كيف تصير وتكون؟ دون قولبة ومقاسات، دون دخل للآخر الذي يهندسنا على هواه أو على جبره المستدير، ويسوقنا في رحابه طبعا. وبالتالي فإننا مسيرون على وجوه ما، ليس فقط وجوديا؛ بل داخل اليومي وآلاته الخفية. فكثيرة هي الأشياء التي تأتي إلينا دون أن نذهب إلها، لتعيد بناءنا أو تكريرنا كأجساد خام يمكن أن تتقيأ في أي مكان كدفعة غيظ تقول الحقيقة دون تقديم وتأخير. أظن أن حجم السؤال عريض في المجتمعات المتخلفة والمختلة المسيرة، فلنقل مع المؤرخين المجتمعات السائرة في طريق النمو الذي طال واستطال، فأصبحنا معه كائنات نامية باستمرار. ذلك أن الذات في تشابكها العلائقي، معرضة للكثير من الاختراقات، ومكبلة بمواضعات عديدة. وفي المقابل، يكون فعلها على قدر كبير من الثقوب. ويغدو الأمر أكثر حدة هنا حيث لا تبدي الذات أية مقاومة أو تموضع عاقل ضمن السيول الجارفة «للموجات» الملونة والاستهلاك ولو السياسي. يحضرني هذا السؤال، وأنا أتأمل الاختراقات التي غدت سارية بيننا كحقائق نبلعها على مضض، على الرغم من أي تفكيك خلفي يبقى خلفا. يكفي أن يحلق أحد رأسه على أية طريقة، ليسير على منواله آخرون أو يقولب جسده في أية أردية لصيقة ... ويندفع الكل ضمن زحام ولغط سوقي كثير الأوهام، كأن الأمر يتعلق بعقل جمعي، يشتغل بآليات داخلية تتغذى من سلط خفية تعمل على مساحة أوسع كسلطة المال والنفوذ والتعالي الفردي.. وهو ما يحول الشارع العام إلى حلبة للاستعراض. وإذا انضاف إلى هذا، استعراض آخر لجحافل المتسولين والعاهرات... اختلطت الأوراق وطمس الشارع الذي يبدو غريبا في وجه المارة كلما احتوى على تظاهرة متحلقة حول شيء ما أو مطلب أو متحلقة حول نفسها فقط. إن آليات الاشتغال هاته، تولد النمط على الكثير من المستويات، فالفرد لا مجال ولا حدود له في علاقته بنزواته التي تجرف ضحايا وقد تفسد محيطا. والجماعة لم تتحرر بعد من نمط القبيلة، فتعددت القبائل التي تدخل التاريخ من بابه الواسع. وهو ما يحول الفرد جماعة، والجماعة فردا، وبين هذا وذاك تضيع القيم النبيلة؛ ليسود الاكتساح والبلع «الممنهج». أمام فورة اليومي بمفارقاته وتناقضاته ضمن «تخليطة» على الطريقة المغربية. أمام شارع لاهث، لا يلتفت، مدفوع بالرغبة المنتفخة والآنية الموصدة دون غد مهما كان الأمر، وفي نفس الآن موصد على نفسه الممرغة في وحله اللذيذ! ضمن هذا الحال، فالمبدع على سماحة خلقه، لا يملك غير جسده للتخيل وإعادة البناء والهوس بعالم داخلي متراخي في الرمز إلى ما لا حدود. لأن لا خيوط ممتدة لهذا الجسد حتى يكون له شارع. فالناس تلتفت وتنعطف حول مشعوذ أو دجال.. وهم أعرف بهؤلاء أكثر من أسماء وأسمال الكتاب. فليتحرر هذا الأخير من أوهامه، وليعلم أن الكل أفرادا ومؤسسات في غنى عنه، عن صوته الخفيض ومساحته المنكمشة.. آنذاك بإمكانه أن يتصالح مع نفسه التي عودها الترويض والتكيفات والقفز في الحلبات للوصول حيث لا أدب. ويعود لأسماله الإبداعية التي لا تنجرف لأنها اختارت العمق الإنساني الساري في الكينونة كقيم غير عرضية . يغلب ظني أن علاقة المبدع بما يكتب، من الأسئلة الحارقة اليوم، نظرا لتبدلات اجتماعية وثقافية، تجعل المبدع «يركب» على ما يكتب لوصول ما. وفي المقابل يصر على إبداعيته ونصه. أحيانا يحاسب الإبداع صاحبه بمقول هو ملك إنساني. وهل يمكن أن نحاسب المبدع من خلال إبداعه؟؟ ممكن جدا دون تسلط النقدة. لكن في الغالب تترك القيم الإبداعية والثقافية في الخلف ؛ وتحث الخطى إلى الأمام بعدات أخرى بكامل الديمقراطية والحساب الدقيق!