لتبرير الزيادة في الأسعار، صرح وزير الشؤون العامة والحكامة محمد الوفا في البرلمان في يونيو المنصرم بأن هذه الإجراءات تتوخى تفادي الانكماش الاقتصادي. هذه مغالطة بامتياز كما سنرى في هذا الاستفهام. المركز المغربي للظرفية (راجع النشرة الشهرية للمركز- نونبر 2014) تحدث، من جهته، عن شبح الانكماش على ضوء ما يجري في الدول الغربية على أساس انخفاض أسعار المواد الغذائية أو المتعلقة بالاستهلاك. مقاربة المركز المذكور لا تروم الصواب إذا علمنا بأن الانكماش، كما تتداول ذلك منظومة السوق، هو انخفاض بشكل متواصل (لفترة لا تقل في الأدنى عن ستة أشهر) لكل الأسعار دون استثناء (وهو عكس التضخم). بخلاف ذلك، فالوضع الاقتصادي يتسم بالتضخم كما سنرى من خلال قراءة ذكية للأوضاع التي تعرف ارتفاعا مهولا للأسعار وغلاء للمعيشة التي تنهك كاهل الطبقات الشعبية، دون استثناءِ ما يسمى الطبقة المتوسطة. أكثر من ذلك، فالمركز إياه تحدث، من ناحية أخرى، عن تقلص أو تشنج الحركة الاقتصادية، لكن ليس بسبب الانكماش كما يزعم أصحابه إن كان هناك انكماش يذكر وإنما بسبب مشاكل الفساد والتبعية للدول الإمبريالية، وهذا الذي لم يتجرأ اقتصاديو المركز المذكور على الجهر به. أكثر من ذلك، فارتفاع الأسعار تفاقم، خصوصا بعد الرفع من المحروقات مرتين في أقل من سنة (2013) تحت ضغط صندوق النقد الدولي الذي فرض على حكومة بنكيران نهج سياسة تقشفية -كما تملي ذلك سياسة حقيقة الأثمان والمقايسة- في مواجهة العجز الموازناتي، وهو ما دفعها إلى تجميد الأجور الذي أثر سلبا على القوة الشرائية. أشير إلى أن انخفاض سعر المحروقات مؤخرا لا قيمة له، لأن السوق العالمية هي التي تتحكم فيه وليس الحكومة التي لا تتوفر على سياسة عمومية مستقلة بل تبقى أسيرة تقلبات الأسعار العالمية. الواقع في المغرب يقول إن الأسعار لا تتوقف عن الارتفاع، سواء تعلق الأمر بمواد الاستهلاك كالماء والكهرباء اللذين تم الرفع من سعرهما بتلك الطريقة التي تجهز على القدرة الشرائية، نفس الإيقاع تعرفه الزيادة في مواد أخرى كالنقل والسكن، دون الحديث عن المواد الغذائية. من جهة أخرى، إن كان انخفاض المواد الغذائية صحيحا، وهو ليس كذلك، فإن مركز الظرفية كان يكتفي بالقول إن شبح انكماش قطاعي أو جزئي يهدد الاقتصاد المغربي. في المقابل، تنشر مديرية الدراسات والتوقعات المالية معطيات (راجع نشرة الظرفية عدد دجنبر 2014) تقول العكس، أي أن الظرفية الاقتصادية تفند الإصلاحات التي تقوم بها الحكومة وأن وضع الاقتصاد المغربي مريح فيما القوة الشرائية تأخذ مجرى لا يدعو إلى القلق بفضل انخفاض طفيف للأسعار، بمعنى أن الانكماش غير وارد. وفضلا عن ذلك، نقرأ في منشورات هذه المديرية أن سنة 2014 عرفت تحسنا كبيرا على مستوى التشغيل؛ بمعنى أنه ليس هناك، في تصور هذه المديرية، تضخم ولا انكماش بالمغرب؛ وإن كان معدل النمو متواضعا جدا فإن الاقتصاد المغربي في وضع يسمح له بأن يصنف ضمن مجموعة الدول الصاعدة؛ وهي، في اعتقادي، مجرد هلوسة ذهنية تنضاف إلى أطروحة المركز المغربي للظرفية الذي لم يأت بجديد باستثناء أنه قام بإسقاط تحليلٍ ومنهجيةٍ رأيا النور في الغرب على حالة المغرب انطلاقا من فرضيات رياضية وإحصائيات لا تترجم الواقع وتوظَّف لأغراض سياسوية وطبقية كما سبق أن أشرت إلى ذلك في موضوع سابق. لم ينتبه أصحاب المركز إياه، كما هو الحال بالنسبة إلى الحكومة أيضا، إلى أن اقتصاد المغرب، كباقي اقتصادات الدول التابعة، يعاني من عشوائية في الضبط، إذ إن الدولة لا تتوفر على الاستقلالية في تدبير السياسات العمومية، ومنها سياسة الأسعار، كما هو الأمر في الدول الغربية بحكم أن هذه الاقتصادات تتحكم فيها أوليغارشيات بتواطؤ مع الشركات العابرة للقارات من خلال احتكارات القلة، وهو ما يعرض الاقتصاد المغربي لضبط عشوائي ولفوضى مستمرة ينتج عنهما فساد من كل الأشكال، يتفاقم حد السيبة. إن اقتصاد المغرب يتعرض باستمرار لسياسة تكييف مبرمج مسبقا من لدن صندوق النقد الدولي وباقي المؤسسات المالية الدولية. وهذه الهيمنة ُمتعددةُ الأطرافِ لا تترك المجال لسن سياسة نقدية وموازناتية منبثقة من اختيارات سياسية