميع المخلصين في محاربة الفساد أن يدعموا قناصي الأنترنيت الذين حققوا في لحظاتٍ، ما عجزت عن تحقيقه كثير من الأجهزة المختصة في سنوات. فمحاربة الفساد واصطياد المفسدين تحولت إلى هواية حقيقية تعتمد على التطور التكنولوجي الذي لا يتطلب رصد ميزانية ضخمة ولا تداريب مكثفة ولا دعما تقنيا من الخارج ولا إرسال بعثات علمية ولا تنظيم حلقات تكوينية... بل المطلوب فقط كاميرا من أي نوع، واختيار موقع استراتيجي لتوثيق مشاهد الارتشاء... ويمكن أن نحصي عدد الذين أسقطتهم كاميرات المواطنين في الشهرين الأخيرين وما أنجزته وكالة السيد أبو درار منذ تأسيسها. قد يقول البعض إن الأمر يتطلب احترام قوانين واتباع مساطر ومراعاة توازنات... وهذه كلها عوامل تعطل عمل الهيئات والمؤسسات العمومية... لكن الإشكالية أكبر من ذلك بكثير.. فالجميع يعترف ويعلن ويؤكد أن الفساد عم البر والبحر -وحتى الجبل- لكن عندما تخص قطاعا بالحديث عن فساده تقوم القيامة، إلى درجة أننا أصبحنا أمام معادلة غريبة يمكن صياغتها كالتالي: "هناك فساد ولكن ليس هناك مفسدون"... غير أن هذه المعادلة انقلبت بعدما أصبح المواطنون يتسلحون بالكاميرات ويوثقون جرائم الرشوة بالصوت والصورة، مما يحرج جميع الأطراف، سواء تعلق الأمر بالوزارات أو الإدارات الوصية أو النقابات التي تتبنى شعار أنصر أخاك ظالما أو حتى مرتشيا أو فاسدا، بل حتى القضاء أصبح في مواجهة الرأي العام، ولذلك تابعنا إدانات سريعة ل"ضحايا" قناصة الأنترنيت.. ولهذا لا عيب في أن يتم تقنين هذه الأداة والاستفادة منها في محاربة الفساد، عن طريق إضفاء الشرعية على ما يصوره المواطنون دون حاجة إلى إذن قضائي، أي اعتبار مقاطع الفيديو تلك دليلا قاطعا بعد التحقق طبعا من أنها غير مفبركة، بل لماذا لا تخصص هيئة محاربة الرشوة جوائز سنوية على غرار جوائز الصحافة تمنح لمن يوثق أفضل مشهد ارتشاء... ولا ينبغي أن يؤخذ هذا الكلام على أنه نوع من السخرية والاستخفاف، بل هو اقتراح جدي، ويكفي أن نستحضر الرعب الذي أصبح يسيطر على كثير من الذين اعتادوا مد اليد للارتشاء باستخفاف ولامبالاة.. خوفا من "مقالب" الكاميرا الخفية. بل لماذا لا يتم تزويد السيارات والشاحنات والعربات بكاميرات (على غرار الموشار) من شأنها وضع حد لما تعرفه الحواجز الأمنية من ممارسات يندى لها الجبين، ولماذا لا يسمح للمتعاملين مع الإدارات ب"التسلح" بكاميرات محمولة تقوم بمهمة الردع وتقطع الطريق على كل محاولات الارتشاء؟ من المؤكد أن الموظف الفاسد سيحسب ألف حساب للكاميرا، بل قد "يخاف" منها أكثر مما يهتم لأمر مفتش أو مراقب قادم من العاصمة. وبالمقابل، لم لا يتم تزويد رجال الأمن والدرك بكاميرات لتسجيل ما يتعرضون له من اعتداءات من طرف بعض النافذين، وهي تقنية يجري بها العمل في كثير من الدول الديمقراطية؟ إنها مجرد اقتراحات، بما أن الحرب على الفساد هي مسألة ثقافة في الأول والأخير. وكما قلت سابقا، فالإدارة الفاسدة عنوان للشعب الفاسد، والموظف الفاسد هو مجرد انعكاس للمواطن الفاسد. مولاي التهامي بهطاط