وطنية مستقلة. الوصفة التي يسوق لها المركز المغربي للظرفية لعلاج الوضع في المغرب هي توفير آليات لضبط الاقتصاد من خلال تخليق السوق، لكن مديره لا يتوقف في ذات الوقت عن شن حرب على حكومة بنكيران من خلال الصحف، ومنها صحيفتا الحزب الذي ينتمي إليه. وهذه مفارقة غريبة، أي أن الدكتور المالكي يقدم نفسه خبيرا عندما يتعلق الأمر بتدبير المقاولة، لكنه من جهة أخرى يوظف الملف سياسويا؛ وفضلا عن ذلك فقد نسي الأستاذ المالكي أنه كما لا أخلاق في السياسة فإنه لا أخلاق في الاقتصاد أيضا مع الأسف، وأن المصالح هي المعادلة التي تتأسس عليها العلاقات بين الأفراد وبين الجماعات. إشكالية الانكماش الاقتصادي في المغرب تفترض، كباقي الإشكاليات الاقتصادية الأخرى، معالجة تتجاوز الأفكار السهلة والاستهلاكية والمناسباتية والبديهيات. ومعنى ذلك أن الانكماش الاقتصادي في دول الجنوب، ومنها المغرب، يستدعي معالجته خارج المنظومة الاقتصادية المهيمنة لأن شكل الانكماش الذي نتعامل معه هنا يختلف عن شكله في البلدان المتقدمة أو قل الدول الإمبريالية. وهذا المشكل المنهجي سبق أن أثاره من قبل منظرون متنورون من عيار كبير ولا مجال هنا للغوص فيه، وأكتفي فقط بذكر أنه تم التأسيس لنقد اقتصاد سياسي أصبح مرجعية فكرية نافس عبرها الاقتصاد البورجوازي بل تجاوزه إلى حد أن بعض منظريه أصابتهم الهستيريا. لقد ساهم منظرو نقد الاقتصاد السياسي بشكل قل نظيره في تفسير واقع وتاريخ تكوين الدول المتخلفة التي كانت نتيجة هيمنة الإمبريالية في شكليها القديم والجديد. لكن مع التحولات التي جاءت وهيمنة الفكر الأحادي، بما فيه نهاية التاريخ والإيديولوجيات، إضافة إلى سخرية التاريخ، أدت إلى تراجع الفكر المتنور. أعود إلى الانكماش الاقتصادي لأقول إنه يستدعي التعامل مع هذه الظاهرة الأزمتية على أساس التوفر على بنية اقتصادية مستقلة حتى يكون الأداء الاقتصادي أداء طبيعيا. الاقتصاد المغربي، كاقتصاد تابع، لا يسمح بمعالجة هذه الظاهرة (الانكماش الاقتصادي) بالشكل الذي تتم معالجتها به في الدول المتقدمة التي توفر شروط أداء اقتصادي طبيعي كاقتصاديات ممركزة على الذات وليس كما هو عليه الحال في دول الجنوب التي تعاني من التقويم النقدي والموازناتي المفروض من الدول الإمبريالية بتزكية وتواطؤ من الأنظمة الاستبدادية والأوليغارشيات المحلية والطبقات المستفيدة من الوضع القائم، مما يجعل التقلبات العشوائية للاقتصادات التابعة صعبة الفهم، لأن هذه العشوائية ناتجة عن إرادة لا تتحكم فيها السلطات المحلية بل القوى الخارجية، أي الإمبريالية، وهو ما يجعل العدوى تتحول بشكل سريع من هذه الأخيرة إلى الأولى. إن مفهوم الانكماش الاقتصادي المتداول عندنا اليوم هو مفهوم مستورد، وللاستهلاك ليس إلا؛ مما يستدعي تجاوز الوصفات الجاهزة والأفكار السهلة وإحلال إنتاج المعرفة النقدية محلها، لأن هذه الأخيرة وحدها القادرة على فك الرموز والألغاز. وهذا الوضع الشائك يتطلب تجاوزه بفضل التأسيس لبنيات تسمح بالتحكم في الاقتصاد وضبطه بالشكل الذي يخدم متطلبات التنمية الوطنية وتوفير شروط تداول سياسة الأسعار بشكل يسمح بتقويم نقدي وموازناتي لأجل تدبير وتسيير محكم للميكانزمات الاقتصادية. بعض المفكرين ذهبوا إلى القول إن الاعتماد على الأسعار الإسمية والنسبية في تحديد السياسة النقدية، ومنها الانكماش الاقتصادي، يؤدي إلى عدم فهم ما يجري، وبالتالي يترك الأمور مبهمة؛ وإن المطلوب هو معاينة الواقع على ضوء الاقتصاد الحقيقي، مما يدعو إلى الانفتاح على أشكال أخرى من الآليات تستدعي مقاربة تتجاوز منظومة السوق في شكلها المبتذل. إن منظومة الأسعار الإسمية والنسبية في ما يتعلق بالدول التابعة كالمغرب تخلق أتعابا كبيرة لهذه الدول، فهي لا تقوى على تفسير الوضع لأنها لا تترجم إلا الوجه الشكلي، بل الخادع، حيث إن الاقتصاد تابع ويبقى ضبطه أسيرَ الارتباط العضوي بالدول الإمبريالية؛ وهو ما يجعل التحكم في الاقتصاد في هذه الظروف والشروط غير ممكن. وفضلا عن ذلك، يلعب التمسك بالاختيارات السياسية التي تخدم المصلحة العامة دورا طلائعيا لمعرفة ما يجري على المستوى الاقتصادي. زوبدي أحمد